أثر عروض فرقة يوسف وهبي في النقد المسرحي في مصر (1)

أثر عروض فرقة يوسف وهبي في النقد المسرحي في مصر (1)

العدد 637 صدر بتاريخ 11نوفمبر2019

عندما نتحدث عن المسرح المصري، يبرز في أذهاننا مسرح الستينيات؛ بوصفه المسرح الذي جمع أفضل المؤلفين والممثلين والنقاد والعروض .. إلخ. وهذا الاعتقاد الراسخ؛ جعل أغلب الباحثين لا ينظرون – بعين التقدير - إلى أية فترة مسرحية مصرية تسبق فترة الستينيات!! فالنقد المسرحي في مصر – قبل الستينيات – يُتهم بأنه نقد خال من أية تعابير نقدية أو فكرية، أو توجه نقدي له مميزاته وملامحه، ولا يُعدّ نقداً مسرحياً من الأساس، حيث إنه مجرد إعلانات وكلمات استحسان لنجم الفرقة أو لصاحبها!! وبكل أسف إن هذا القول، إن صح إطلاقه على المسرح في مصر في القرن التاسع عشر، فلا يصح إطلاقه أو تعميمه على المسرح المصري بعد ذلك!! وهذا ما سأسعى إلى مناقشته في هذا البحث؛ لأن هدفي إثبات العكس من أجل إظهار الصورة الحقيقية للنقد المسرحي في مصر؛ من حيث نشأة النقد المسرحي، وتحديد أهم نقاده، والتعرف على أهم خصائصه النقد عند هؤلاء النقاد، وما هي العروض المسرحية؛ التي أسهمت في نشأة النقد المسرحي في صورته المقبولة، والتي شكلت الصورة النقدية عند نقاد المسرح في هذه الفترة، أو في فترة محددة منها .. إلخ
البداية كانت في الإعلانات
عندما كوّن الشيخ سلامة حجازي فرقته المسرحية عام 1905؛ واكبها النقد المسرحي مُطوراً من أدواته؛ حيث تحول النقد من الإعلان الصريح عن المسرحية – كما كان في القرن التاسع عشر - إلى تشويق القارئ من أجل رؤية المسرحية؛ وذلك بذكر ملخصها، مع إبداء الرأي في بعض ممثليها. ومثال على ذلك، ما ذكرته جريدة الوطن في يونية 1905، قائلة:
“ أحبت كاترين امرأة أنجلو حاكم (بدوا) قبل اقترانها به فتىً نبيلاً يُدعى رودلف، ثم اقترن بها الحاكم بلا حب لأغراض سياسية له، فلم يكن يُسمعها سوى الوعيد والتهديد. ثم جاء بإحدى الممثلات محظية له ووضعها في قصره. وبعد حين علم أن امرأته عاشقة، وأن عشيقها زارها في منزله، فقضى عليها بالموت. ولما كانت محظيته، وهي الممثلة (تسبا) عالمة بهذا الغرام، وأن عاشق امرأته هو معشوقها، الذي جاء بدوا مستتراً بأنه أخوها، سعت سعيها الأوفى حتى أنقذت امرأة الحاكم سراً، حباً بمن تهواه. وحملت معشوقها على قتلها انتقاماً منها؛ لظنه أنها السبب في موتها، وذلك لتتخلص من عناء الغرام، ثم ندم القاتل في حين لا ينفع الندم، لما علم أن حبيبته حية لم تقبر بفضل من أوردها كأس الحمام .. هذه خلاصة موضوع الرواية، التي مثلها أمس جوق الشيخ سلامة حجازي، وهي رواية وإن مثلت على المراسح يوماً، فهي تمثل كل يوم في كثير من القصور الشامخة، لذلك كان تأثير الشعب من سماعها