بمناسبة تدشين المسرح الوطني السعودي التمثيل في المدينة المنورة لأول مرة عام 1910 (1)

بمناسبة تدشين المسرح الوطني السعودي التمثيل في المدينة المنورة لأول مرة عام 1910 (1)

العدد 649 صدر بتاريخ 3فبراير2020

بمناسبة تدشين وزارة الثقافة السعودية لأعمال المسرح الوطني في المملكة العربية السعودية يوم 28 يناير الماضي، أنشر هذا الموضوع اليوم وبعنوانه الأصلي – دون أي تعديل أو تغيير أو حذف أو إضافة - حيث إنه نُشر من قبل ورقياً في مجلة كواليس الإماراتية عدد 39 بتاريخ فبراير 2015، ونُشر بعنوان مختلف، وهو (المدينة المنورة الأسبق خليجياً في عرض أول مسرحية)!!
تمهيد
معظم الدراسات المسرحية الخليجية القديمة – في شبه الجزيرة العربية - أجمعت على أن مملكة البحرين هي الأسبق خليجياً في عرض أول مسرحية مدرسية عام 1925، عندما عرضت مدرسة الهداية الخليفية مسرحية (القاضي بأمر الله)! أما الدولة الخليجية الثانية، فكانت الكويت من خلال عرض مدرسة المباركية لمسرحية (إسلام عمر) عام 1939. وظل هذا الاعتقاد – أو الإجماع - حتى وقت قريب؛ حيث اكتشفت الدراسات الحديثة نصاً مسرحياً كويتياً منشوراً عام 1924 في بغداد لمسرحية (المحاورة الإصلاحية) تأليف عبد العزيز الرشيد، ويُقال إن هذه المحاورة عرضتها المدرسة الأحمدية في الكويت عام 1922 أو عام 1924! وهذا الاكتشاف جعل الكويت هي الأسبق في هذا المضمار!
وربما عرض المحاورة يُطعن في مصداقيته؛ بوصف النص محاورة وليست مسرحية! أو بسبب التضارب في تاريخ العرض هل هو 1922 أو 1924، ناهيك عن عدم وجود النص بين أيدينا، وعدم حماس المختصين – الذين اكتشفوه - بنشره مرة أخرى، والاكتفاء بالحديث عن صورة منه، مصورة عن أصل محفوظ في إحدى مكتبات بغداد منذ عام 1924 .. إلخ! لذلك ستظل الأسبقية متأرجحة بين البحرين والكويت .. أيهما الأسبق في عرض أول مسرحية مدرسية؟!
في هذه الدراسة، سأحسم الأمر بين الدولتين في هذا المضمار، وأقول: لا البحرين أسبق .. ولا الكويت أسبق .. بل الأسبق خليجياً (المدينة المنورة)!! حيث إنها أول مدينة في الجزيرة العربية تعرض مسرحية جماهيرية داخل مدرسة عام 1910 .. ولا أظن أن هناك دولة خليجية تستطيع أن تأتي بدليل على أسبقيتها في العروض المسرحية قبل عام 1910 .. هذا هو اكتشافي المسرحي الجديد .. وإليكم التفاصيل!!
يعقوب لنداو والمسرح الخليجي
في عام 1958 أصدر يعقوب لنداو (Jacob Landau) كتاباً بالإنجليزية عنوانه (STUDIES IN THE ARAB THEATER AND CINEMA). وهذا الكتاب ترجمه أحمد المغازي ونشره في مصر عام 1972 تحت عنوان (دراسات في المسرح والسينما عند العرب). والحق يُقال: إن هذا الكتاب هو أول كتاب عن المسرح العربي باللغة الإنجليزية منشور في الغرب، ويُعد حتى الآن المرجع الرئيسي لأغلب الدراسات الأجنبية حول المسرح العربي! وبالرغم مما فيه من أخطاء تاريخية - وخلط بعض الأمور بصورة غير منطقية - إلا أن ترجمته العربية، أصبحت مرجعاً مهماً في كتاباتنا العربية حول المسرح العربي وتاريخه.
وفي هذا الكتاب تحدث المؤلف عن بدايات المسرح العربي في لبنان وسورية ومصر بصورة تفصيلية، ثم تحدث إجمالاً عن بدايات المسرح في بقية البلاد العربية تحت عنوان (المسرح العربي في البلاد الأخرى). وفي هذا الإجمال خصّ البلدان الخليجية بصفحة واحدة، قال فيها الآتي في ص(179):
