بحضور تشيكوف وشقيقاته الثلاث.. افتتاح أسطوري للتجريبي

بحضور تشيكوف وشقيقاته الثلاث.. افتتاح أسطوري للتجريبي

العدد 528 صدر بتاريخ 9أكتوبر2017

كان حضور تشيكوف وشقيقاته الثلاث, ليلة افتتاح مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي, حدثا مبهرا, تجاوز حدود الجمال المألوف, وامتلك وهجا أسطوريا أنيقا, يكشف عن جماليات الاختيار الموفق لهذه المسرحية, التي جاءت تجريبية بمعنى الكلمة. وفي هذا السياق، تمثل مسرحية الشقيقات الثلاث, تحديا مثيرا للمخرج الجورجي كونستانتين بورتسيلادز الذي يقدم هذه المسرحية بأسلوب تجريبي جديد, بعد كتابتها بمائة وسبعة عشرة عاما, حيث كتبها تشيكوف عام 1900, وقدمها على المسرح لأول مرة, المخرج الروسي الأشهر ستانسلافسكي عام 1901, ومنذ تقديمها لأول مرة وحتى الآن قدمت المسرحية مئات المرات على كل مسارح العالم, ولم يحاول المخرجون اختراق عالم تشيكوف, وظلت تجاربهم ترتكز بشكل أساسي على لغة المؤلف الكبير, والحفاظ عليها كمدخل أساسي للمسرحية, وأسلوب مثالي لطرح شخصياتها على خشبة المسرح.
عندما يكتب تشيكوف يرقص الكون, ويغني البحر, ويتغير لون الأفق, وأوراق الشجر, فهو طاقة من الفكر والفن, ينسج الحب والوعي, يمثل علامة فارقة في تاريخ المسرح العالمي, يمتلك وعيا فريدا, بالواقع والحقيقة والإنسان, ولا تزال أعماله حية شديدة حية الوهج, تقبل الطرح والاشتباك والجدل, مع عذابات البشر وتناقضات الأعماق, فهو مفكر وفيلسوف ومسرحي عبقري, يؤمن أن الوجود الإنساني لا يعرف المستحيل, وأن الأمر الصعب يستدعي وقتا طويلا لأدائه, أما المستحيل فهو يستدعي وقتا أطول بعض الشيء, وفي هذا الإطار فإن الحقيقة الرهيبة عند تشيكوف, تعني أن اكتشاف الواقع القاسي المؤلم, الذي نعيشه ونتردد في تصديقه, هو فعلا واقع وحقيقة مؤلمة ملموسة, وسيظل هكذا, لذلك تباعدت مفاهيم المأساة عنده, عن الرؤى التراجيدية الساخنة, حيث السقوط المروع, والتكشف والتعرف والخلاص, واتجه إلى مفاهيم حديثة معاصرة, تؤكد أن تفاصيل حياتنا اليومية, هي مأساة في حد ذاتها, وأن الوجود البشري صلب قاسٍ وعنيد, يسجن قوى الإنسان وإمكاناته, ويخنق فرص انطلاقه.
تكشف أعمال تشيكوف عن عشق عارم لتصوير الشخصيات المعذبة المتخبطة في الحياة, بأسلوب واقعي, يمتزج فيه الأسى بالكوميديا, ويبعث تلك المشاعر الغامضة التي تحمل أصداء البكاء والدموع بين الضلوع, وتظل جماليات التحليل وعمق التصوير ومرارة السخرية وموجات الشجن التي تسكن أعماق الشخصيات, تظل تدفعنا إلى الزاوية الحرجة لنواجه مشاعرنا نحن, ونمتلك وعيا عميقا بمعنى الحقيقة والحياة.
ويذكر أن مسرح تشيكوف هو مسرح شخصيات وليس أحداثا, يدور دائما حول شعور الإنسان بالوحدة والاغتراب, تلك الوحدة التي تقود إلى الفشل والهزائم, والتي تتبلور جماليا وفنيا عبر أسلوب واقعي شديد الشاعرية والبساطة والوضوح, يتبنى فيه  تشيكوف موقف التعاطف والفهم الدقيق المدهش لشخصياته التي تعيش صراعا ممتدا مع تفاصيل حياة قاسية تستلب الروح والمعنى والهدف. تدور أحداث الشقيقات الثلاث حول أولجا وماشا وإيريني الباحثات عن وجود أكثر جمالا واكتمالا ويعشن في الريف الروسي يحاصرهن الفقر والغربة والغياب وبرودة الأعماق والطموحات المتوترة تصور لهن أن الحياة في موسكو هي الحل, حيث المدينة والوهج والصخب والعلاقات والدفء والثراء, يعشن وهما مخيفا أنهن ولدن في الزمان الخطأ والمكان الخطأ, لذلك يشتعل الصراع الوهمي في أعماقهن بين الواقع الكائن وأحلام ما يجب أن يكون, تلك الحالة التي تفتح المسارات أمام اشتباك غزير التفاصيل, يلامس طبيعة التحولات الاجتماعية التي حدثت في روسيا مطلع القرن العشرين, حيث وقائع السقوط والانحلال وغياب القيم واستسلام الشعب للأمر الواقع دون محاولة للحركة والفعل والتغيير والاستغراق المخيف في الأوهام والأحلام والاندفاعات العامة إلى علاقات مشبوهة غير مشروعة تنتهي بمزيد من الألم والانكسارات.
