خالتي صفية والدير بين الموروث الشعبي والعرض المماثل

خالتي صفية والدير بين الموروث الشعبي والعرض المماثل

العدد 585 صدر بتاريخ 12نوفمبر2018

عندما وضع بهاء طاهر روايته “خالتي صفية والدير” أراد أن يقدم لنا الوحدة الوطنية التي تجمع قطبي الشعب المصري مسلميه ومسيحييه، فالطفل الذي اعتادأن يأخذه والده معه إلى الدير الشرقي بالقرية ليقدم التهاني للرهبان في أعيادهم، فلقد ربطتهما أواصر قرابة الجوار، فكان منزلهم أقرب المنازل مسافة إلى الدير، ليتناولا معا “البلح المسكر” الذي لايطرحه إلا نخيل الدير فقط، دون باقي نخيل القرية، ولعل ذلك رمز لما اختص به هذا المكان من مكانة طيبة.
قدمت كلية الآداب على مسرح قصر ثقافة بني سويف؛ العرض المسرحي “خالتي صفية والدير” المأخوذ عن رواية بهاء طاهر؛ حيث اجتهد المخرج محمد عبد المعطي، في عدم تغيير فحوى الرواية الأصل، وإن سعى لتقديم رؤيته الإخراجية في ربط الماضي بالآني، فلقد أراد أن يذكرنا بصور التعاون العديدة ، والتي تنوعت ما بين تقديم المساعدات، وتبادل الأغذيه والمأكولات بصورة منتظمة، مسلطا الضوء على هذه العادات الجميلة التي اعتاد أبناء الشعب الواحد بجميع طوائفه عليها، والتي من شأنها أن تقوي أواصر الترابط والتآخي، ذلك أن التطور الذي أصابنا جميع صور وأشكال التعاون بين الجماعات المتجاورة، قد تغير بصورة شديدة في ريف مصر وصعيده، فاختلفت ألوان التعاون، نتيجة سطوة المادة.
ويستهدف هذا التعاون والتآخي في مقامه الأول تيسير الأعباء والمواساة في الأحزان والمآسي، التي تقابلها الجماعة أو فرد بعينه من خلال تقديم صور المساعدة، فلقد قدم الدير يد المساعدة لـ (حربي) البطل حينما تعرض لظلم من قبل صفية بطلة الرواية، وخاله القنصل، وكان نتيجته أن قتل القنصل، وزج به في غياهب السجن، وخرج منه بعد ذلك مريضا، محتميا بالدير لكي يتعافى من مرضه، وهربا من الثأر الذي ينتظره علي يد صفية.
العشق هو العشق في أي مكان وزمان وفي قلب كل شخص، إلا أن صوره تختلف من شخص لآخر، ربما تصل حد الجنون، أو الثأر الانتقامي، فالعاشقة هنا صفية، أو (خالتي صفية) كما أطلق عليها بهاء طاهرفي روايته؛ لأنها في حقيقة الأمر تمثل صلة قرابة لوالدته، وما اعتدناه في مأثوراتنا الشعبية أو ما توارثناه بالقدم، أنه دائما ما يختلط الحق الأبوي بحق الأمومة، فضلا عن الاحترام القائم لمن هو أكبر سنا ومقاما وهو ما أوضحه الكاتب أيضا تجاه “الحاج” إمام المسجد ،حيث كان الجميع يجل له كل الاحترام، حتى القس بشاي، ورهبان الدير أنفسهم.
اتصفت صفية بالجمال، وأصالة النسب، فضلا عن كبريائها غير المتناهي، فرغم عشقها لحربي الذي يضرب به المثل، لم تستطع أن تمنع نفسها أن يتحول العشق إلى صورة انتقام لا حدود له، وراحت تسخر كل طاقاتها لهذا الانتقام، وأظهرت عشقا غريبا للقنصل، حتى تجعله تحت سيطرتها ،ويكون مادة خام تشكلها كيفما تشاء؛ الأمر الذي جعل حربي في حيرة بالغة.
