بدايات المسرح في حلوان (1)

بدايات المسرح في حلوان (1)

العدد 587 صدر بتاريخ 26نوفمبر2018

بدأ النشاط المسرحي في مدينة حلوان يوم الأحد الموافق الثامن من مارس عام 1891، عندما افتتح الخديو توفيق تياترو كازينو حلوان، الذي بناه الخواجة سوارس صاحب شركة حديد حلوان. وقد نشرت جريدة (المقطم)، وصفًا لهذا الافتتاح، قالت فيه: «اعترف الناس باليد البيضاء لجناب الوجيه الخواجة سوارس على ما أتمه من التحسين والتزيين في مدينة حلوان، حتى زادت رغبة الناس في سكناها وترويح النفس بنزهتها وبهجتها. وقد احتفل أمس بافتتاح الكازينو الجديد الذي أنشأه الخواجة سوارس بها فتقاطر الناس إلى حلوان أفواجًا، حتى زادت تذاكر الذهاب والإياب على ألف وخمسمائة. وكان الاحتفال شائقًا والازدحام فائقًا، شرفه سمو الخديو المعظم ودولتلو وعصمتلو الحرم المصون بحضورهما عصر النهار. وتلت إحدى الممثلات قصيدة باللغة الفرنسية من نظم حضرة الموسيو توشار رئيس القلم الأفرنجي في نظارة الداخلية، قابل فيها بين ما كانت عليه حلوان قبلاً وما صارت إليه الآن بظل سمو الخديو المعظم. ثم أعيد التمثيل مساء وحضره جماعة من الذين فاتهم تمثيل النهار. وبالجملة فقد كانت الحفلة شائقة والنزهة رائعة وعاد الناس مسرورين».
وبافتتاح هذا الكازينو، بدأت حلوان تدخل التاريخ المسرحي من أوسع أبوابه!! فقد عرضت على خشبة مسرحه أغلب الفرق المسرحية العربية وبعض الفرق الأجنبية والجمعيات الأدبية.. إلخ، كما سيأتي ذكره!! وسأبدأ بالحديث عن أهم الفرق المسرحية العربية، وأكثرها شهرة، مثل: فرقة إسكندر فرح، وفرقة أبو خليل القباني، وفرقة سليمان القرداحي، وفرقة الشيخ سلامة حجازي، وفرقة جورج أبيض.. إلخ.
فرقة إسكندر فرح
هي من أهم وأشهر الفرق المسرحية في مصر في القرن التاسع عشر، حيث إنها فرقة تمتلك إمكانيات نجاحها من خلال نجمها اللامع الشيخ سلامة حجازي، ومسرحها الثابت في شارع عبد العزيز – سينما أوليمبيا – ومؤلفها الفذ الشيخ نجيب الحداد. هذه الفرقة بدأت أول عرض مسرحي لها في كازينو حلوان بمسرحية (أفيجيني) أو (الرجاء بعد اليأس) يوم 29/ 11/ 1891، وحضر التمثيل الخديو توفيق، ونشرت جريدة المقطم كلمة يوم 30/ 11 / 1891، وصفت فيها العرض مع نقده بصورة لافتة للنظر - حيث إن أغلب الكتابات في تلك الفترة، كانت من باب الدعاية والإعلان – قالت فيها:
