المسرح والحرب في الفكر الإنساني بدايات المسرح في مصر نموذجا (1)

المسرح والحرب في الفكر الإنساني بدايات المسرح في مصر نموذجا (1)

العدد 607 صدر بتاريخ 15أبريل2019

هذا البحث، قدمته في ندوة «المسرح والحرب» بمهرجان الكويت المسرحي الخامس عشر عام 2014؛ ولعل أغلب من سيقرأ عنوانه، سيتبادر إلى ذهنه الحديث عن الحرب العالمية الثانية؛ بوصفها آخر الحروب العالمية، التي تناولها المسرح كثيرا؛ حيث إنها الحرب الأقرب تاريخا، والأوسع انتشارا، والأقوى تدميرا. وهناك من سيظن أن حديثي سيدور حول المسرحيات، التي تناولت الحروب العربية ضد الكيان الصهيوني؛ منذ نكبة 1948 مرورا بهزيمة 1967 وصولا إلى انتصارات أكتوبر 1973.. إلخ هذه التوقعات!! ولكن عنوان بحثي وتحديده ببدايات المسرح في مصر؛ ربما سيثير الفضول حول معرفة علاقة المسرح في مصر بالحرب منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى عام 1925؛ بوصفها الفترة الزمنية المحددة في البحث.
إنسانية المسرح لجرحى الحرب
أول حرب اهتم بها المسرح في مصر، كانت الحرب بين فرنسا وبروسيا (الولايات الألمانية)، التي نشبت في يوليو 1870، عندما افتتحت الأوبرا الخديوية موسمها الثاني في أكتوبر 1870، بعرض مسرحية (المحظية). ولأن مصر لا علاقة لها بأي طرف من الطرفين المتحاربين، فقد تعاملت مع الأمر مسرحيا من منطلق الفكر الإنساني الذي لا يفرق بين منتصر ومنهزم، أو بين قتيل وجريح؛ عندما قالت – مجلة وادي النيل عام 1870 - في إعلان المسرحية: «وقد جعل متحصل إيراد التياترو في تلك الليلة معدا لإعانة الجرحى والمرضى من كل الفئتين المتحاربتين في الحرب القائمة الآن بين البروسية والفرنساوية. وانتقل هكذا ربح هذه اللذات الدنيوية إلى وجه الخيرات الأخروية. ومن أراد التبرع بشيء ما غير أجرة الدخول فليسلمه إلى من هو منوط بذلك داخل باب التياترو المذكور ليقيد باسمه في دفتر مخصوص هناك لذلك». وتم العرض بالفعل، وبلغ الإيراد أكثر من سبعين ألف فرنك بفضل حضور الخديوي إسماعيل في صحبه ولي عهده الأمير محمد توفيق وشقيقه الأمير حسين، بالإضافة إلى الوزراء وكبار رجال الدولة، كما قالت المجلة.
وفي عام 1877 نشبت الحرب بين روسيا والدولة العثمانية، واشتركت مصر فيها بمجموعة من الجنود – بوصفها ولاية عثمانية – وكانت بوادر هزيمة العثمانيين واضحة – قبل انتهاء الحرب – حيث جُرح كثير من الجنود المصريين، فتشكلت ما يُسمى بـ(الجمعية الوطنية لمساعدة جرحى الحرب المصريين)، وكان من أعضائها، كما ذكرت جريدة الأهرام في يناير 1877: البارون دي منشة، وسليم عنحوري، وإسكندر قطة، والفونس دقية، وسلمون سلامة، وإبراهيم عرب، وسليم مخلع، وأحمد أمين بك. هذه الجمعية أحيت ليلة فنية مسرحية بتياترو زيزينيا، خصصت ريعها لهؤلاء الجرحى؛ حيث عرضت فرقة يوسف الخياط عرضا مسرحيا، بجانب الغناء والطرب من قبل عبده أفندي الحمولي والشيخ الليثي.
الحرب في عروض فرقة سليمان القرداحي
في عام 1886 بدأ المسرح العربي في مصر التعامل مع توظيف الحرب في النصوص المسرحية وعروضها، من خلال جورج ميرزا – محرر جريدة (الاتحاد) بالإسكندرية – عندما ألف مسرحية (زنوبيا)، التي عرضتها فرقة سليمان القرداحي بالأوبرا الخديوية يوم 30/ 3/ 1886. وقد أخبرنا بذلك أمين شميل في مقاله بمجلته (الحقوق)، تحت عنوان (إحياء آثار)! فقد ذكر لنا فحوى العرض المسرحي من خلال قصة زنوبيا التاريخية وحروبها الكثيرة من أجل ترسيخ إمبراطوريتها. والشاهد في الأمر أن العرض المسرحي انتهى بموقف صلح بين المتحاربين في إحدى حروب زنوبيا. وهذا الختام علق عليه كاتب المقال – أمين شميل – قائلا: «وكنا نود لو ختم الأمر بكمال التاريخ، وهو بعد أن دخل أورليانوس قيصر تدمر بالصلح، وخيانة أهل تدمر لمن تركهم فيها من عساكره، رجع فلاشي عسكر زنوبيا، وقتل كثيرا من الأهلين، وأسر زنوبيا معه ودخل رومه بافتخار لا مزيد عليه في مركبة جميلة الصنعة تجرها أربعة وعول، فإن هذا الختام فيه من المرائي الجميلة ما يليق بمثل التياترو المذكور».
