«بهية».. حكاية شعبية راقصة

«بهية».. حكاية شعبية راقصة

العدد 636 صدر بتاريخ 4نوفمبر2019

قدمت فرقة فرسان الشرق للتراث والرقص المعاصر – دار الأوبرا المصرية - العرض المسرحي “بهية” عام 2018 وقدم العرض على مسارح دار الأوبرا بالقاهرة والإسكندرية، وتسابق العرض في مهرجان المسرح الحر بالأردن في دورته 14 سنة 2019م وفاز بجائزة أحسن عرض جماعي، وجائزة أحسن أداء تمثيلي (ياسمين سمير بدوي) وفي سنة 2019 تم تقديم العرض في الدورة الثانية عشرة للمهرجان القومي للمسرح المصري، كذلك الدورة السادسة والعشرين لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي.
“بهية” هي حكاية من حكايات التراث الشعبي المصري معروفة باسم “ياسين وبهية”، ومن أهم خصائص التراث الشعبي أنه موروث ليس من ابتكار راوٍ معروف، ولذلك فمن حق راوٍ آخر أن يطور الحكاية سواء بالحذف أو الإضافة أو تعديل المضمون وفقا للواقع الاجتماعي أو تجربة شخصية وتقديمه برؤية فنية معينة. قام المطرب الشعبي محمد طه بغناء موال يسأل فيه (يا بهيه وخبريني عل اللى جتل ياسين، جتلته السود عنيا يابوي من فوق ضهر الهجين)، التقط نجيب سرور الحكاية وقدم نصا مسرحيا (ياسين وبهية) سنة 1965م، وقال إن من قتل ياسين هو الباشا، كما تغزل محمد العزبي في عيون بهية بكلمات محمد حمزة ولحن بليغ حمدي. قام محمد فؤاد بدمج السؤال عن من قتل ياسين من موال محمد طه، ونص نجيب سرور في عمل فني (بهية)، لكن ياسين ينتصر على الباشا ولم يظهر لنا أن الباشا هو من قتل أو حرض على قتل ياسين.
يبدأ العرض بموت ياسين ومن خلال الأحداث نعلم أن ياسين قُتل، وبهية هي الأنثى، هي الأرض، هي محور الصراع بين ياسين والباشا، الباشا في قمة الهرم الاجتماعي، إن لم تكن بهية ذات قيمة كبيرة فلِم يسعى الباشا لامتلاكها، الباشا يريد أن يكمل سطوته لامتلاكه لها، بهية هي الحقيقة الملهمة لكل من يقف ضد الظلم، ينتهي العرض المسرحي ويبقى السؤال: من قتل ياسين؟ صاغت المخرجة (كريمة بدير) حكاية بهية في دراما حركية راقصة يتخللها بعض الكلمات، كمشهد الودع، وكانت الدراما الحركية (تابلوهات راقصة) لأكثر من (بهية – ياسين – الباشا) أبلغ من الكلام، من هذه التابلوهات حب ياسين لبهية واستخدام التحطيب الذي يعبر عن القوة والبهجة في التراث المصري وبخاصة حفلات الزواج، معركة تشابك ياسين مع الباشا وانتصار ياسين، محاولات الباشا اغتصاب بهية ومدى معاناتها وتململها وسحقها على الأرض، لدرجة أنه يدوس بقدمه عليها ويخطو من فوقها في امتهان للإنسانية.
لاستكمال الصورة البصرية (أنيس إسماعيل – صمم الديكور والملابس) كان الديكور عبارة عن منزل ريفي بسيط من الداخل على يسار مقدمة المسرح (منزل بهية) به أريكة وقلل وزلعة وزير استقبلت فيه بهية ضاربة الودع، وفي عمق المسرح عدد اثنين بانوه بجوار كل منهم أربعة بانوهات على يمين ويسار المسرح مشدود على كل منها بانر ذو لون أبيض استخدم كشاشة عرض، وترك الفضاء المسرحي للدراما الحركية، وقد عبرت المخرجة بمنطقة عمق المسرح مكانا للمقابر، وقد ارتبطت الملابس بالفكرة الأساسية للعرض بأنه عرض من التراث الشعبي ويجسد بالدراما الحركية الراقصة، فبشكل عام النساء في الصعيد يرتدون الملس الأسود عند خروجهم خارج باب الدار، والخروج يدل على الحركة والحركة