«مثلت عصر أمس رواية (أفيجيني) أو (الرجاء بعد اليأس) في كازينو حلوان، وقد حضرها سمو الخديو المعظم، وجمهور غفير من الخلق. وافتتحت الرواية بتلاوة خطبة وجيزة وقصيدة رائعة في مدح الجناب العالي من قلم الأديب نجيب أفندي حداد مؤلف هذه الرواية. وقد أجاد الممثلون جميعًا في تمثيل أدوارهم، وأطرب المنشدون والمغنون بما حرك القلوب وأثار الأشجان. وكان لتمثيل أغاممنون وقع عظيم في كثير من المواضع؛ وخصوصًا عند مخاطبته لعولس يعتذر إليه عن تردده في ذبح ابنته، ويقول له: لو كنت مكاني وكان ابنك تليماك هو الذي يطالبونك بذبحه لعذرتني ورثيت لحالي. ثم جاءت ابنته أفيجيني تسلم عليه وتضمه إليها، وهي لا تدري بما دبره لها من الموت الزؤام، ففر منها مذعورًا، وقد أكفهر وجه، وظهرت عليه مظاهر اليأس واضطربت عواطفه. وما أحلى ما خاطبها به بعد ذلك مهونًا عليها وعلى نفسه احتمال هذا الخطب، حيث قال ما مؤداه: إن رضاءهما بالموت سيعلم اليونان كيف تسيل دماء ملوكهم ويستسهلون الموت في سبيل الوطن. أما أفيجيني فقابلت خبر تقديمها ذبيحة بالتجلد والصبر، وكانت مظاهر السذاجة وسهولة الخُلق ظاهرة في جميع حركاتها وسكناتها، بما حرك العواطف، وكان له أعظم تأثير في النفوس. وخصوصًا لما خاطبت خطيبها أشيل تذكره بالواجب عليها لأبيها، واستسهالها الموت في سبيل مرضاته. ثم لما جاءت باهتة تلتمس حنانه وشفقته وتقول له: إنها طوع إرادته لا تخالف له أمرًا ولا تعصي له نهيًا. وقد أعجب الحاضرون كل الإعجاب بما رأوه من حسن تمثيل كليمنستر وقد غاب صوابها بعد أن ساقوا ابنتها أمامها للذبح، وظلت تستغيث بالله وتخاطب الرياح والسماء والكواكب، وتكثر من النواح والبكاء بما يفتت الأكباد ويحرك الجماد. أما أشيل فأثار الأشجان بنغماته المطربة، وهو وأن قصر عن أشيل بطل اليونان طولاً، لم يقصر عنه حولاً وطولاً في إظهار ما يناسب المقام من الحماسة والإقدام، وخصوصًا ما أظهره في ختام الفصل الثالث إلا أن البعض انتقد قبض الجند عليه، ومحاولتهم أن يسوقوه صاغرًا وهو بطل اليونان المشهور. وقد أجادت الأسيرة في تمثيل دورها على إظهار ما أكنه فؤادها من الغيرة والحقد، فمثلت ذلك أحسن تمثيل. وختمت الرواية بتمثيل فصل مضحك فسر الحاضرون وانصرفوا يثنون ويشكرون».
وفي ديسمبر 1891 عرضت الفرقة مسرحيتين بالكازينو: الأولى (محاسن الصدف)، وقد حضرها الخديو بصحبة مصطفى فهمي باشا رئيس مجلس النظار – أي رئيس الوزراء – وبعد انتهاء عرض المسرحية، حدث انقطاع في الكهرباء، وصفته جريدة المؤيد قائلة: «وبعد انتهاء الرواية قام المشخصون بتمثيل فصل مضحك، وقد لاحظ الجميع على الخدمة إطفاء النور الكهربائي قبل انتهاء هذا الفصل، وألتزم الكثير أن يبارحوا المحل، وعسى أن لا يحصل ذلك في المستقبل». أما المسرحية الأخرى، فكانت (أبو الحسن المغفل)، التي قالت عنها جريدة المؤيد أيضًا: «هي رواية فكاهية أدبية ذات مناظر بديعة «. وفي عام 1893 مثلت الفرقة مجموعة مسرحيات في الكازينو، منها: حمدان، وأنس الجليس، وعجائب الأقدار، والاتفاق الغريب، وكلها بطولة الشيخ سلامة حجازي. وفي عام 1894 مثلت الفرقة مسرحيتي: تليماك، وصلاح الدين الأيوبي مع قلب الأسد.
