كعب عالي..صراع المرأة من أجل قشور فارغة

كعب عالي..صراع المرأة من أجل قشور فارغة

العدد 631 صدر بتاريخ 30سبتمبر2019

من أين ينبع الصراع بين الرجل والمرأة؟ وما أسبابه؟ ومارهي كينونة ذلك الصراع؟ وما السبيل للتعامل معه؟ وما نتيجته في النهاية؟ تدور تلك التساؤلات في الذهن مع مشاهدة العرض المسرحي (كعب عالي) سيناريو وإخراج محمد الطايع من إنتاج التجارب النوعية لقصر ثقافة القباري بالإسكندرية التابع للهيئة العامة قصور الثقافة، الذي عرض بالمهرجان القومي للمسرح على مسرح البالون. قدم فيه المخرج محمد الطايع رؤية حركية راقصة من خلال دراما حركية معبرة، حيث يبدأ العرض بمونولوج للمرأة تعلن فيه عن تحديها للرجل ورفضها الداخلي له، هكذا في المطلق دون سبب وقبل أن نعرف أصلا ما هي المشكلة، لتبدأ الحكاية بعد ذلك التي تعبر عن علاقة بدأت بينها وبين الرجل بشكل جيد ثم كسرها الصراع الجنسي بين ما يكون وما يجب أن يكون، حتى تعلن المرأة عن تفضلها عليه بإيهامه بقوته وفحولته، دون أن نرى سببا لتقلب مزاجها ضده سوى رفضها لجنس الرجل منذ البداية حيث نشاهد مشاهد راقصة معبر عن طموحها وأحلامها الهشة البسيطة المتمثلة في الرغبة في الحرية الجسدية والانطلاق نحو الرقص والغناء وممارسة كل شيء كما تريد دون قيود زوجية أو مجتمعية، وينسحب كل هذا عليها في المجتمع الصغير المنغلق وحتى بين أبواق المدينة وزحامها ومبانيها الشاهقة، ليصل الأمر إلى الشك في سلوكها فيدفع الزوج أخاها ليقتلها بيده، لتنتهي قصة انطلاق الفتاة بموتها، ثم محاولة بث الأمل مرة أخرى في النهاية حيث تظهر للزوج في أحلامه، لينتهي العرض.
فكرة بسيطة حاول فيها المخرج التعمق لكنه استعرض قضية هشة حيث اختصر قضايا المرأة ومشكلاتها في ناحية شكلية فقط بنزوعها نحو الرغبة والبحث عن قشور الحياة فأعطى هنا صورة للمرأة توضح أنها كائن سطحي لا يحمل فكرا وليس لديه قضايا كبرى يمكن أن تشغله أو يشارك في حلها في المجتمع أو في العالم كله وفي هذا تأكيد أفكار المجتمع الذكوري من أن المرأة مجرد وعاء جسدي لا أكثر. كما أرى أن الربط الذي وضعه المخرج بينها وبين شفيقة من خلال المونولوج المأخوذ من مسرحية شفيقة ومتولي، لا يستقيم مع الشخصية المرسومة في إطار العمل.
قام بتصميم الديكور دنيا عزيز الذي لم يستخدم هنا ديكورات ضخمة وإنما موتيفات بسيطة تمثلت في بانوهات قماشية بيضاء احتلت مساحة خشبة المسرح بأكملها كديكور ثابت، رسمت عليها أشكال أبواب وشبابيك مغلقة توحي بالسجن وقيد الحرية طغى عليها اللون الرمادي الذي يوحي بالحيادية وانعدام المشاعر أو الأحاسيس، واعتمد على تعامل كتلة الجسد المتحرك من خلال الدراما الحركية والرقص مع الفراغ المسرحي، ثم عمد إلى إسقاط ألوان مختلفة معبرة وأشكال متعددة من خلال الفيديو بروجيكتور على البانوهات القماشية لتمثل خلفيات ملونة معبرة عن كل مشهد درامي يتم التعامل معه حيث تباينت تلك الألوان ما بين الأزرق الحالم والأحمر معبرا عن الصراع والأخضر في رحلة للبحث عن أمل. وقد صمم الجرافيك والإضاءة محمد المأموني حيث استطاع المخرج توظيف وتنفيذ ذلك بشكل جيد حقق به إمتاعا بصريا وحسيا للمتفرج ساهم في تدعيم الموقف الدرامي.
