المسرح بعد الدرامي والأداء بعد الدرامي (2)

المسرح بعد الدرامي والأداء بعد الدرامي (2)

العدد 636 صدر بتاريخ 4نوفمبر2019

ودعونا نتناول أمثلة حديثة لمخرجين أوروبيين كبيرين علي سبيل التمثيل. فقد بدأ كلاهما مشوارهما الفني في بداية التسعينات، وعلي الرغم من أن (فان هوف)، مخرج أوروبي نموذجي، فقد كان تقليديا في عروضه الأولى أكثر من (ميتشيل)، التي كانت معروفة بعروضها المصقولة والأسلوب النفسي المنسوب إلى ستانسلافسكي، لم يوضع أي منهما وسط المخرجين بعد الدراميين. وقد تحول كلاهما إلى هذا الاتجاه في عام 2007، ولا سيما من خلال الاستخدام الواسع للفيديو الحي، وبشكل كبير في طريقة (كاستروف)، قبل عقد من الزمن، لتزويد المشاهدين بوجهات نظر متعددة حول الحدث. وفي أي من الحالات لم يتعلق هذا بالانفصال عن النص الدرامي التقليدي: أول أعمال (فان هوف) البارزة في هذا الاتجاه ولا يزال أكثرها شهرة هو العرض الذي قدمه في 2007 بعنوان «تراجيديات رومانية Roman Tragedies»، الذي مزج بين «يوليو (تموز)س قيصر «و» أنطوني وكليوباترا «و«كوريولانيوس «، في عرض واحد طويل ظل أمينا مع الأصل مثل أغلب العروض التقليدية في إطار النص والأداء التمثيلي. وقد تجول العرض منذ ذلك الحين عالميا، وقدم أول عروضه في أميركا في أكاديمية بروكلين للموسيقي في نيويورك، إذ كان يبشر بمثال بارزا للتصنيف الفرعي للمسرح بعد الدرامي.
أول غزوات (متشيل) في عروض الوسائط المختلطة جاء أيضا في 2007، في تقديمها لرواية (فرجينيا وولف) «الأمواج» علي خشبة المسرح، والذي لا يزال يعد أحد أبرز العروض الإبداعية في المسرح البريطاني. ومنذ ذلك الحين، عملت (ميتشيل) بشكل حصري تقريبا بالأسلوب الذي أسسته في هذا العرض، في أحدث عروضها «قطار الليل Night Train»، المأخوذ عن الرواية الشاعرية الألمانية، وعرض للمرة الأولي في عام 2012 في مسرح «كولونا جوزبيلهاوس”، وأختير باعتباره أحد أبرز العروض الألمانية في ذلك العام في ملتقي المسرح في برلين. وقد كانت أعمل (ميتشيل) هذه تفكيكا صريحا، ولكنها لم تكن تفكيكا للنصوص الدرامية والأدبية التي قدمتها علي خشبة المسرح، الذي كانت أمينة معه بشكل ملحوظ، ولكنها كانت تفكيكا لعملية التمثيل نفسها. فأسلوبها، مهما كانت المسرحية، يظل هو نفس الأسلوب. إذ يرى المشاهدون علي خشبة المسرح فييديو حي، يمكن تناوله لعرض سينمائي تقليدي للنص موضوع العرض. دعونا نقول إن المشهد يوضح البطلة وهي تستعد للنوم في سرير عربة قطار، مع منظر طبيعي مظلم يمر أمام نافذتها. ويظهر الفيلم كواقع سلس، بينما علي خشبة المسرح نرى أن كابينة القطار هي لقطة من فيلم، مفتوحة أمام المشاهدين وكاميرات التلفزيون، بيمنا المشهد يعرض فعلا علي شاشة سينما مثبته وراء نافذة الكابينة الزائفة. وكل خشبة المسرح في مستوى الأرضية مصنوعة من مقصورات تمثل أجزاء القطار ومجموعات صغيرة أخرى (للفلاش باك بدون القطار) والتي تستخدم علي مدار العروض. وعندما لا يكون الممثلين في الكاميرا، فإننا نراهم يتحركون خارج الشخصية، يستريحون أو يجهزون للدخول في منطقة الأداء. والكيفية التي يختلف بها هذا عن (كاستروف) هي أن (كاستروف) لم يحاول أن يبتكر خطا واقعيا للأداء في الفيديو (رغم أنه قد أطال أحيانا هذه التتابعات)، ولكنه استخدمها أساسا لكي يحافظ علي تزويد المشاهدين بمنظورات بديلة. تقدم أعمال (ميتشيل) متعددة الوسائط، إذن، إسهاما مثيرا للسؤال في الأفكار التقليدية لما بعد الدرامي. إذ يظل النص الدرامي سليما تماما، وفي داخل فيديو تكون صيغة ذلك النص تقليدية تمثيليا. وفي نفس الوقت، يتكشف كل من النص والتمثيل في الحدث المتزامن لكي يتم بناءه بالكامل. والعمل ككل بالتالي ليس بعد درامي بقدر ما هو بعد ايهامي، وهذا يبدو لي في الواقع أفضل مصطلح لمثل هذا العمل.