وهنا نجد أن الكاتب في نصه، استخدم جزءا من تاريخ زنوبيا، اختتمه بانتصار لها في إحدى حروبها. أما الناقد – كاتب المقال – فكان يرغب في أن العرض المسرحي – كما رآه - ينتهي بوقوع زنوبيا في الأسر بعد حربها، كما جاء في التاريخ! وهذان الموقفان المتعارضان – بين المؤلف والناقد – يوضحان إلى أي مدى كان توظيف الحرب مثيرا للجدل في العروض المسرحية في القرن التاسع عشر في مصر!
ومن الواضح أن أمين شميل كان متابعا جيدا لعروض فرقة سليمان القرداحي، التي تخصصت في توظيف الحروب في عروضها المسرحية من أجل إبراز المعاني الإنسانية والفكر الإنساني، الذي لا يختلف عليه البشر – في هذه الفترة – حيث كتب الناقد مقالة كبيرة في مجلته (الحقوق) – أبريل 1886 - تحت عنوان (غرائب أخبار ونوادر إعصار)، حول ثلاثة عروض مسرحية لفرقة سليمان القرداحي، تدور حول الحروب اليونانية القديمة، والدروس المستفادة منها إنسانيا: المسرحية الأولى (أندروماك) تأليف راسين عن حرب طروادة، والثانية مسرحية (تليماك) تأليف الفرنسي فنالون، وتدور أحداثها حول حرب فينيقيا، والثالثة مسرحية (بكماليون ملك صور) لفنالون الفرنسي أيضا، وتدور حول حروب الأسرة الواحدة.
صلاح الدين الأيوبي المحارب الإنسان
عندما أراد سليمان الحداد أن يفتتح موسم فرقته المسرحية بصورة قوية عام 1893، أراده قويا من خلال عرض مسرحي تاريخي مُترجم؛ حيث إن الموضوعات الأجنبية المترجمة تلقى إقبالا جماهيريا كبيرا. فقام ابنه (نجيب الحداد 1867 - 1899) بتعريب مسرحية (الطلسم Talisman The) أو (التعويذة) للكاتب الإنجليزي السير والتر سكوت، وهي مسرحية تحكي قصة شجاعة صلاح الدين الأيوبي في حروبه ضد الصليبيين، وكيف استطاع بنبله وشجاعته أن يحوّل أعداءه إلى أصدقاء. وقد عرّبها نجيب الحداد تحت اسم (السلطان صلاح الدين الأيوبي مع ريكاردوس قلب الأسد)، وقدمها والده سليمان الحداد على خشبة دار الأوبرا الخديوية يوم 28/ 3/ 1893.
والطريف في أمر هذا العرض؛ إن الجمهور المسرحي العربي عرف – ولأول مرة - شخصية صلاح الدين الأيوبي بصورة مسرحية!! والغريب أن هذا التعارف جاء من خلال رؤية الكاتب الإنجليزي لهذه الشخصية العربية الإسلامية، ولم يعرفها الجمهور المسرحي العربي من خلال الرؤية العربية أو التأليف العربي للمسرح في تلك الفترة؛ لأن التأليف المسرحي لم يشتد عوده بعد!!
