حكيم حرب يكتب عن: مسرح الرحالة

حكيم حرب يكتب عن: مسرح الرحالة

العدد 649 صدر بتاريخ 3فبراير2020

البدايات  :
بدأت فرقة مسرح الرحالة عملها عام 1991 وكانت تحمل اسم “مختبر الرحالة المسرحي” أو “المختبر المسرحي العربي .. الرحالة” كنوع من الامتداد لتجربة الدكتور عبد الرحمن عرنوس مؤسس “مخبر اليرموك المسرحي” في جامعة اليرموك في الأردن، والذي تتلمذ فيه  معظم مؤسسي “الرحالة”، التي تغير اسمها في إحدى مراحل عملها إلى “فرقة المسرح الحي” لظروف خارجة عن إرادتها، إلى أن استقرت أخيراً على اسم “فرقة مسرح الرحالة” .
وكنوع من محاولة التأصيل للمسرح العربي والبحث عن هوية له،والسعي وراء الجديد والمبتكر، بدأت فرقة “الرحالة” عملها متأثرةً بالظواهر المسرحية العربية التي تؤرخ لبدايات المسرح العربي ما قبل مسرحية “البخيل” ل “مارون نقاش”، حيث الحكواتي والأراجوز والمقهى وصندوق العجب والعروض الجوالة،  متمردة على صالات العرض التقليدية، فقدمت عروضها المسرحية في الشوارع والمقاهي والساحات العامة، بحثاً منها عن مسرح عربي حي ومؤثر في الجماهير وأكثر قدرة على التفاعل والتغيير . ومن هنا جائت تسمية الفرقة بهذا الاسم “الرحالة”، تأكيداً منها على أن المسرح رحلة بحث وإثارة تمثل صراع الإنسان مع حقيقته ومحاولته المستمرة لكشف القناع عن وجه الحياة، وهو أيضاً اكتشاف وغزو للمجهول داخل سراديب ودهاليز النفس البشرية، ورحلة إبحار وغوص في محيطات الوجود البشري  الغامض، بحثاً عن الكنوز الدفينة، وأملاً في اكتشاف قارات وجزر جديدة من الدهشة والجمال، فخشبة مسرحنا سفينة تقتحم أعتى الأمواج لترسو فوق شواطئ المعرفة والحقيقة والإدراك .
وقد سبق تأسيس فرقة مسرح الرحالة رحلة بحث ومغامرة واكتشاف قام بها المخرج “حكيم  حرب” لوحده عام 1988 من الأردن إلى مصر للحاق بمعلمه الفنان المصري الدكتور “عبد الرحمن عرنوس” مؤسس مختبر اليرموك المسرحي في جامعة اليرموك في الأردن في الفترة (1983-1987) حيث تتلمذ “حكيم” على يديه، بعد أن كان شغوفاً بدراسة البحرية في اليونان، ذلك الشغف الذي ترجمه بدراسة المسرح عندما التقي بالدكتور “عرنوس” وقال له بلهجته المصرية المحببة “عايز تبقى بحار اطلع على خشبة المسرح وانت تكتشف البحر الحقيقي”، ومن يومها وجد “حكيم” ضالته المنشودة واكتشف بحره الأرحب والأعمق، فأصبح المسرح بالنسبة له