تختلف تقنية (فان هوف) من عرض إلى عرض، فهي أقل اتساقا عن تقنية (ميتشيل). ففي عرض «عدو البشر Mesanthrope «(2007) والذي عرض في نيويورك، أكد (فان هوف) مثل (ميتشيل) علي الطبيعة البنائية للعرض المعروض، ولكن بأسلوب متحفظ. وقد كان العرض تقليديا في التمثيل – رغم أنه قد تم إبداعه في بيئة حديثة مع شخصيات (موليير)، وأعضاء المجتمع الحديث يتحدثون عن الهواتف المحمولة – وقد استخدم الفيديو لكي يعمل ضد هذا العالم التمثيلي عن طريق عرض مشاهد علي سبيل المثال في الغرفة الخضراء، مع استرخاء الممثلين خارج شخصياتهم، أو أثناء وضع المكياج، مثلما يفعلون علي خشبة المسرح في عروض (ميتشيل). ومرة أخرى، لم يتم التخلي عن التمثيل، كما يزعم (ليمان)، ولكن ايهام الحقيقة الشفافة المفترض في المسرح التقليدي يم عرضه كما تم بناءه. ويمكننا أن نصفه بسهولة ودقة أكبر بأنه اغتراب بريختي أو تفكيك منسوب اليد ريدا، يوضح كيف يتم ابتكار الإيهام، فضلا عن تسميته بأنه بعد درامي، ولكن ذلك ببساطة يوضح غموض المصطلح.
وقدم عرض (تراجيديات رومانية) من منظور مختلف في تجليات معاصرة لما بعد الدرامي. فاستخدامه الأساسي للفيديو أقرب إلى عروض (ميتشيل) منه إلى عرض (عدو البشر)، في أنه يقدم سردا بصريا متسقا ومتتابعا، مماثل لتصوير أعمال شكسبير الدرامية سينمائيا، وأحيانا يعرض لنا مثل (ميتشيل) كيف أن تأثير مشهد معين يتم إنجازه آليا. والملمح الأكثر أهمية في هذا العرض ,رغم ذلك، هو الطريقة التي يتدخل بها الجمهور. واذا كان يمكن تسمية العمل بأنه بعد درامي، وهو غالبا كذلك، فان ذلك ليس لأنه يتخلى إما عن التمثيل أو الأمانة مع النص الأدبي، كما يقترح (ليمان)، ولكن لأنه يتحدى العلاقة المكانية للمشاهد / الأداء التي ظلت جزءا مقبولا في تقاليد المسرح الدرامي. فخلال المشاهد الافتتاحية لعرض «تراجيديات رومانية «تتبع الجمهور الجالس في القاعة هذه العلاقة، ورغم أن خشبة المسرح أيضا بها شاشة فيديو ضخمة تعرض الحدث. وبعد فترة قصيرة دعي المشاهدون، إذا رغبوا، أن يصعدوا إلى خشبة المسرح ويشاركون في مساحة الأداء (ليس فعليا رغم ذلك. فهم لا يستطيعون في الواقع أن يتحركوا مباشرة داخل المشهد، ولكنهم يستطيعون التجمع لمشاهدته من زوايا أخرى من بينها مختلف الأرائك والمقاعد علي خشبة المسرح، والتي توحي بأنها بهوا واسعا في فندق). ونتيجة لاستخدام مختلف أجزاء خشبة المسرح والمشاهدين المتجمعين في دائرة حول المؤدين، فان المشاهدين الموجودين في القاعة لا يستطيعون غالبا مشاهدة ما يحدث علي خشبة المسرح الا بواسطة شاشات الفيديو. وتوجد حانات عاملة أيضا خارج خشبة المسرح علي اليمين واليسار لكي يستطيع المشاهدون أن يذهبوا للترويح، ويديرون ظهورهم لخشبة المسرح، ولكن الشاشات أعلي الحانة تسمح لهم بمشاهدة نفس الفيديو للأداء مثل الباقين.