من الصعب علينا الحكم علي رؤية بهاء طاهر الكلية للحياة في عمومها من خلال نص خالتي صفية والدير ،لكن من السهل أن نحكم علي رؤيته للحياة في خصوصها وأعني هنا قريته ،وما رآه من تسامح بين قطبي هذه القرية ،لكن السؤال هنا إلي من ترمز كلمة (خالتي)؟
ولقد حاول مخرج العرض صياغة كل هذا على الرغم من وجود بعض الاختلافات فما أن نتلقى السينوجرافيا للعرض المسرحي، حتى تضعنا في قلب الدراما، يتوسط خشبة المسرح ستارة ضوئية بيضاء ،وخلفها يقع قصر القنصل من الداخل ،بما يدور فيها من أحداث،وعلي يمين المسرح برفان خشبي مدخل بيت القنصل وعليه ثعبانين ،لعلهما يمثلان الاقطاع والمستعمر في صورتهما الوحشية، وبجواره ربابة، أما علي الجانب الأيسر من المسرح يوجد بوابة خشبية يعلوها الصليب وهي الدير ،وبجانبه بيت الحاج إمام المسجد الذي جعله قاضي الأقصر الوصي علي صفية وميراثها،وإن كان الدير والقس بشاي يرمزان للمسيحية ،فهذا الامام وتكبيرات العيد رمزا للإسلام.
ولقد استخدم المخرج أسلوب السامر الشعبي في بداية العرض ووسطه ونهايته، وهي ظاهرة موجودة منذعهد الفراعنة، والمعروف عن السامر في صعيد مصر أنه يأخذ شكلا مميزا،سواء كان الاحتفال (مولدـ زفاف ـ ميلاد) وما تحويه هذه الاحتفالات من رقصات بالخيل أو بالعصا أو التحطيب ،المعروفة بأشكال المنازلة فيالمووايل.
ضم العرض عدة رقصات بالعصا والجلباب الفضفاض الصعيدي المعروف بصورة كبيرة ،عرض المخرج جانبا من الرقصات التي تقام في الموالد الشعبية ،والراقصات اللائي يرتدين أزياءافولكلورية مبهجة ألوانها ،وزينة مفرطة ووشم الذقن المعروف.
ثم تأتي رقصة زفاف صفية علي القنصل، ويتوسط المسرح دائرتان دائرة رجال تحيط بالعريس يرقصون حوله رافعين عصيهم كأنهم يتوجونه ملكا لهذا اليوم، وتوحي بخضوع حربي للقنصل، وعلى الجانب الآخر من المسرح دائرة العروس ،ترتدي فوق رأسها الخمار الأبيض الذي يعد منذ القدم دليلا علي خضوع العروس لزوجها ،وهو ما حدث بالفعل في النص والعرض من خضوع صفية للقنصل الممثل للجانب السلطوي.
ولعلنا نجد هنا إشارة بهذا العرس المتمثل في الخضوع للسلطة، ما يذكرنا بالمعتقد الشعبي القديم السائد في العصور القديمة عن “الزوجة المقدسة” التي تهب نفسها للإله، اعتقادا منها أن الحكام هم أبناء الآلهة، وصفية هنا قد وهبت نفسها للقنصل، لكنها ليست الهبة الروحية، بل “هبة انتقامية”، أباحتها لنفسها كي تنتقم من حربي الذي استهان بحبها، وضحى به سبيل زواجها من القنصل، ولا سبيل لهذا الانتقام سوى بالزواج من القنصل.
وكان مشهد وصيفات العروس الذي اعتدنا عليه منذ العصور الرومانية، حاضرا كل الحضور في الجانب الآخر من المسرح، اطلقت الزغاريد، والصيحات المباركة، ولقد استعاض المخرج عن دور شاعر الربابة الذي عرف في مشهد السامر الشعبي في الصعيد، بشخصية العرافة التي تتكأ على عصا تأخذ شكل علامة السلام، كأنها تشير إلى الوحدة الوطنية بين قطبي الدائرة المصرية، باعتبار أن الرواية ترمي إلى هذا منذ بدايتها في شكل درامي واضح،وجاءت مرتدية زيا كامل السواد محتجبة عن الجمهوربحجاب أسود أيضا، تروي بلهجة متوعدة يملئها الغضب حكاية حربي، بأداء تمثيلي يقترب من المونودراما ،لتلهب مشاعر وأحاسيس الجمهور ،كي يتعاطفوا مع ما ترويه.