“وفي المملكة العربية السعودية واليمن، كما في الإمارات العربية الأخرى، نجد أن الشعور الديني، لا يزال يقبض على مجريات الأمور، بإحكام شديد، إلى حد أن المسرحيات لا تزال تؤدى فيما يندر جداً، وينهض بها الهواة وحدهم، وقد حدث في عام 1910، عندما نظمت إحدى المدارس الصناعية، بجدّة، إقامة عرض مسرحي، يخصص إيراده لأغراض الإحسان، حدث – أن أثار هذا عجباً كبيراً .. وبدا آنذاك أن هذه المحاولة لن تكون لها لاحقة. (وكانت المسرحية تتحدث عن أهوال الحكم الاستبدادي وجوره. ومزايا الحكم الدستوري وما ينتظر منه من نفع، في ظلال من روح العصر) [وهنا وضع المؤلف هامشاً رقمه 318]. وحتى عندما حاول كاتب من المملكة العربية السعودية، ونعني هنا بالذات علي أحمد باكثير (وهو الذي حقق شهرة واسعة بعد ذلك، بخصوبة إنتاجه ككاتب مسرحي)، أن يكتب مسرحيته الأولى، كان عليه أن يصدرها في القاهرة 1934، وكان اسم هذه المسرحية (همام أو في عاصمة الأحقاف). وقد نُظر إلى هذه المسرحية على أنها شيء خطير في الموطن الأصلي للمؤلف. ولم يكن هذا فقط، بسبب قالبها المسرحي الذي وضعت فيه، ولكن لأنها أيضاً كانت تدعو إلى التعليم العام للمرأة العربية، التي بسبب أميتها، يفسر لنا المؤلف: لماذا يعيش أهل بلده في هذا المستوى الهابط”.
الشك في المعلومة
هذا الكلام قرأه كل أجنبي في نسخة الكتاب الإنجليزية منذ عام 1958، كما قرأه كل عربي في نسخة ترجمة الكتاب إلى العربية منذ عام 1972. وكل من قرأ هذا الكلام حكم عليه – كما تحكم أنت عليه الآن أيها القارئ – بأنه كلام غير صحيح والخلط فيه واضح وجلي؛ لأن المؤلف يتحدث عن علي أحمد باكثير بوصفه أشهر كاتب مسرحي في المملكة العربية السعودية، والمعروف أنه (يمني)! وهذا الخلط جعل القارئ لا يثق في مصداقية بقية كلام المؤلف عن المسرح في دول الخليج العربية، وتحديداً زعمه بأن إحدى المدارس الصناعية في (جدّة) أقامت عرضاً مسرحياً عام 1910، لذلك لم يلتفت أي باحث إلى هذه المعلومة، وحكم عليها بالخطأ دون دراستها أو التحقق من مصداقيتها! هذا من جانب، ومن جانب آخر سيقول هذا الباحث في خاطره: من المؤكد أن الباحثين السابقين تأكدوا من خطأ المعلومة، فلم يهتموا بها، لذلك سأتجنبها ولم أهتم بها أنا أيضاً!
الطريف في الأمر أن من سيحاول التحقق من هذه المعلومة سيتعجب من المرجع، الذي اعتمد عليه المؤلف في كتابتها! فالهامش الذي وضعه عند هذه المعلومة، وهو الهامش رقم (318)، كتب فيه المؤلف الآتي: “انظر (R.M.M) – جريدة العالم الإسلامي – بالفرنسية – مجلد 12 – عام 1910 – ص 306 و307 – نقلاً عن جريدة (المؤيد)، عدد 19 مارس عام 1910”. وأي باحث سيقرأ هذا الهامش سيتأكد من صعوبة الوصول إلى هذه المصادر أو المراجع، ولن يكون أمامه إلا أحد طريقين: الأول، تجنب المعلومة نهائياً وكأنه لم يقرأها، مستنداً إلى كثرة أخطاء الكتاب، وخلط المؤلف بين السعودية واليمن، واعتبار باكثير مؤلفاً سعودياً، وهذا الطريق سلكه معظم الباحثين حتى الآن. أما الطريق الآخر، فهو اعتماد المعلومة بوصفها معلومة صحيحة أو خاطئة، وهذا الطريق لم يسلكه أي باحث حتى الآن  - حسب علمي – لأن سلوك الباحث هذا الطريق، يستوجب منه التحقق من صحة أو خطأ المعلومة عن طريق البحث في المراجع والمصادر المذكورة، وهو الأمر الذي لم أجده عند الباحثين حتى الآن!!
وإحقاقاً للحق سرت أنا في الطريق الأول ضمن من تجنبوا المعلومة نهائياً، ولم أفكر في الطريق الثاني إلا منذ عام تقريباً، عندما كنت مكلفاً – من قبل أحد الأندية الأدبية السعودية – بإلقاء بحث حول عالمية المسرح السعودي. وعندما شرعت في التحضير لهذا الموضوع، بدأت بكتاب يعقوب لنداو، بوصفه أول كتاب أجنبي ذكر المسرح في السعودية، حتى ولو عن طريق الخلط بين السعودية واليمن. وهنا استوقفتني معلومة العرض المسرحي في جدّة عام 1910، فقررت أن أسير في الطريق الثاني .. طريق البحث والتحقق من صواب أو خطأ هذه المعلومة!
مجلة العالم الإسلامي الفرنسية