وبداية من عام 1896 اتخذت فرقة إسكندر فرح تقليدًا جديدًا في عروضها بحلوان، حيث خصصت ليلة يوم الأحد من كل أسبوع لعروضها المسرحية في الكازينو، وبقية الأيام في مسرحها بشارع عبد العزيز. ووفقًا لهذا التقليد، عرضت الفرقة مسرحيات: مي وهوراس، والخليفة أبو جعفر المنصور، ومحاسن الصدف، والمهدي، وعظة الملوك، ومظالم الآباء. والجدير بالذكر إن مسرحية (مظالم الآباء) نالت اهتماما خاصًا من قبل جريدة المقطم، فكتبت عنها عدة أسطر بها معلومات مهمة!! فقد قالت الجريدة يوم 22 ديسمبر 1896، قبل التمثيل الآتي: «يمثل جوق حضرة الأديب إسكندر أفندي فرح رواية (مظالم الآباء) بكازينو حلوان مساء الجمعة الواقع 25 الحالي، ويقوم بأهم الأدوار الشيخ سلامة حجازي. وقد تفضل حضرة المطرب عبده أفندي الحمولي بتشنيف الأسماع في أثناء التمثيل على تخت العقاد. وسيقوم قطاران خصوصيان من حلوان الساعة 12 والدقيقة 25 والساعة 2 بعد منتصف الليل». وقالت الجريدة بعد التمثيل - يوم 26 ديسمبر 1896 - : «كانت ليلة أمس في تياترو كازينو حلوان ليلة باهرة، احتشد فيها جمهور كثير حتى ضاق على اتساعه بالحاضرين، ومثل جوق إسكندر أفندي فرح رواية (مظالم الآباء) تأليف حضرة الأديب خليل أفندي كامل معاون محطة حلوان، فأجاد الممثلون خصوصًا المطرب الشيخ سلامة حجازي، وأطرب الجمهور المطرب المشهور عبده أفندي الحمولي على تخت الموسيقى البارع محمد أفندي العقاد. فصفق له الجمهور».
ويُعدّ عام 1897 من أعوام تألق عروض فرقة إسكندر فرح في كازينو حلوان، حيث مثلت مسرحية (مطامع النساء)، التي كتبت عنها جريدة (الشرق) - يوم التاسع من يناير - نقدًا فنيًا وأدبيًا – بمقياس هذا الزمن – قالت فيه: «مثل هذا الجوق بإدارة حضرة الأديب إسكندر أفندي فرح رواية (مطامع النساء) الشهيرة أكثر من مرة في تياترو عبد العزيز وتياترو حلوان. وأجاد في تمثيلها إجادة استوجبت شكر الحضور وثناء الجمهور. كما وقعت هذه الرواية لدى العموم موقع الاستحسان والقبول، لأنها والحق يقال رواية تاريخية غرامية أدبية مؤلفة بيراع حضرة الأديب توفيق أفندي كنعان، بعبارة منسجمة غاية الانسجام، لطيفة الموضوع بديعة المعاني، كثيرة المناظر. وقد ازدادت رونقًا وجمالاً وحسنًا وكمالاً بإتقان التمثيل، الذي أظهره المشخصون والمشخصات. نخص بالذكر منهما حضرة عندليب زمانه الممثل البارع والمطرب الشهير الشيخ سلامة حجازي. فإنه مثل دور أتلود بغاية الاتقان، فأطرب وأجاد، وأثر في القلوب تأثيرا عظيمًا. وحضرة ممثلة دور كاترين التي شخصته على ما يرام من براعة التمثيل، لما يتخلل هذا الدور من الانفعالات والتأثيرات. وحضرة مشخص دور الملك الذي أجاد كل الإجادة في إظهار عواطف الحدة والغضب. وحضرة ممثلة دور الأميرة مارغريت، التي أعربت بتمثيلها عن رقيق الحسان والمشاعر في سبيل حبها المفرط. فنشكر للجوق المومأ إليه عمومًا براعته وجدارته ونظامه شكرًا جزيلاً، ونثني على أريحة المؤلف الأدبية ثناءً جميلاً، ونتمنى لحضرة مدير الجوق نجاحًا مستمرًا وتوفيقًا دائمًا ولكل مجتهد نصيب».
بهذا التألق أكملت الفرقة عروضها الناجحة في كازينو حلوان طوال عام 1897، لا سيما وجود المطرب عبده الحمولي، وغنائه بين الفصول. ومن أهم العروض: السر المكنون، وضرر الضرتين، وصلاح الدين الأيوبي مع ريكاردوس قلب الأسد، وأنس الجليس، وحمدان، وشهداء الغرام، والاتفاق الغريب. وهذه العروض كانت من تمثيل سلامة حجازي، وأحمد أبو العدل، وسليم وتوفيق فرح. ومن العروض التي تحدثت عنها الصحف، مسرحية (محاسن الصدف)، التي قالت عنها جريدة المقطم يوم 19/ 2/ 1897: «يمثل جوق حضرة الأديب إسكندر أفندي فرح هذا المساء في حلوان رواية (محاسن الصدف). وسيعين دخلها لمساعدة عائلة بائسة أخنى عليها الدهر، ويقام أيضا يانصيب مجانًا فنحث الجمهور على حضور هذه الليلة الخيرية. والله يجزيهم خيرًا».