عظيماً، حتى بكى الأكثرون من الحاضرين، خصوصاً عندما جادت تسبا بحياتها؛ لأن ممثلة دورها، وهي السيدة مريم سماط، أبدعت في التمثيل إبداعاً نادراً، حتى لقبها الشعب بزهرة دار التمثيل، وصفق لها التصفيق المتواتر لما ظهر عليها من التأثر، الذي اتصلت شرارة كهربائه إلى نفوس المتفرجين عموماً. وكذلك السيدة ميليا ديان، فإنها أجادت في تمثيل دورها أيضاً؛ خصوصاً عندما أخذت تعنف زوجها على طلبه إعدامها، بأن لا حق له في ذلك، وأن الرجل الذي يأتي بخليلته إلى منزله، ويفضلها على خليلته لا بدع إذا اضطرت زوجته إلى حب غيره. فلم تخلق المرأة إلا للرجل، ولم يخلق الرجل إلا للمرأة. أما أفراد الممثلين فقد ظهروا أمس بمظهر جديد من الإبداع والإتقان، خصوصاً حضرة الممثل مدير الجوق، وأحمد فهيم ممثل دور أنجلو، ومحمود حبيب وبهجت وسواهم، مما سرنا وجعلنا نؤمل بوصول التمثيل في هذا العصر إلى حال لم تر من قبل. والفضل في ذلك كله راجع إلى الشيخ سلامة حجازي، الذي لا يدخر وسعاً في ترقية هذا الفن، وتعليم أفراد جوقته الشهيرة. ولا يسعنا في الختام إلا أن نثني الثناء الجميل على حضرة الكاتب الألمعي زاكي مابرو معرب هذه الرواية الحسناء”.
وبهذا الأسلوب سارت الصحف المصرية، تتحدث عن العروض المسرحية لفرقة الشيخ سلامة حجازي، مع تطوير في الأسلوب، عندما بدأت تشير إلى الغناء والتلحين والمناظر – أي الديكور – بل وتلفت نظر القُراء إلى بعض مشاهد العرض المسرحي، مثلما نشرت جريدة المقطم – في نوفمبر 1907 - قائلة: “ مثل البارحة جوق الشيخ سلامة حجازي في دار التمثيل العربي رواية تليماك، وزاد تحسيناً في أدوارها، سواء كان في الغناء أو التلحين أو في جودة مناظرها. وقد أعجب الجميع بتمثيل الجحيم ومناظره الرهيبة، والحكم التي تخللت الكلام فيه. وخرجوا يثنون على الممثلين ويتحدثون بإبداع الشيخ سلامة في غنائه وإلقائه. ولا غرو؛ فإنه لما كان يمثل دور الساحر في آخر الرواية، عند مقابلة تليماك لأبيه عولس ووالدته، أبكى الحضور. ولما عرفاه وعانقاه صفق الحضور تصفيقاً شديداً علامة الاستحسان”.
كما وجدنا تقدماً ملحوظاً في أسلوب المقالات، عندما بدأت الصحف تُشير إلى الموسيقى، وإلى بقية الممثلين – بعد أن كان الكلام مقصوراً على النجم الأوحد الشيخ سلامة حجازي – ومثال على ذلك ما ذكرته جريدة المقطم – في فبراير 1908 - عندما تحدثت عن عرض مسرحية ضحية الغواية، قائلة: “ .... وأجاد حضرة أحمد أبي العدل بجودة إلقائه وفصاحة لسانه، وكان يمثل الوزير .... وأظهرت ممثلة شارلوت، ببراعة ومهارة فائقتين، بحسن تمثيلها، وتكييف ألفاظها وحركاتها، فامتدحها الحضور .... وكانت الموسيقى الوترية تصدح بأشجى الأنغام بين الفصل والفصل، برئاسة حضرة الأديب عبد الحميد علي”.