وفي الولايات المتحدة لم يشر المشاهدين والنقاد والمتخصصين إلى هذا العرض، بقدر علمي، بأنه بعد درامي. فقد كان المسرح المستخدم عموما هو المسرح المستغرق Immersive theater، والذي كان في اللحظة الحالية تحديا شعبيا لممارسة المسرح التقليدي في نيويورك. فقد جاء الاستغراق إلى الثقافة المسرحية في بداية القرن من عالم تقنية الكومبيوتر، حيث يصف الانغماس الواضح للذات في عالم رقمي افتراضي.
وفي المسرح الأنجليساكسوني، برز المصطلح من خلال فرقة «بانش درانك» البريطانية، والتي تكونت عام 2000، ولا سيما لخلق نوع جديد من المسرح تٌبتكر فيه بيئة متعددة يكون فيها المشاهدون أحرارا أن يدخلوا ويخرجوا كم يريدون. وهو تطور أكثر انفتاحا لشكل بريطاني مبكر يسمى «مسرح النزهة Promenade theater، والذي يعرض المشاهد في عدة مواقع، والتي يتم فيها نقل المشاهدين من موقع إلى آخر بطريقة محددة مسبقا.
وقد كان العرض الثامن لفرقة (بانش درانك) في 2003 «لا مزيد من النوم Sleep No more» بيئة متعددة الأماكن باستخدام الموتيفات والشخصيات وبعض المواد النصية من مسرحية «ماكبث «لشكسبير وفيلم (هيتشكوك) «رابيكا.». وقد أصبح هذا العرض إلى حد بعيد الأكثر نجاحا وتأثيرا. وقد أعيد عرضه في بوسطن عام 2009 ومرة أخرى في نيويورك، حيث مايزال يعرض وهو بلا شك أكثر عمل مسرحي تجريبي شعبية في هذه المدينة. وقد أصبح أشبه الشعيرة، حيث يعود إليه المشاهدون عشرات المرات، علي الرغم من أن سعر التذكرة 95دولار، وبذلك يتنافس مع عروض برودواي. ومصطلح «المسرح المستغرق» الذي قدمته فرقة «بانش درانك «قدمته إلى نيويورك، قد تم تطبيقه علي عشرات العروض التجريبية، وبالطبع علي أي عرض لا يستفيد من الانفصال التقليدي بين خشبة المسرح والمشاهد. وهناك مفتاح يدل علي المسرح المستغرق في نيويورك الذي أدرج نحو عشرين عرضا تحت ادعاء هذا الوصف. وقد اكتسب المسرح المستغرق أيضا بعض الرواج في فرنسا، وألمانيا، ولكنه أصبح يرى باعتباره أقصى تحدي لتقاليد المسرح الدرامي في لندن ونيويورك.