كان اعتماد يعقوب لنداو في معلومة العرض المسرحي على مرجع أجنبي رمز له بهذه الحروف (R.M.M). وفي قائمة مصادر ومراجع الكتاب، وجدت هذه الحروف اختصاراً لعنوان مجلة (Revue du Monde Musulman)، أي (مجلة العالم الإسلامي)، وهي مجلة فرنسية، واعتمد عليها المؤلف في مجلدها الثاني عشر عام 1910. ومع العودة إلى هامش المؤلف وجدته يقول عن المجلة الفرنسية: “ نقلاً عن جريدة (المؤيد)، عدد 19 مارس عام 1910”. أي أن المؤلف يعقوب لنداو، نقل معلومة العرض المسرحي الذي أقيم في جدّة عام 1910 من مجلة العالم الإسلامي الفرنسية الصادرة عام 1910، التي كتبت المعلومة نقلاً عن جريدة (المؤيد) المصرية في عددها المؤرخ في 19/3/1910. إذن أساس المعلومة هو جريدة (المؤيد) لا مجلة العالم الإسلامي الفرنسية، التي اعتمد عليها لنداو!! أي إن يعقوب لنداو لم ينقل عن جريدة (المؤيد) – المصدر الأول للمعلومة – ونقل بالوساطة من المرجع الفرنسي، الذي اعتمد على جريدة المؤيد!! إذن الوصول إلى عدد جريدة (المؤيد) المصرية بتاريخ 19 مارس 1910 سيحسم الأمر!!
ذهبت إلى دار الكتب المصرية، وبحثت في قسم الدوريات – وما أدراك صعوبة البحث في هذا القسم – ووصلت إلى بعض أعداد من جريدة (المؤيد) – المفقودة أغلب أعدادها - في عام 1910، ووفقني الله أخيراً في الحصول على العدد المطلوب المؤرخ في 19 مارس 1910؛ فالتهمت جميع صفحاته بعناوينها وسطورها وكلماتها وحروفها .. فلم أجد شيئاً عن العرض المسرحي الذي عرضته إحدى مدارس جدّة! ولم يبق أمامي سوى مجلة العالم الإسلامي الفرنسية (Revue du Monde Musulman)؛ كي أتحقق بنفسي أنها ذكرت خبر هذا العرض المسرحي، وأنها بالفعل نقلته من جريدة (المؤيد)!!
بعد عناء كبير جداً حصلت على جريدة العالم الإسلامي الفرنسية، ووصلت إلى السنة المطلوبة والصفحات المقصودة في مجلد عام 1910، فماذا وجدت؟! وجدت تحت عنوان (A Médine المدينة المنورة) عشرة أسطر باللغة الفرنسية، تحكي – على لسان محمود علي شويل - عن عرض مسرحي أُقيم في المدينة المنورة – وليس في جدّة – أقامته لجنة الاتحاد والترقي في إحدى المدارس الصناعية برئاسة طاهر بك، والعرض يتحدث عن الحكم الاستبدادي قبل إعلان الدستور، ودخول الجمهور كان على درجات ثلاث، واستغرق العرض ثلاث ساعات، لأنه عرض خيري بمقابل مادي .. إلخ الموضوع المنشور بالفرنسية، وهذا نصه:
A Médine. Mahmoûd ‘Ali Showayl raconte au Moayyad (19 mai) deux fêtes récentes. L’une, la “première représentation théâtrale “ (sic) qu’ait vue la ville du Prophète, qui ne l’avait sans doute pas prévue. Le comité  local “ Union et Progrès “ sous la présidence de Tâhir Bey, directeur de l’École professionnelle, fit jouer une pièce sur les horreurs du Despotisme et les splendeurs de la Constitution. Premières places, I guinée par tète; deuxièmes et troisièmes, “ moins “ (sic). Après trois heures de spectacle, les spectateurs se retirérent, poliment enthousiasmés de la troupe improvisée, et 200 guinées restèrent au bénéfice de l’École. “Qu’Allah recompense les gens de bien au mieux de ses recompenses ...”.
جريدة المؤيد والاكتشاف التاريخي
وبناءً على النص الفرنسي، يتضح لنا أن الخبر صحيح؛ ولكن تاريخه هو الخطأ!! فالمجلة الفرنسية نقلت الموضوع من جريدة (المؤيد) عدد 19 مايو 1910، وليس 19 مارس كما كتب يعقوب لنداو!! فعدت إلى دار الكتب مرة أخرى، لأجد عدد 19 مايو غير موجود ضمن الدوريات الورقية؛ ولكنه موجود على (ميكروفيلم)!! وعانيت الأمرين حتى حصلت على صورة العدد، وبالتالي حصلت على الاكتشاف التاريخي، وهو خبر العرض المسرحي المنشور في الصفحة الأولى من الجريدة، والذي ستقرأه وتشاهد صورته عزيزي القارئ .. الأسبوع القادم!!

 


سيد علي إسماعيل