إرهاصات النقد المسرحي
من الواضح أن العروض المسرحية تقدمت في هذه الفترة، تقدماً ملحوظاً، بدليل أن الجمهور بدأ يشارك في العملية النقدية؛ حيث نشرت جريدة المؤيد – في يونية 1911 - مقالة عن عرض مسرحية الكابورال سيمون بتوقيع متفرج!! وهذا المتفرج جاء فيما كتبه، بما يفوق أسلوب أي ناقد – في هذه الفترة - حيث نقل جزءاً من العرض بأسلوبه، وأجاد في وصف أداء عزيز عيد بصورة نقدية مقبولة؛ قائلاً:
“ .... إن من رأى منظر الواقعة الحربية بين الجيشين الفرنساوي والنمساوي، ما كان يشك أنها واقعة حقيقية، تدوي رصاصاتها، وتتقاذف قنابلها، وتتألق أسلحتها، وترن أناشيدها، وتزحف صفوفها، وتتساقط القتلى والجرحى في ساحتها. وما أظن أن براعة الممثلين الأوربيين تزيد كثيراً على براعة الممثل العربي عزيز عيد في تمثيل دور الأخرس. فقد كان في تشنج أعضائه، واختلال أعصاب نطقه، عندما أهين في شرفه، وحركاته وإشاراته الناطقة، وانحلال عقدة لسانه، حينما فاجأه منظر انتحار ولده، مثالاً للبراعة الفائقة في التمثيل الطبيعي، البعيد عن التكلف والتصنع”.
هذه المقالة وغيرها، كانت السبب في ظهور النواة الأولى للنقد المسرحي ونقاده في مصر. ففي عام 1917 بدأت المقالات النقدية المسرحية تنتشر، ويتضخم حجمها في الصحف المصرية، وبدأنا نقرأ أسماء كُتابها؛ حيث إن مقالات النقد المسرحي المنشورة في الصحف منذ بداية القرن العشرين، كانت – في أغلبها الأعم - صغيرة الحجم، خالية من أسماء كُتابها. والمثال الأول، الذي سنتوقف عنده، مقالة جريدة الأفكار – في فبراير 1917 - حول مسرحية الاتجار بالأزواج، التي مثلتها فرقة أولاد عكاشة في الأوبرا الخديوية. وهذه المقالة كتبها أحمد أبو الخضر منسي، وتناول فيها تأليف المسرحية؛ بوصفها أول عمل للشاب حسين محمود الطالب بمدرسة الحقوق السلطانية. ومن باب تشجيع الشباب، قال الناقد:
“ نستقبل عملك أيها المؤلف الناهض بالترحاب والرضى في مجموعه. ولقد أردت أن تطلعنا على صورة من أصدق الصور، لما يجري في بيوت العدد الكبير من الأسر، وقصدت إلى الإبانة عما يجتريه الأزواج من جرائر العبث بالحقوق الزوجية المقدسة، واتخاذ الزواج وسيلة للمتاجرة والتلهي والشهوة المنقضية الزائلة. ورميت إلى الإفصاح عما يسطو على نفوس الأبناء من آلام يدنيها الآباء عليهم، إسفافاً منهم إلى الدنيا، وانكباباً إلى الرذيلة والدعارة. وابتغيت أن ترينا ممثلاً أمام أعيننا، ذلك الإخلاص من الأم المتمسكة بأهداب الفضيلة لولدها، والتفاني في حبه وخدمته. وشئت أن يعلم لنا الحجة على حسن ثمرة التهذيب الحق، والتربية الصحيحة، التي تدفع أصحابها إلى التسامي والتنزه عن الحق، وحب الانتقام. فيخلص الابن المتروك المجني عليه من والده الفاسق الجاني، ويقابل أباه بالصفح والإغضاء الجميلين. وأردت أن تطلعنا بالبيان الوافي عما يجري من مآسي اللهو الفارغ، والفساد المسف بالنفس، وقتل الوقت فيما لا يجدي ولا يثمر. أردت ذلك كله في روايتك”.