من المفترض بشكل واسع أن المسرح المستغرق قد عكس علاقة القوة التقليدية بين المؤدي والجمهور، مما جعل المشاهدين يتحكمون في العرض. وبالتالي فإنه يحقق، إلى أقصى مدى رؤية (جاك رانسييه) في تحرير المتلقي، الذي ظهر في 2007، واللحظة المثالية للاستفادة منه باعتباره الأساس المسرحي لعروض مثل عرض فرقة «بانش درانك» «لا مزيد من النوم «. بالطبع، لم يعمل ما يسمى المسرح المستغرق بتلك الطريقة. عموما، تعامل مثل هذه العروض المشاهدين بواحدة من ثلاث طرق. أولا، والأكثر تحفظا، العروض التي يجب أن تسمى «عروض التنزه «، والتي يتم فيها أخذ عدد صغير من المشاهدين إلى عدد من الأماكن، عادة في نفس المبنى، بنظام محدد مسبقا حيث يشتركون في نفس المساحة مع الممثلين الذين يؤدون المسرحية بنص وأسلوب تمثيل تقليديين. ثانيا، هناك عروض مثل «تراجيديات رومانية» يحدث فيها النص والأداء التمثيلي في مكان واحد أو عدة أماكن ويكون المشاهدون أحرارا أن ينتقلوا لمشاهدة العرض أو عدم مشاهدته حسب رغبتهم. ثالثا، هناك عروض مثل «لا مزيد من النوم»، لا تقدم معيار أداء نصي بل بالأحرى مجموعة من الأماكن المزخرفة يكون فيها المشاهدون أحرارا في التجول وهم يختارون. وبعض الأماكن تكون خالية، ولكن الأماكن الأخرى تحتوي علي الممثلين الذين يقدمون أجزاء من مادة نصية. وتستمر مثل هذه الأفعال شكل عادي وكأن المتلقين غير موجودين، ولكن أحيانا يجر أحد الممثلين المشاهد إلى مكان خاص ويتحدث اليهم فورا. لا يملك كل المشاهدين هذه الخبرة، وأولئك الذين يستطيعون لا يبادرون بالتجربة ولا يغيرونها. ويظل الممثل في سيطرة كاملة.
وقد اقتربت فرقة أداء أوروبية كبيرة اسمها «سيجنا Signa «تأسست بواسطة فناني أداء من النمسا والسويد، من تحرير الأداءات وبالطبع التقديم بعد الدرامي الحقيقي، في عرض مثل «نبؤة روبي تاون Ruby Town Oracle»، قدم في كولونا وبرلين عام 2007 و2008. ومن أجل هذا العرض بنت الفرقة قرية صغيرة علي حدود دولة افتراضية (وقد احتاج المشاهدون إلى إظهار جوازات سفرهم للدخول) مكونة من عشرين منزل مسكونة بنحو أربعين ممثل. وعلي الرغم من أن المشاهدين وافقوا علي اقتسام أرضية مشتركة متفق عليها، مدنيا وعقائديا، فلم تكن هناك قصة أو نص وكان المشاهدين أحرار في التجول وفي التفاعل بحرية مع الممثلين، ومتابعة قصة القرية من عدمه، وفقا لاختياراتهم. وفي برلين، كانت القرية مفتوحة باستمرار لمدة تسعة أيام ويأتي المشاهدون ويغادرون بحسب رغباتهم، ويؤسسون تجربتهم بعيدا عن المادة الخام للقرية. ولم يكن يسمى هذا العمل في ألمانيا «المسرح المستغرق «، فهو مصطلح لم يطبق كثيرا هناك، ولكن مصطلح «تثبيت الأداء performance installation، قد تم وضعه باعتباره مساو لتثبيت الفن أو الفن البيئي، وهو شكل تطور في السبعينات، وشجع المشاهدين علي معايشة أعمال فنية ثلاثية الأبعاد عن طريق التحرك بداخلها.
تقترب أعمال التثبيت هذه من المسرح بعد الدرامي بواسطة التخلي عن النص التقليدي وبالسماح للمتلقين بمزيد من التحكم في تشكيل الأداء ومعايشته، ولكنها لا تزال مرتبطة، كما كان يسمى تقريبا «المسرح المستغرق»، بما يسميه البعض العدو الأساسي لما بعد الدرامي، وهو التمثيل نفسه. ومنذ أرسطو حتى الآن، كان التمثيل يٌرى بأنه أساس الفن المسرحي، وإزاحة النص المهيمن لا تتعلق بإزاحة التمثيل أيضا، وكما يوضح عرض «نبؤة روبي تاون»، مادامت البيئة المادية، وجسم الممثل يتم تفسيرهما تمثيليا. ولتناول المسرح بعد الدرامي بصدق، يوضح (ليمان) أن الجسم يجب أن يتحرر من قيود الشخصية التمثيلية، المستمدة بشكل تقليدي من النص الدرامي، وإطلاق حريته لكي يسجل الأدائي الخالص.