رحلة إبحار لاكتشاف الآلىء المدهشة وللوصول إلى جزر المعرفة وقارات الجمال، وعندما غادر الدكتور “عرنوس” الأردن عائداً إلى بلده مصر، ركب “حكيم” البحر من ميناء العقبة الأردني باتجاه ميناء “نويبع” المصري وصولاً إلى القاهرة، وفي الطريق قدم فوق السفينة التي أقلته عرضاً لمونودرما “كاليجولا” من تأليف الفرنسي “البير كامو”، التي طاف بها في عدة مدن مصرية بدعوة من جمعية هواة المسرح . وعند عودته من مصر شرع بإقامة ورشة مسرحية لعدد كبير من الشباب المتحمسين للمسرح آن ذاك، بهدف استقطاب جيل جديد من عشاق المسرح واستثمار طاقاتهم الإبداعية والعمل على تخليصهم من شوائب الأداء التقليدية ومن ترسباته الحركية والصوتية للوصول إلى ما يطلق عليه “جروتوفسكي” بالممثل المقدس والعاشق والنبيل  وكان من ثمار هذه الورشة تأسيس فرقة مسرح الرحالة، التي حملت آن ذاك اسم “مختبر الرحالة المسرحي، وانطلق الرحالة في تقديم أعمالهم المسرحية: أغراب، المتمردة والأراجوز، هاملت يصلب من جديد، الشوك اللي في الورد .
مسرح الصورة:
وبعد سلسلة من العروض المسرحية التي قدمناها في إطار ما يسمى بمسرح المقهى ومسرح الشارع، وبعد رحلة اكتشاف وغوص في المسرح عملنا خلالها على تقديم عروض مسرحية معدة عن نصوص عربية وعالمية التزمنا خلالها بالمحافظة على فكرة الكاتب وبنائه الدرامي مع محاولة الباسهما ثوب البيئة العربية خدمةً لمشروع التأصيل وهاجس الهوية، وبعد سلسلة من المشاركات المسرحية مع عدد من المخرجين والفرق المسرحية المحلية والعربية،
 وبعد العديد من الورش والمشاركات المسرحية في المهرجانات المسرحية العربية التي كان لها كبير الأثر في إثراء تجربتنا المسرحية، حط الرحالة رحالهم داخل المسرح وبدأنا رحلة اكتشاف فضائه المدهش، وأدركنا أن الخشبة بإمكانها أن تختزل العالم كله، وأن فضائها الرحب قادر على أن يكون فضاءً كونياً شاملاً، دون الحاجة للبحث عن فضاءات جديدة في الشارع والمقهى، وتحررنا من هاجس الهوية والتأصيل مؤمين بأن المسرح ولد إغريقياً ثم انتقل الينا كعرب مثلما انتقل الى بقية الأمم، وأنه فن إنساني يعنى بهموم الإنسان في كل زمان ومكان، بغض النظر عن الجنس والعرق واللون، وهكذا بدأنا نقتحم عالم مسرح الصورة، وقدمنا عدة أعمال منها  :
ميديا، ملهاة عازف الكمان، كوميديا حتى الموت، مكبث، مأساة المهلهل، خشخاش، نيرفانا .