وعلى الرغم من ذلك؛ بدأ الناقد يناقش المؤلف في مواقف كثيرة من مسرحيته – وبصورة نقدية مقبولة – حيث عاتبه على أحداث غير منطقية بين نهاية الفصل وبداية الفصل الذي يليه. كذلك عاب عليه بعض الأمور التي ظهرت على خشبة المسرح بصورة لا تتناسب مع أسلوب التأليف المسرحي. ومن يقرأ هذا النقد، يشعر بأن الناقد لا يناقش المؤلف، بل يناقش المخرج؛ حيث إن الناقد بنى نقده على مشاهدة العرض، وليس على قراءة النص!! وهذا الأمر انتشر كثيراً في مقالات هذه الفترة، حيث إن النقد بصورة منهجية، كان يحبو وفي بداية ظهوره!!
والجيد في هذه المقالة، أن الناقد لم يكتف بالحديث عن الموضوع من حيث التأليف فقط، بل تطرق إلى الموسيقى والتمثيل، وجاء فيهما بأقوال؛ تُعدّ جديدة – في هذه الفترة – وتدل على أن بذور النقد المسرحي بدأت تظهر. والجدير بالذكر إن أغلب ملاحظات الناقد، كانت موجهة إلى المدير الفني أو المخرج؛ ولكن هذه الوظيفة لم تكن واضحة وصريحة في هذه الفترة، فنجد الناقد يوجه اللوم إلى الموسيقيين والممثلين في أمور تتعلق بالإخراج .. ومثال على ذلك قوله:
“ ... بقيت لنا كلمة نقولها في التمثيل .... التمثيل في مجموعه ناهض متقن، وأنه في الحقيقة موفق، يُرجى منه في حاضره ومستقبله الخير كله؛ ولكن لنا ملحوظات تفصيلية نسوقها: أولاها، وإن كان هذا ليس يدخل في التمثيل ذاته، إن محمود خطاب الموسيقي البارع لا يسمعنا مع جوقته إلا ألحاناً أفرنجية، وأنغاماً غريبة عن آذاننا. نود لك ولنا يا حضرة الفاضل أن تكون شرقياً ومصرياً على الخصوص، فتسمعنا المُشجي والمُطرب من أنغامنا، التي اعتادتها آذاننا، وترتاح إليها نفوسنا وما أكثرها. بعد هذا نقول إن عبد الله عكاشة والد جميل، قد أجاد وقام بدوره خير قيام، لا سيما حالته وهو سكران مع زوجته في الفصل الأول، ومع ندمائه في الفصل الثالث، وحالته حين وقف موقف الزوج الذي عرف أن صديقه ليس بصديقه؛ ولكنه خليل زوجته. وأما زكي عكاشة فقد وقف خير المواقف في كل أدواره؛ مؤثراً كل التأثير في بعضها؛ ولكنا نرجوه في أن يكون أشد أمانة مما هو في الأداء والمحافظة على قواعد اللغة .... فقد أضاع علينا كل المعنى الذي أراد أن يوصله إلى قلوبنا في خاتمة الفصل الرابع. ولقد أبدع كل الإبداع توفيق ظاظا، أو علي بك خليل الزوجة، شأنه في كل أدواره. وكذلك سائر الممثلين والممثلات، نخص بالذكر منهم السيدة فكتوريا موسى أم جميل، التي أبدعت في تمثيل دور الزوجة، وبلغت غاية الإبداع في تمثيل دور الأم، تقص حديثها، وما عانته على ولدها في الفصل الثاني. وكذلك السيدة لطيفة خادمة زكية الزوجة الثانية، أتقنت إلى درجة أنها لم تدع لطامع مطمعاً، وأضحكت حتى أعصى الناس عن الضحك، إلا إنّا نبدي ملحوظات أخرى عجلاً نراها تعيب عن التمثيل عيباً جللاً، منها عدم وجود ساعة بين يدي جميل في الفصل الثاني، وهو إنما يذهب إلى النوم على حسابها. ومنها أن الحلقة التي اجتمعت في منزل محمود بك، لم يكن مجلسها طبيعياً أثناء سماعها المغنية. هذا ولقد كنا نود أن تكون المغنية أيضاً أقرب إلى الطبيعة مما كانت، لا تتكلف ولا تتحرج، وأن تكون أقدر على المغنى مما بدت عليه “.