وما نشرته الصحف عن هذا العرض – في حينه – يعكس لنا مدى اهتمام المؤلف الإنجليزي بالأفكار الإنسانية ومعانيها، التي تجلت في حروب صلاح الدين لملوك أوروبا! كما عكست أيضا أمانة المُعرّب في نقل هذه الأفكار وتعضيدها بالأشعار المناسبة، ناهيك بإيجابيات هذا العرض وقيمته في نقل صورة الحرب على خشبة المسرح! وخير دليل على ذلك، ما نقلته جريدة (المقطم) بتاريخ 29/ 3/ 1893، قائلة تحت عنوان (الجوق العربي في الأوبرا الخديوية):
«كانت الليلة البارحة أولى الليالي الخمس التي عزم الجوق العربي بإدارة حضرة الأديب سليمان أفندي الحداد على إحيائها بتمثيل الروايات العربية في الأوبرا الخديوية، فمثل رواية صلاح الدين الأيوبي وريكاردس قلب الأسد، وهي مأخوذة عن قصة شهيرة أسمها الطلسم (تلسمن) وضعها السير ولتر سكوت الإنجليزي الشهير، وضمنها بعضا من الوقائع التاريخية في ذلك العصر بعد أن تصرف بها كما يقتضيه المقام. وقد أفرغ حضرة الأديب نجيب أفندي حداد بعض حوادثها في قالب الروايات التمثيلية، ووشاها بالأشعار الرائعة ومثلت أمس في الأوبرا الخديوية أمام جمهور غفير من نخبة الوجهاء والأدباء؛ فأجاد الممثلون في تمثيل ما تضمنته من العواطف حتى أمسينا والعيون شاخصة إلى ما يبدو أمامنا من المشاهد الشائقة. والقلوب خافقة لتناولها عوامل متفرقة بين الحزن والفرح؛ فكأنها مرآة تنعكس فيها أشباح الممثلين وصور عواطفهم فتؤثر فيها تأثيرا يختلف باختلاف المؤثرات وتتنوع بتنوع الانفعالات. وقد كان في جملة الذين أجادوا في التمثيل ممثل صلاح الدين الأيوبي؛ فمثل رصانته وحكمته وشجاعته وعدله في الرعية أحسن تمثيل، وأجاد ريكاردس الملقب بقلب الأسد كل الإجادة وهو على فراشه يشكو تباريح الألم، وقد نغص عيشه وزاد سقمه واعتلاله ما كان يراه من تهاون الملوك المتحدين معه وتقاعدهم عن الحرب والجلاد. وأحسنت شقيقته جوليا في تمثيل شعائر الحب والهيام لذلك الفارس الجميل الذي خلب القلوب بما أبداه من حُسن البيان، عندما وقف حائرا في أمره لا يدري أيجيب داعي الشرف فيبقى قائما على حراسة العلم الذي وكلت إليه حراسته، أم يجيب دواعي الهوى ويلبي نداء حبيبته. أما البارون عشيق جوليا فطرب الأذان بنغماته الشجية وحرك الأشجان بإنشاده الرخيم حتى ودّ الحاضرون لو طالت ساعات إنشاده ولو أنهم كلهم أذان لاستماع ألحانه. وخلاصة القول إن هذه الليلة كانت جامعة لكل ما يقرّ الناظر ويسر الخاطر فانصرف الحاضرون وهم يثنون ويشكرون».
المسرح والحروب العربية القديمة
لاحظ الأديب جرجس مرقس الرشيدي أن توظيف الحرب في النصوص المسرحية، يقوم على الترجمة والتعريب، فأراد أن يدلي بدلوه من خلال تأليف مسرحية عربية عن الحروب الجاهلية، وتحديدا عن (حرب البسوس)! وبالفعل نشر مسرحيته عام 1897 بعنوان (اللقاء المأنوس في حرب البسوس)، موضحا فيها الأفكار الإنسانية ومعانيها من خلال الفكر الجاهلي للحروب الإنسانية المسجلة في تاريخ أيام العرب. وقد عبر المؤلف في مقدمة مسرحيته عن أمور إنسانية وجدها في هذه الحروب، ناهيك عما تصرّف فيه من إضافة وحذف من أجل إبراز المضامين الإنسانية العربية في العصر الجاهلي. وفي ذلك يقول المؤلف في مقدمة مسرحيته المنشورة:
«يعلم حضرات القُراء الأفاضل أن بعضا من مؤلفي الروايات التمثيلية، قد مالوا مع الأهواء في كثير من مؤلفاتهم التشخيصية، حبا في الانتشار. ولا أدري أذلك ناتج عن عدم ممارستهم لهذا الفن، أو لقلة ترددهم على المراسح التمثيلية! وعندي أن لهم عذرا فيما جاءُوه؛ لأن هذا الفن المقدس الجليل منقول اجتهادا عن المراسح الأجنبية، وهو حديث العهد في قطرنا. وعلى كل حال، فهم مشكورون على خدماتهم الأدبية. هذا ولما كنت ممن فطر على تلقي هذا الفن، وقد مارسته علما وعملا ورسما وصناعة من سنة 1885، في بدئ جمعية المعارف الأدبية بمصر، التي لا تزال ترفل في بحبوحة التقدم إلى الآن. وقد كنت أحد مؤسسيها، وقد مارست على غيرها من مراسح التمثيل. قد حدا بي حادي الأمل لأن أضع هذه الرواية المسماة (باللقاء المأنوس في حرب البسوس) جعلتها باكورة أعمالي، متضمنة بعض حوادث العرب في الجاهلية، مضافا إليها بعض وقائع مختلفة مبتكرة قضى علي بها ذوق هذا الفن الدقيق».