استمر تألق فرقة إسكندر فرح في عروضها بحلوان طوال عام 1898 – أسوة بالعام السابق – وبدأت بعرض مسرحية (غرام وانتقام)، التي أعلنت عنها جريدة (المقطم) يوم 14/ 1/ 1898، قائلة: «يمثل جوق حضرة الأديب إسكندر أفندي فرح مساء الاثنين القادم في تياترو كازينو حلوان رواية (غرام وانتقام) أو (السيد) لحضرة الشاعر الفاضل نجيب أفندي الحداد صاحب جريدة لسان العرب. وقد أقبل الجمهور إقبالاً عظيمًا عليها في بدء تمثيلها، لأنها من أبدع الروايات العربية نظمًا ونثرًا، ولجودة مناظرها وحسن تبويبها، ولما تضمنته من المعاني الشائقة والمباني الرائعة. وسيكون الدور المهم فيها لحضرة الممثل المشهور الشيخ سلامة حجازي. وقد وعد حضرة المطرب المبدع عبده أفندي الحمولي المشهور أن يطرب الجمهور تلك الليلة على تخت حضرة الأديب المهذب محمد أفندي العقاد، وخُصص دخل تلك الليلة لحضرة الشيخ نجيب الحداد، فنحث الجميع على حضور تمثيلها واغتنام أوقات السرور».
ومن العروض الجديدة، التي مثلتها الفرقة في حلوان، مسرحية (صدق الإخاء) تأليف إسماعيل عاصم المحامي. أما أهم عرض قدمته الفرقة فكان عرض مسرحية (غانية الأندلس) تأليف خليل كامل معاون أول محطة حلوان، الذي استغل وجود ابن ملكة إنجلترا في حلوان فدعاه لحضور التمثيل، كما دعا أغلب السُياح المرافقين له، هكذا قالت جريدة المقطم يوم 21 فبراير 1898. وبعد العرض كتبت جريدة (المقطم) كلمة، قالت فيها: «مثل أمس في تياترو حلوان جوق حضرة الأديب إسكندر أفندي فرح رواية (غانية الأندلس)، فزينت جدران التياترو بالأنوار والأعلام المختلفة، وغصت القاعة بالحاضرين ومنهم السياح الذين في حلوان. فأجاد الممثلون كل الإجادة ولا سيما المنشد البارع الشيخ سلامة حجازي، وشنف الأسماع حضرة المطرب المشهور عبده أفندي الحمولي على تخت حضرة الأديب محمد أفندي العقاد فغنوا فصلين، ثم نهض عزتلو الدكتور الحاج أحمد بك شافعي الأفوكاتو، واستدعى حضرة مؤلف الرواية خليل أفندي كامل، وامتدحه على بلاغتها وحسن تركيبها وسرور الحاضرين منها، فتشكر لعزته وللحاضرين وللجوق، واعتذر عن الإيجاز بكلام لطيف فصفق له الحاضرون».
وبناءً على مقولة «دوام الحال من المحال»، بدأ تألق فرقة إسكندر فرح يخفق تدريجيًا بالنسبة لعروضها بحلوان في السنوات الأولى من القرن العشرين!! ففي عام 1900 عرضت الفرقة في كازينو حلوان مسرحيتي (حلم الملوك) و(السيد). وفي عام 1901 مثلت مسرحية (حسن العواقب)، وفي عام 1904 مثلت مسرحيات: حفظ الوداد، وتليماك، وحسن العواقب. أما في عام 1905 فلم يعرض الجوق شيئًا لأن نجمه الأوحد الشيخ سلامة حجازي انفصل عنه، وكوّن لنفسه فرقة أخرى. وفي عام 1906 جاء إسكندر ببديل للشيخ سلامة حجازي، وهو الشيخ أحمد الشامي، الذي لم ينجح في سد فراغ الشيخ سلامة. ورغم ذلك حاول إسكندر فرح أن يعرض بعضًا من مسرحياته في حلوان بطولة أحمد الشامي، ومنها: (ابنة حارس الصيد)، و(عداوة الأميرين أو عدل الخليفة)، و(الانتقام الدموي)، وهذه المسرحيات ظلت الفرقة تعرضها كل فترة في حلوان حتى توقفت الفرقة نهائيًا عن العمل عام 1909.


سيد علي إسماعيل