والمثال الثاني، مقالة نشرها محمد إبراهيم في جريدة الأفكار – فبراير 1917 - عن مسرحية العذراء المفتونة تأليف الفرنسي هنري باتاي. وهذه المقالة، ناقش فيها الناقد قضية التعريب بصورة واقعية؛ حيث إن المسرح المصري في هذه الفترة، كان قائماً على التعريب في أغلب عروضه المسرحية. فالناقد هنا شجع التعريب، شريطة أن يتوافق مع المواقف العربية، مهما كانت قوة المواقف الأجنبية في النص الأجنبي!! وحول هذا الأمر، قال:
“... إن الرواية في شكلها الأفرنجي، شائقة جليلة المغزى؛ ولكن التعريب جاء فطمس نورها وأزال بهجتها. ولست أعني بهذا سقم اللغة، أو ضعف التعريب، بل أعني بهذا ذلك الوجدان الراقي الذي يجب أن يكون خلة لاصقة بالمعرب. وذلك الخيال السامي، وقوة العارضة، وحسن التعبير إلى غير ذلك، مما يساعده على أن يلبس الرواية، تلك الحلة البهيجة، التي تناسب ذوق المسارح العربية. إن من يحظ بمشاهدة هذه الرواية على المسارح الغربية، ويشاهد تمثيلها بشكلها الحالي، يقف على مقدار البون الشاسع، والفرق البيّن بين المشهدين. ليس على المعرب حرج إذا حرّف بعض التحريف في مواقف الرواية، لا سيما الختامية منها، جاعلاً ذوق الجمهور الشرقي، يطيب عينيه؛ بشرط ألا يذهب التبديل والتحريف برونق الرواية وحلاوتها. إن المواقف الختامية للمناظر على المسارح الأفرنجية تختلف اختلافاً بيناً عن الحالة التي تكون عليها في المسارح العربية. ففي بعض هذه المواقف على المسارح الغربية، نرى أن الهدوء والسكينة أوفق من الثورة والحدة، بينما نراه في المسارح الشرقية، يجب أن يكون عكس ذلك. وقصارى القول إنه يجب النظر حال التعريب إلى الموقف العربي، أكثر منه إلى الأصل الأفرنجي”. والجدير بالذكر إن مُعرب هذه المسرحية هو عباس حافظ.
والمثال الثالث، مقالة نشرتها جريدة المنبر في مارس 1917، تحت عنوان “الضحايا هل هي رواية بقلم أستاذ في الجامعة المصرية أم محاضرة تلميذ في سن الابتدائية”!! وكاتب هذه المقالة هو الناقد مصطفى إسماعيل القشاش، وهي المقالة الأولى في التحدي النقدي!! فقد نقل الناقد في مقالته قولاً نشره الدكتور حسين رمزي الأستاذ بالجامعة المصرية - ومؤلف مسرحية الضحايا، التي عرضتها فرقة جورج أبيض في الأوبرا الخديوية – هذا نصه:
“... إن الواجب يقتضي على الإنسان بعد وجود النهضة التمثيلية الجديدة في بلادنا بأنه، إذا شاهد رواية من جوقاتنا، ولاحظ نقصاً في تأليفها، أو عيباً في تمثيلها، يُعد خائناً للأمة، ومسئولاً أمام الله عن عدم تصريحه على رؤوس الأشهاد بذلك النقص وهذا العيب؛ لأنه في هذه الحالة؛ يُعد شريكاً للجوقة والمؤلف في خداع الأمة، ومعيناً لهما على تماديهما في ذلك الخداع”. هذا ما ذكره مؤلف المسرحية؛ مما جعل الناقد، يكتب مقالة كبيرة عن كل نقص في المسرحية، متلمساً كل عيب ظاهر أو باطن فيها، بحيث أصبحت المقالة، متطابقة مع عنوانها!!