التحول من الأسطوري إلى الواقعي ومن التراجيدي إلى الكوميدي :
كانت مسرحية “نيرفانا” رأس الحكمة المسرحية بالنسبة لنا، فشكلت بالنسبة لنا نقطة تحول جذرية، فمثلما أدرك بطل نيرفانا الجواب المطلق الذي جعل روحه تنعم بالسكينة فتصالح مع كافة مكونات الوجود ولم يعد يصارع ضد مصيره، أدركنا نحن جوابنا المسرحي فتصالحنا مع كافة أشكال المسرح الأخرى التي كنا نصارع ضد وجودها لأنها تعمل على النقيض مما نعمل ونفكر، فتعلمنا أن كل ما في المسرح جيد وجميل ولا يحتاج ألالموافقتنا وقبولنا، ويستحق أن نجربه . ومثلما تعلم بطل “نيرفانا” من المراكبي البسيط سر الحياة، تعلمنا من الجمهور الشعبي والبسيط سر المسرح، فأدركنا أن هذا الجمهور هو الركيزة الأساسية لنجاح أي عرض  مسرحي، وبأن مسرح بلا جمهور يعني الرقص في الظلام، فإذا لم يكن الجمهور متدفقاً على أبواب المسارح كتدفق النهر في نيرفانا فإننا سنبقي بعيدين عن الحكمة المسرحية، وهنا بدأنا نتسائل عن جدوى تقديم مسرح الصورة أو “مسرح ما بعد الدراما” للجمهور العربي، وحول حقيقة وصول الجمهور العربي لمرحلة القدرة على تذوق واستيعاب رؤى اخراجية لمسرح الصورة وما بعد الدرامي، بينما لا زال ذاك الجمهور في مرحلة محاولة تذوق واستيعاب مسرح الكلمة والمسرح الدرامي ذاته .
انعكاسات الربيع العربي في تجربة الرحالة:
ان التحولات الدراماتيكية السريعة التي أحدثها الربيع العربي مؤخراً لم تخطر ببال كبار كتاب المسرح في العالم بما فيهم “وليم شكسبير” الذي تعج مسرحياته بقصص تراجيدية حول النهايات المأساوية التي وصل اليها أعتى القياصرة والأباطرة عبر التاريخ، مثل يوليوس قيصر، مكبث، ريتشارد الثالث وهنري الرابع . لذا فأن الواقع العربي غدا أكثر مأساوية وغرائبية من المسرح، مما جعلنا كمسرحيين عاجزين عن تقديم قصص وأحداث وموضوعات درامية قادرة على منافسة قصص وأحداث وموضوعات الواقع العربي المعاش، العالم . وهنا بدأنا كمسرحيين رحالة رحلة التحول من الأسطوري إلى الواقعي، ومن التراجيدي الى الكوميدي، وبدأنا نرى أننا بحاجة إلى نوع جديد من المسرح لا يعمق الإحساس التراجيدي لدى المتلقي العربي - الذي أتخم بكم هائل من الحالات التراجيدية التي يعجز عن تخيلها كبار المسرحيين – بل أن يأخذ موقف الساخر والمتهكم على هذا الواقع الذي لم يزهر ربيعه خيراً ورفاهية وسلام على شعوبه، بل تفجر دماً ودموعاً وويلات، لا زالت حممها تتطاير حتى الان . وبنفس الوقت فإننا لم نعد نريد للمسرح أن يتناول قضايا وجودية وميتافيزيقية وسوريالية بعيدة عن الواقع الملتهب الذي يعيشه المواطن العربي، المتمترس وراء شاشات التلفزة ليل نهار، لمتابعة الأحداث السياسية الجسام التي تجري كل يوم، ولا وقت لديه للتفكير في حل مشكلة “جودو” لمعرفة ما اذا كان سيأتِ أم سيطول انتظاره، ولا الصبر على تأمل “سيزيف” وهو يكرر حمل الصخرة إلى قمة الجبل ودحرجتها إلى قعر الوادي ومن ثم معاودة حملها من جديد، ولا البكاء بحرقة على المصير المأساوي الذي لقياه العاشقان الرومانسيان “روميو وجولييت”. ومن هنا كان الانعكاس الأقوى للربيع العربي متمثلاً بمغادرتنا كرحالة للقضايا الفلسفية والذهنية والعبثية، التي تزخر بها النصوص المسرحية العالمية، مثل نصوص “البير كامو” و “جان بول سارتر” و “ صموئيل بيكيت” وغيرهم، واقترابنا من نبض الشارع  العربي وهموم الناس وقضاياهم المصرية، فقدمنا مسرحيات واقعية ضمن قالب كوميدي وتهكمي ساخر مثل  : عرائس فوق مسرح متوهج، عصابة دليلة والزيبق، ليلة سقوط طيبة وجنونستان . وكان لنا مبادرات مسرحية مغايرة مثل  : مسرح المقهى ومسرح السجون والمختبر المسرحي الجوّال الذي أقمناه بالتعاون مع وزارة الثقافة وبدعم ورعاية منها، وقد سبق لعروض مسرح الرحالة أن حصلت على جوائز هامة في الأردن وفي مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي ومهرجان قرطاج في تونس ومهرجان بغداد ومهرجان البحر الأبيض المتوسط في إيطاليا .
خلاصة رحلة الرحالة:
صحيح أننا بحاجة لنوع جديد من المسرح يتجاوز السائد والمألوف، مسرح يسبق أو يتجاوز المسرح الدرامي بمعناه التقليدي، لكن على هذا المسرح أن يمتلك تلك القدرة على التفاعل مع أرواح البشر بشكل عفوي وبسيط وعميق في نفس الوقت، فكما يقول “ غسان كنفاني” :
“ليس بالضرورة أن تكون الأشياء العميقة معقدة ولا أن تكون الأشياء البسيطة ساذجة” فما يجب البحث عنه اليوم هو مسرح يقول الأشياء العميقة بمنتهى البساطة .

بيان مسرح الرحالة تقديمه في المؤتمر الفكري الذي أقيم خلال فعاليات الدورة الثانية عشرة لمهرجان المسرح العربي في العاصمة الأردنية عمان.

 


حكيم حرب