وأبرز تجليات هذا المسرح المعاصر، يمكن أن توجد في الأهمية المتزايدة، ولا سيما في ألمانيا، ولكن بدرجة أقل في أميركا وأماكن أخرى في أوروبا أيضا، لدمج المادة والإنسان وغير الإنساني، من الحياة الواقعية إلى داخل الأداء. فالتخلي عن سلب التمثيل والنص السردي الذي لا يزال باقيا لمنع المسرح بعد الدرامي من التحول إلى مادة خام للحياة اليومية هو الحقيقة التي تٌقدم إلى الجمهور في إطار مسرحي وأدائي. وباستخدام ما اقترحه (أمبرتو أيكو Ambdrto Eco)، في أحد مقالاته الحديثة عن سيميوطيقا المسرح، فان الأمر مسألة حدودية. في الواقع، توقعت نظرية السيميوطيقا أغلب ما يقدم الآن باعتباره نظرية بعد درامية في التمييز الموجود غالبا بين الأدائي والأحداث السردية في المسرح كما اقترح (أندريه هيلبو Andre Helbo)، أو بين السيميوطيقي والظاهراتي كما يقترح (برت أو. ستاتس Bert O states)، ومع المصطلح الأخير، في كلى الحالتين، فإنه يتطابق اليوم مع مابعد الدرامي بشكل أساسي. فالتغير الأساسي الذي حدث في الثلاثين سنة بين هؤلاء المنظرين و(ليمان) هو أنه بينما يرى السيميوطيقيين المسرح مثل ما يسميه (أو ستاتس) فنا مجهريا، مكون من مزيج بين الأدائي والسردي، فان مسرح (ليمان) بعد الدرامي يسعى إلى التخلي تماما عن التمثيلي من أجل الأدائي.
لا يزال (ليمان) في ظل جمالية تقليدية بالقدر الكافي يقترح أنه عندما يتحدث عن هذا التأكيد على الأداء، وعلي الجسم الحي غير التمثيلي وعلاقته بالبيئة المحيطة، يبقي هناك انطباع واضح بأن الجسم يقوم بشيء خاص، شيء بارع تكون فيه حالة المسرح بعد الدرامي غير قابلة للتمييز بشكل أساسي عن فن الرقص التقليدي. ويمكن أن يدعم الجزء المهم في النقد الشكلي ذلك الوضع. فما أشار إليه (ايكو) وآخرين منذ أربعين سنة، رغم ذلك، هو أن ما يجعل الفعل قابل للتلقي كمسرح بواسطة الجمهور ليس هو أي ملمح في الحدث نفسه، مثل البراعة الفنية، ولكن حقيقة أنه موجود في إطار باعتباره مسرحا. ومثال (ايكو) الشهير (المستمد من بيرس) هو أن الرجل المخمور قدم عرض جيش الخلاص علي المنصة. وقد يتم تناول عرضه كمثال نقي للمسرح بعد الدرامي. فالرجل المخمور هو ما هو، إذ يتم التخلص من التمثيل، ومن المؤكد أنه لا يوجد نص ولا سرد. ومع ذلك، يزعم (ايكو) أن الرجل من أجل الدلالة، علي أساس عرض جيش الخلاص، قد تحول إلى علامة علي السكر، وهو يقدم الدليل علي رجاحة عقله. والمثال الأوضح الذي قٌدم بواسطة أفضل فينومينولوجي مسرحي في أواخر القرن، وهو (برت أو ستاتس) في مقالته الكلاسيكية «الكلب علي خشبة المسرح The Dog on The stage». فكلب خشبة المسرح مثل (لونس) في مسرحية «نبيلان من فيرونا «، قد تعرى تماما حمل الرجل المخمور عند (ايكو). فهو ليس فقط غير تمثيلي، بل هو غير دلالي أيضا، بمعنى أن أيا كان ما يفعله فهو بدون نص، أو أنه بالأحرى يخلق نوعا من النص بما يفعله. وهذا، كما اقترح، هو مسرح غير درامي non - dramatic theaterفي أنقي أشكاله. إذ إنه أصبح مسرحا بسبب وضعه في إطار مسرحي.