تشهد القرية الهادئة حدثا مثيرا يحرك الروح في كيان الشقيقات الثلاث, فقد وصلت إلى هناك فرقة الموسيقى العسكرية المكونة بالطبع من الشباب الناضج المسكون بنفس الرؤى المختلة التي تعيشها الشابات. وفي هذا السياق، تشتعل أمنيات الروح والجسد, ويصبح البحث عن الحب والشغف هو المعنى والهدف الذي يتحقق سريعا, فيصبح في حياة كل منهن رجل ورغبات وليال وعشق وبحث عن الارتواء, تلك الحالة التي لم تتحقق بعد أن سقطت الأقنعة سريعا, وتكشفت أبعاد الهوى الرخيص الذي استلب المعنى, وبعث فيضا من التساؤلات المؤسفة.
كان المخرج كونستانتين بورتسيلادز القادم من جورجيا إلى القاهرة في مهرجانها التجريبي, أمام مغامرة خطيرة يتصدى فيها لقطعة فنية رفيعة المستوى, ليقدمها وفقا لرؤية مختلفة تقترب بقوة من وقائع وجودنا الحالي الذي يفرض على الإنسان حالة من الانعزال داخل المجتمع نفسه ليصبح أسير ذاته الخاصة يشعر بنفس عذابات الشقيقات الثلاث مع العزلة, بحثا عن الزمان والمكان والمعنى, وعن الجنة التي يراها بعيدة, لكنها أقرب إليه من كل التصورات. وفي هذا الإطار اعتمد المخرج على التعبير الحركي ولغة الجسد, وتنازل تماما عن ثراء النص المدهش ليضعنا أمام حالة من الجمال الإنساني الخلاب, حيث جاء سيناريو التعبير الحركي مسكونا بحرارة صراع الشخصيات مع ذاتها وأعماقها ومجتمعها, وأصبحنا أمام قصيدة جسدية روحية فكرية صاخبة, تضع لغة الحركة في مواجهة مع شراسة عالمنا الوقح العنيد, وترسم بالمشاعر والضوء والموسيقى والألوان أدق العلاقات الإنسانية, وأكثرها احتياجا للخصوصية, ترسمها بلغة صامتة ترتقي إلى مستوى القداسة البشرية, وقد كان من المدهش والجميل أن نشاهد ذلك الإيحاء الصريح بلحظات الجنس الشاهقة, فتأتي الصياغة بعيدة تماما عن الرؤى التقليدية المتكررة, وتأخذنا إلى عالم مختلف لا حدود لجمالياته الأنيقة المسكونة بالمعنى والحضور والوهج وقداسة الجسد الإنساني, وبحثه عن الاكتمال المشروط بالقيم النبيلة والحرية الحقيقية, وليس الفوضى والغياب وعشوائية الرغبات والرؤى.
كانت خشبة المسرح الكبير بدار الأوبرا تموج بالاختلاف والبريق, الكوريوجرافيا تبدو بسيطة ناعمة لكنها معقدة ومركبة, تجمع بين الهدوء والعنف والسرعة والتوتر. أما الإيقاع، فقد احتفظ بتوازنه الهارموني الجميل, لذلك غابت  إيقاعات الملل تماما عن الحالة المسرحية المدهشة, وفي هذا الإطار تأخذنا اللحظات الأولى مباشرة إلى عالم تشيكوف الذي ظل حاضرا بقوة في النسخة التجريبية للشقيقات الثلاث. الرقص والباليه وحركة الجسد يتضافرون مع النص الموسيقي رفيع المستوى. أما منظومة الضوء, فقد كونت نصا دراميا موازيا تسقط موجاته من السوفيتة وترتفع لأعلى من البروجكتورات على خشبة المسرح لتبعث تقاطعات بالغة الجمال والدلالة, تلك الحالة التي تضع المسرحية في إطار من النعومة الدقيقة المنضبطة التي تخاطب الإنسان والمعنى والعذاب والاغتراب والليل وإيقاع الأيام.
لقد قدم المخرج كونستانتين بورتيسلادز عرضا تجريبيا عظيما لمؤلف عبقري, سيظل باقيا في قلب المسرح وعقله, ومن المؤكد أن الجمهور المصري والعربي قد لامس بوضوح معنى التجريب وجمالياته التي تتحرك في اتجاه الإرادة والجمال والاكتمال الإنساني. ويذكر أن المخرج هو نفسه مصمم الدراما الحركية, وأن الموسيقى كانت للفنان الفريد شنتك, وكانت السينوغرافيا لجو جرجي اوستياشفيللي.


وفاء كمالو