عبرت عن ذلك بحركاتها الجسمانية ولغة جسدها المختلفة ظهرت بشكل ملحوظ في انحناء ظهرها، والاتكاء على العصا، وضرب الأرض بالعصا ،وتعبيرات الوجه التي ظهرت علي استحياء ،والتلوين الظاهر في الأداء الصوتي.
أما عن الأغنية الشعبية في العرض المسرحي: فلقد جاءت أغاني العرض معبرة عن مكنون النفس الإنسانية، وأزاحت الغطاء عن معاناتها وصراعها، فصفية تعاني من شدة العشق، ولا سبيل للتعبير عن ذلك سوى ترديد أغنية (أمونة)، التي غرقت هي الأخرى في عشق حربي، وعانت منه أشد المعاناة، والأغنية عاطفية بدرجة كبيرة جدا، بل تكاد تصل حد الإسراف في العاطفة، ولقد حملت الأغنية اسم البطل فكان مطلعها “حربي جلبي”.
حفل العرض بباقة من المواهب الواعدة، أبان لنا العرض عن كم التدريبات التي قاموا بها لكي يظهر العرض بهذا الشكل، وأظن أن المخرج قد اجتهد في اختيار ملامحهم الجسمانية والشكلية بما يتفق والوصف الذي جاء به طاهر في روايته.
فصفية (نور عماد) كانت دقيقة الملامح، صغيرة الفم والأنف، عيناها ملونتان، ولقد أجادت أداء دورها بيراعة، أما عن حربي (محمود المنياوي) فهو ذو طلعة مميزة بين الرجال ،يمتاز بطول القامة ،والبشرة الخمرية، طرفيه مفتولان ،تبرزمن رقبته تفاحة آدم ،وهو يتحدث بصوته القوي ،فهو موهبة تبشر بالخير، أما القنصل (عبد الرحمن إبراهيم) الرجل الذي ناهز الخمسين عاما ،ببدلته داكنة اللون صيفا وشتاءا،أجاد دوره، جاء متقبلا لقانون الإصلاح الزراعي بهدوء معهود في النص الأدبي، والعرض الدرامي أيضًا؛ فهو دليل على اعتراف الإقطاعيين والرأسماليين في نهاية الأمر بالتغيير، واستسلامهم له، فكان يقول: “هذا رزق بعثه الله لكم فتمتعوا به، وفيم أريد أنا الأرض؟ من الذي سيرثني غيركم”، اعترافا منه أن الأرض للجميع، واعترافا أيضا بمبدأ الاشتراكية وتعاليمها التي جاءت بها أما القس بشاي (مصطفى) ذلك الرجل ذو الوجه السمح والابتسامة الهادئة ونبرات الصوت العطوفة الذي أسعدنا طيلة العرض، فأتقن دوره في سلالسة ويسر.
هذه هي الصورة الكلية لعرض “خالتي صفية.. والدير” الذي أخرجه محمد عبد المعطي، والذي جاء بصورة كبيرة مطابقا للنص، إلا أنني لا يمكنني أن أقول هذا علي النص الروائي؛ ذلك أن قراءات النص المختلفة ستؤدي بالضرورة تأويلات وتفسيرات مغايرة، فضلا عن الإضاءة المناسبة للعرض والتي زادت العرض إثارة وتشويقا،والتوزيع الموسيقي الرائع ،والاستعراضات الجيدة،مع توزيع الأدوار بشكل راعى فيه المخرج تحقيق التوازن الدرامي الجيد، وهو ما يكشف لنا العلاقة الفاعلة بين النص الأدبي المكتوب (الثابت)، وتعدد الرؤى الإخراجية له بصورة مستمرة، بتعدد أزمنة العرض واختلاف أماكنه، والرؤية الأيديولوجية لمخرج العرض.

 


داليا الدسوقي