مثل هذا التقديم للعالم الحقيقي في الواقع يرجع إلى تاريخ المسرح، ولكن شهدت السنوات الحالية غارة غير مسبوقة للحقيقي في الفراغ المسرحي، وعلي الرغم من أن الأداء من هذا النوع لم يلق اهتماما كبيرا من (ليمان)، فانني اعتبره، مثل كلب (برت أو ستاتس)، أكثر أنواع الأداء بعد الدرامي اتقانا واثارة في المسرح المعاصر. ولعل الرائد الرئيسي لهذا النوع من المسرح في الولايات المتحدة والذي من شأنه أن يكون علي غرار المسرح بعد الدرامي هو بالتأكيد «ووستر جروب» في الستينات، وهي الفرقة التي تحدت التمثيل التقليدي والنصية من أجل التجربة البدنية المباشرة. وفي جولاتها الأوروبية، فعلت الكثير لتشجيع هذا النوع من العمل. وبالتالي، اكتشف «ووستر جروب «بطريقة مختلفة تماما، الكثير من اهتمامات الأداء المماثلة. ولعل الحضور الرئيس للفنان (سبولدنج جراي) وعروضه المتعلقة بالسيرة الذاتية كانت مهمة جدا في تطوير تقاليد الأداء بعد الدرامي في أواخر القرن العشرين في الولايات المتحدة، ولا سيما المرتبطة بالمسرح النسوي، الذي استنكر فيه الفنانون التمثيل التقليدي بالكلام عن حياتهم داخل أجسامهم.
في القرن الحادي والعشرين، أصبحت الأداءات التي استفادت من المادة غير التمثيلية جزءا مهما من الطليعة في كثير من الدول، ولا سيما في ألمانيا. وربما أشهر فرقة هي «ريميني بروتوكول Rimini Protikoll «، التي تكونت عام 1999 وتكرست لإبداع الأعمال التي تقوم عي المادة غير التمثيلية المستمدة من العالم الواقعي المحيط. وبغض النظر عن مصادرهم غير التقليدية، فان الفرقة معروفة أساسا بوضع الناس العاديين من خارج المسرح والذين تجدهم خلال مختلف إجراءات إسناد الأدوار، وليس الممثلين. وتقديم مثل هذه النماذج يختلف بشكل كبير علي مدار عملهم. يتباين تقديم هذه الأشكال تباينا كبيرا أثناء عملها، ولكنه دائما ما يكون غير تمثيلي ويستند إلى حد كبير علي الحياة الفعلية وخبرات المؤدين فضلا عن أي نص خارجي موجود مسبقا. ولا يتضمن الأداء هنا مهارة بارعة، كما يقترح عادة عندما كان (ليمان) يتحدث عن الجانب البدني لما بعد الدرامي، ولكن كان يتحدث علي العكس عن تقديم الجسم الحي. فالعدو الحقيقي لما بعد الدرامي هو التمثيل. وربما المدهش، وبالنسبة لبعض للمشاهدين، أن يأخذ المزعج في الأداء المعاصر ما بعد الدرامي في اتجاه لم يتوقعه (ليمان) مطلقا. فهذا عمل المؤدين الذين لديهم بعض الشذوذ الذهني أو البدني.
............................................................................................
?\? • مارفن كارلسون (1935) يعمل حاليا أستاذا للمسرح في جامعة نيويورك سيتي. وله الكثير من المؤلفات في مجال المسرح:
• خشبة المسرح المسكونة: المسرح باعتباره آلة للذاكرة The Haunted Stage: theater as memory machine 2003
• التحدث بالألسنة: اللغة في اللعب في المسرح Speaking in Tongues: Language at Play in Theater 2009
• تحطيم مرآة هاملت: المسرح والواقع Shattering Hamlet’s Mirror: theater and reality 2016
• نشرت هذه المقالة في مجلة Rev. Bras. Esud. Presenca، عدد سبتمبر (أيلول) 2015


ترجمة أحمد عبد الفتاح