المثال الأخير، مقالة نشرتها جريدة مصر في أبريل 1918، بتوقيع شحاتة عطا الله عبيد، تحت عنوان “نقد رواية توسكا” - من تأليف ساردو وألحان بوتشيني، تعريب حسن الشريف - وهذه المقالة تُعد تطوراً في حركة النقد المسرحي في مصر؛ حيث حملت عنواناً صريحاً في النقد المسرحي. وهذا النقد، وضع له الناقد أسلوباً، يتمثل في: ذكر الموضوع - أو ملخص المسرحية - ثم مناقشته لو كان مؤلفاً أو مترجماً أو معرباً أو ممصراً، ثم الحديث عن التمثيل والممثلين!! ولو تجاوزنا عن الملخص المذكور، سنجد الناقد يناقش الموضوع من خلال تعريبه قائلاً:
“... هذه هي الرواية، وإني لأعجب كيف أن المعرب تخيرها على غيرها من تآليفه العديدة، ذات المواضيع التي تفيد الشرق كما أفادت الغرب. وأتساءل: لماذا لم يعمد إلى تعريب الطلاق مثلاً، تلك الرواية المشحونة بأبحاث في الطلاق والزواج، والتي سمعت بأن كاتباً قديراً عربها، وربما مثلتها بعض أجواقنا قريباً، أو غير هذه الروايات، التي لم يعدم المؤلف فكرة أخلاقية، أو اجتماعية يبنيها عليها. فإننا إلى هذه الروايات أحوج منا إلى مثيلات توسكا، التي لا تعد إلا من الكماليات، والتي لا يجب أن يشاهدها المرء عندنا، إلا إذا كان دارساً للفن؛ ليتخذ هذا المؤلف مثالاً لا يحتذيه، وأن الكُتّاب لفي غنى عن مشاهدتها لما هي أمامهم في الكِتاب. عرب ولا بأس في التعريب؛ ولكن لنتوخى جهدنا أن يكون تأليفنا، أكثر من تعريبنا فيكون التعريب مَلحاً لطعامنا، لا طعاماً لمَلحنا. وإنّا لنرجو من قلم المعرب واقتداره، أن ينفحنا من تآليفه، ويغنينا عن التعريب. أما إذا بان بأن عجزنا، فلا أقل من أن نعرب ما يفيدنا فائدة أدبية”.
وعندما تطرق الناقد إلى التمثيل – وفقاً لترتيب أسلوبه النقدي وخطواته – قال: “... أما التمثيل فإني أرى عبد الرحمن رشدي في دور أسكاربيا، أجاد في تمثيله، وأظهر لنا اجتهاداً في حفظ أخلاق هذا الرجل وميوله، أكثر من حفظه أقواله. فأجاد في السخرية والتهكم تمام الإجادة، كما أجاد في مواقف ذاك الغرام الشهواني. إلا أنه لم يُحسن مواقف الغضب والقسوة غاية الإحسان، فهو يمثل جباراً عنيداً، وكل جبار مكروه. غير أنه لم يمكنه أن يجعلنا نكرهه. وأما السيدة ميليا ديان في دور توسكا، فقد اجتهدت بأن تكون توسكا المؤلف، غير أنها أخفقت في مواقف الدلال، فظهر عليها التكلف. وفى مواقف التأثير، لم تؤثر فينا أقوالها كما يجب، فلم يحزن لحزنها. ولقد أبدعت غاية الإبداع في مواقف الغيرة والتردد والتوسل. أما حبيبها ماريو الذي قام بتمثيله زكي طليمات، فقد أعجبت به ولم أره على المسرح إلا للمرة الأولي. ففي لفظه ولهجته ووقفاته وحركاته، ما يجعلنا نؤمل له مستقبلاً عظيماً” ... إلخ الحديث عن بقية الممثلين، أمثال: أحمد علام، وعمر وصفي.


سيد علي إسماعيل