هي الحياة، أما حالة السكون والثبات فتدل على الموت فقد توقفت عجلة الحياة، وفي الموروث الشعبي اللون الأسود يدل على الاحتشام أو الحزن واللون الأبيض عكس الأسود، فقد ارتدى الراقصون الملس الأبيض المعبر عن الكفن في المشاهد المعبرة عن الموت، وقد ارتدت بهية بطلة العرض جلباب رقص ينتمي للموروث الشعبي يسمى لبس الغازية لونه أحمر معبرا على الحب والعشق للأنثى ويميز بطلة العرض عن بقية الراقصات كما أنه يساعد في سهولة حركة الراقصة، ومن الممكن جذب عين المتلقي لبطلة العرض حيث إنه وجدت أكثر من بهية.
في نهاية العرض ارتدت الراقصات جلباب الرقص الأبيض المطرز باللون الذهبي من الأمام في دلالة على البهجة والتفاؤل وتحية المتلقي. وقد ارتدى الرجال الجلباب والطاقية والعمة والشال وهي الملابس المعبرة عن بيئة الصعيد، وارتدى الباشا الزي الأفرنجي لونه داكن فهو من بيئة مختلفة. وكانت الإضاءة والفيديو بروجيكتور عنصرا مهما لثراء الرؤية البصرية وتكملة الحدث الدرامي، فعندما نشاهد المحتوى المقدم من الفيديو بروجيكتور نجد أنفسنا نشاهد فيلما سينمائيا، وعندما نشاهد التعبير الحركي الراقص مع الديكور نشاهد عملا مسرحيا مستقلا، ولكن عندما تم الدمج بينهما بالطريقة التي قامت بتنفيذها المخرجة، نجد أنفسنا أمام عمل فني متكامل، يتعرف منه المتلقي على أحداث العرض بسهولة ويسر، حتى لو كانت هناك اختلافات في التأويل طبقا لثقافة المتلقي ستكون في نطاق ضئيل، ورؤية بصرية جمالية.
أما الإضاءة فقد استخدم اللون الأزرق والدخان في مشهد المقابر، وفكرة موت البشر، وميلاد بشر جديد لهم نفس الطباع، في إشارة بأن دورة الحياة مستمرة، على الرغم من أن أهل القرية يعيشون حالة من الرتابة والملل، واستخدم اللون الأخضر للتسامح والخصوبة والنماء عند دخول شخصيات العرض (أهالي القرية – ياسين وبهية ووالد كل منهما) وأكد المعنى ظهور الساقية والزرع والشجر على شاشة العرض (البانوهات)، أما اللون الأحمر استخدم مع دخول الباشا وعرض شريط القطار معبرا عن الشر الذي يكمن في نفس الباشا، وأيضا استخدم في مشهد اغتصاب بهية وظهور الحيوان وهو يفترس الفريسة، واللون الموف (بنفسجي مائل للأحمر) في دلالة على الحب والعشق والشهوة في المشاهد التي جمعت ياسين مع بهية، أما اللون البرتقالي استخدم في الصراع بين ياسين والباشا وانتصار ياسين في تعبير عن الفرح والنشوة بالانتصار، واللون الأصفر استخدم في بور ضوئية لإنارة وجوه الراقصين.
أما الموسيقى فقد أعدتها المخرجة عن موسيقى عالمية وصياغتها بذكاء في قالب شرقي في معظم المشاهد، ممزوج أحيانا بالقالب الغربي كما في مشهد اغتصاب بهية، كانت الآلات الموسيقية عبارة عن آلات الإيقاع كالدف والطبلة والدرامز، وآلات النفخ كالناي، وآلات وترية أجاد كل الراقصين (ياسمين سمير – هاني حسن – نادر جمال – إسلام محمد – أشرف محمد – رضا رنجو – حسن رشا – فاطمة الشناوي – نوران – دينا محمد – حبيبة – زينب – باسم - محمد هلال – أمجد – نور).
تحية للمخرجة كريمة بدير والمعد محمد فؤاد، فعلى الرغم من أن الفكرة من الموروث الشعبي نظرا لطبيعة نشأة الفرقة، وعلى الرغم من أنني كنت أتمنى تطورها بما يتناسب مع واقعنا، ولا تتوقف عند الستينات، فإنهم قدموا وجبة فنية لذيذة برؤية بصرية ممتعة.


جمال الفيشاوي