تباينت المشاهد الدرامية الراقصة بأسلوب المشاهد القصيرة المتتالية، واتسمت بالتنوع ما بين توظيف الرقص الغربي والرقص الشرقي وصولا إلى رقصات المولوية الروحانية التي ترمز إلى السمو الروحاني بعيدا عن الجسد وأهواءه، وجاء ذلك التنوع ممتزجا مع موسيقى (قام بإعدادها محمد الطايع مخرج العرض) اختلفت ما بين الموسيقى الغربية والشرقية باستخدام آلات متعددة كل منها في موضعه مناسبا للحدث ومتوافقا مع الموقف الدرامي. وقد اختلطت الدراما الحركية والموسيقية مع بعض المونولوجات القصيرة المأخوذة عن أعمال أخرى توحدت جميعها في إبراز صراعات الأنثى مثل مونولوج جيرترود من مسرحية هاملت لوليم شكسبير ومونولوج الزوجة من مسرحية يرما للوركا ومونولوج ثالث من مسرحية شفيقة ومتولي لشوقي عبد الحكيم، أبرزت جميعها من خلال الرؤية الكلية للعرض كل المشاعر المتناقضة للأنثى ما بين الحب والتحدي وما بين الضعف والقوة والرغبة والشهوة والعند وعدم الاستسلام وقد استطاع المخرج بكل هذه التركيبة الفنية أن يبرز تكوين الشكل الجمالي الغير معتاد على عروض الثقافة الجماهيرية والذي اقترب من بشدة من الإبهار البصري للعروض الراقصة غاضا به البصر عن المضمون الدرامي وقوته وعمق الصراع ولعل هذا غالبا ما يتسم به مثل هذه العروض لأنها تبتعد عن الكلمة المكتوبة بحثا عن مجرد الشكل الخارجي فهي تنتمي لما يسمى بالعروض الشكلية التي لا تترك تأثيرا عميقا في المتفرج ويعتمد تأثيرها على توقيت مشاهدتها فقط حيث يتلاشى هذا التأثير بمجرد الخروج من صالة العرض. وهذا ليس اعتراضا على هذه النوعية ولكنه مطالبة بالعمل على الاهتمام بقوة المضمون دراميا. لكنه في العموم أجاد استخدام التكنولوجيا من خلال الجرافيك كخلفيات للمشاهد وبرع في توظيفها لكل حدث وحقق بها الإبهار البصري المطلوب للمشاهد.
كان اعتماد المخرج على التعبير الحركي الذي صممه (محمد ميزو) موفقا خصوصا أن تصميمه كان جيدا ومعبرا استطاع من خلاله توصيل الفكرة إلى المتفرج بشكل سلس دون تعقيد مع وضوح وسهولة فهم واستيعاب دلالات الحركة المرسومة لكل مشهد سواء أكانت بالجسد ككل أو بالإيماءات والإشارات، كما كان التسلسل الدرامي لها منطقيا محققا تصاعدا دراميا طفيفا مع الأحداث من خلال الحركة. وقد وصل بنا إلى التساؤل حول ماهية الصراع ما بين صراع الأنثى مع الرجل أو عالم الرجال أو العالم الآخر بالنسبة لها أو إنه صراع داخلي يختلج داخلها ويسبب اضطرابها النفسي.
كما كانت الملابس التي صممتها ريهام عبد الرازق مناسبة لبيئة العرض وأحداثه الدرامية، لكن يؤخذ عليها ارتداء المرأة بطلة العرض اللون الأسود في برولوج البداية حيث يعطي تأثيرا معاكسا لدي المتفرج خصوصا مع نبرة التحدي في المونولوج، مما يفقدها ويفقد قضيتها تعاطف المشاهد من أول وهلة.
وقد أجاد جميع المؤدين على خشبة المسرح بدءا من ريهام عبد الرازق بطلة العرض في دور المرأة أو الزوجة فتباينت معها الانفعالات صعودا هبوطا بين لهجة التحدي وبين لحظات الأنوثة والعشق، ما بين التناغم الجسدي مع الحلم والطموح والتحرر، وشاركها الإجادة الزوج سمير نصري الذي كان معبرا جيدا بجسده عن كل المواقف الدرامية والأحاسيس المناسبة للموقف الدرامي، ولا ننكر جماعية الأداء التي تميز بها الجميع وهم محمد هارون في دور الأخ وزكي محمد ومحمد علاء وإبرام مرقص ومحمد مسعد وغيمي عادل ودينا محمد وروان محمد وميكي ورضوى حسن وميرنا عراقي.
في النهاية نؤكد أنه عرض جيد ومتميز وله خصوصية نادرا ما نراها في مسرح الثقافة الجماهيرية بل ومسرح الدولة عموما. مع الأخذ في الاعتبار الملاحظات الخاصة بالاهتمام بقوة الصراع الدرامي وعدم اقتصار قضية المرأة في أمور شكلية تأتي بنتيجة عكسية ليدرك المتفرج أن غرض العرض يعني أن المرأة مجرد جسد وأهواء وغناء ورقص وأنها لا تملك أية قضايا فكرية أو اجتماعية أو سياسية، أي أنها فارغة العقل وهو عكس ما أراد توصيله صناع العرض.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