ومن هذا المنطلق قامت جمعية الأحوال الشرقية بتوظيف إحدى الحروب العربية في عرض مسرحي، أخبرتنا به جريدة (المقطم) بتاريخ 9/ 9/ 1897، قائلة: «عزمت جمعية الأحوال الشرقية أن تمثل مساء غد في مرسح حضرة الشيخ أبي خليل القباني أول رواية من رواياتها المتسلسلة، وهي رواية (شيرين بنت الملك كسرى أنو شروان)، تتجلى فيها معركة حربية بين العرب والعجم، ويطرب الجمهور خلال التمثيل الشيخ صالح العوام مع جوقته».
العرض الممنوع إنسانيا
في عام 1897 نشبت الحرب بين اليونانيين والدولة العثمانية بقيادة الفريق (أدهم باشا ابن فرهاد الجركسي) القائد العام للقوات العثمانية، الذي نجح في هزيمة اليونانيين والاستيلاء على عدة مدن منها: لاريسا، وتريكالا، وفولو، وفرسالا، مما اضطر الدولة اليونانية لطلب الصلح، ودفع غرامة كبيرة للدولة العثمانية. وبعد عام من انتهاء هذه الحرب، أرادت (جمعية السراج المنير) في الإسكندرية تمثيل مسرحية بعنوان (أدهم باشا)!! ومن المعروف أن الجالية اليونانية في الإسكندرية – في تلك الفترة – كانت أكبر جالية أجنبية في الإسكندرية، وتمثيل هذه الأحداث في عرض مسرحي من الأمور غير المستحبة، خشية حدوث ما لا يُحمد عقباه! مما يعني أن المسرح لم يكن موفقا في عرض أحداث هذه الحرب! وقد أسهبت جريدة (المقطم) في يناير 1898 في شرح هذا الأمر، قائلة:
«كانت جمعية السراج المنير قد عزمت على تمثيل رواية (أدهم باشا) في المرسح العباسي مساء أمس. ولما كانت تلك الرواية تشتمل على أمور ليس من الحكمة إظهارها في مثل هذا الحين؛ بعد أن انتهت الحرب وأوشكت العلائق السياسية أن تعود إلى مجراها الأول. فقد ارتأى سعادة محافظنا الفاضل وجناب حكمدارنا النشيط أن يعترضا على تمثيلها. فدعا سعادة المحافظ أعضاء جمعية السراج المنير وأبان لهم أن الحكومة لا تبيح لهم تمثيل الرواية المذكورة؛ فطلبوا من سعادته أن يأذن لهم في استحضار جوق إسكندر أفندي فرح ليمثل رواية من رواياته؛ لأنهم لم يكونوا عالمين أن الحكومة تمنعهم من تمثيل رواية (أدهم باشا)؛ ولأنهم باعوا التذاكر كلها. فتداول سعادته مع حضرة الحكمدار وقررا أن لا يرخص للجمعية بتمثيل أي رواية كانت في ليلة أمس؛ دفعا للالتباس! إذ قد يتوهم البعض أن الرواية التي مثلت هي رواية (أدهم باشا) لا سواها. فأجابوا طلبه بالقبول بعد أن أكدوا لسعادته بأنهم لا يقصدون مسّ عواطف النزلاء اليونانيين».
الحرب بين المسرح والسينما
في بداية القرن العشرين – ومع انتشار الأشرطة السينمائية – استطاعت الفرق المسرحية أن تستغل اللقطات الصامتة المصورة لبعض الحروب في الأشرطة السينمائية، وعرضها في نهاية العروض المسرحية، أو بين فصولها! ففي مارس عام 1902 – كما أخبرتنا جريدتا مصر والأخبار - عرضت فرقة إسكندر فرح مسرحيتي (عظة الملوك) و(ضحية الغواية) على مسرح شارع عبد العزيز بطولة الشيخ سلامة حجازي، وبعد كل عرض مسرحي، تم عرض فصول سينماتوغرافية لبعض لقطات من حرب الترنسفال، التي كانت بين إنجلترا ومستعمرات البيض في جنوب أفريقيا.
وخير مثال على ذلك، ما ذكرته جريدة (المؤيد) بتاريخ 10/ 7/ 1904، قائلة: «يمثل جوق حضرة إسكندر فرح هذا المساء رواية (صلاح الدين) الشهيرة بحسن مناظرها، ويقوم بأهم أدوارها حضرة الممثل البارع والمطرب الشهير الشيخ سلامة حجازي. ويعقبها ألعاب الصور المتحركة الجميلة المناظر، ستقدم منها أربع وقائع بحرية وبرية من حرب الروسيا واليابان، وهي ليلة خصوصية لحضرة توفيق فرح شقيق حضرة مدير الجوق فنحث الأدباء على مشاهدتها».


سيد علي إسماعيل