المسرح العراقي .. رموز التحدي والإبداع

المسرح العراقي .. رموز التحدي والإبداع

العدد 525 صدر بتاريخ 18سبتمبر2017

رمز التحدي والإبداع والعادات والتقاليد والجاهلية والقبلية  والنظم العشائرية .
 نعم لنا أن نفتخر بأعلام ورموز المسرح العراقي بما قدموا وحاولوا وتحدوا الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية،  فكان المسرح المتنفس الحقيقي لآمالهم وطموحاتهم، ربما تتحقق في هذا القرن ونحن نتطلع إلى بعث روح التجدد والتطوير لدى أبنائنا طلبة كليات ومعاهد الفنون الجميلة (قسم المسرح والتمثيل) وليس بمستبعد أن تمتد روح الرموز  لهم فتحفزهم على التأليف والإخراج والتمثيل...

أليس من المفارقات المبكية أن تصبح بلاد الرافدين في آخر الركب أبناؤها لا يعرفون المسرح ؟
فالعراق جزء من الوطن العربي الذي كان تحت سيطرة الاستعمار العثماني..عاش في فترة مظلمة انتشرت فيه واستفحلت الأمية والفقر والجهل والأوبئة الفتاكة.
 بعد التخلص من الاحتلال تم تشكيل دولة العراق وتنصيب الملك (فيصل الأول ) فمن الصعب استصلاح الأراضي البور.. فبدأ المسرح على هذه الأرض،  فمن الصعب أن تمتد جذوره في تربة ثقافية في أرض العراق البور بسبب البداوة القديمة والعادات والقبلية ونظمها والعادات التي قاومت رياح التمدن وكل جديد في الحياة بعد التحرير من العثمانين... دخل للبيوت العراقية (الجرامافون) وأسمعَ النساء الأنغام والطرب.. بناء دور للسينما التي بدورها بثت السحر على (الحيطان البيضاء) أخذوا يشاهدون عليها قطارات وسيارات وخيولا وناسًا تتحرك كما في الطبيعة.
 بعض العوائل في تلك الفترة كانت تتمتع بمشاهدة الأفلام الصامتة (لشارلي شابلن) وقصص الحب والغزل والغرام وقصص الحب العذري.. فارتادت دور السينما في أيام محددة... للعلم كانت محتشمة جدًّا بالقياس لهذا الزمن. ذكرت هذا من باب الاطلاع وقراءة الواقع آنذاك طبعًا.. ليس بمقدور الجميع رؤية هذه الأفلام التي تعرض في دور السينما... بالإضافة إلى هذا أن رجال الدين قابلوا هذه العروض بالرفض فأصدروا الفتاوى... بالتحريم فكبرت الجوامع  والتكايا معلنةً أنَّ ما يحدث هو من بدع الغرب الكفار ورجس من الشيطان ومكايد من إبليس مخالفة لسنة الله والدين الإسلامي ودخلت في النار وجهنم والحساب والعقاب والخطايا ووووووإلخ مما شرعوا وأفتوا به لذلك اقتصرت حركة المسرح على المجانين والمولعين بالمسرح والتمثيل....
مجنون المسرح!
ولد حقي الشبلي في بغداد سنة  (1913 م – 1985 م)
في أجواء الخطايا والتكفير والتحريم والنار والحريق..فمسه الجن... جن المسرح.. رغم صغر سنه أصبح مجنونًا بالمسرح، ظن والده (رشيد الشبلي) أنها نزوة طفل تنتهي فسمح له أن يشارك في النشاطات المدرسية...
حقي الشبلي من أسرة  بغدادية ميسورة الحال يرى المسرح هو المعبد والطقس المقدس الذي نشأ عليه المسرح الأول عند البشرية.. فهو يمتلك مواصفات النجومية: جميل وسيم ذو شخصية متميزة وله كاريزما قيادية.. وسامته وحضوره.. هيئته للمسرح.. وأن يكون قادرًا على قيادة جماعته وزملائه.. عندما التقى بفرقة  (جورج أبيض) المصرية أثناء زيارتها للعراق في 1926 م.. صعد إلى خشبة المسرح وهو  ابن (12) سنة.. وقد اختاره جورج أبيض في تلك الأثناء ليكون كومبارسًا.. من المعروف أنَّ الفنان جورج أبيض أحد مؤسسي المسرح المصري.. وأسس فرقة باسمه تميزت بتقديم مسرحيات عالمية ومحلية على مستوى راق جدًّا..  وكان ذلك في مسرحية (الملك أوديب) التي قدمتها فرقته على مسرح سينما الوطني.. كان حقي الشبلي متعلقًا بالمسرح حد الهوس.. ساهم في جميع النشاطات المسرحية اللاحقة التي كانت تقدم في المدرسة أغلبها تأريخية.. ومن أبرز المسرحيات التي قدمتها ثانوية التفيض هي:
مسرحية صلاح الدين الأيوبي.
 مسرحية فتح الأندلس.
في سبيل التاج.
هارون الرشيد .
والمشرف عليها كان ( سيد حسين الصافي.. والقارئ محمود عبد الوهاب, الحاج رؤوف الكرخي, الدكتور سامي شوكت, د. فائق شاكر,  عبد الوهاب العاني... هؤلاء هم الرعيل الأول الذين غرسوا روح المسرح في نفوس طلبتهم الصغار فتأثروا بهم.. أما المؤثر الآخر أو النبراس الفكري الآخر هو (النهضة الفكرية والثقافية) في مصر وبلاد الشام.. وإرسال البعثات  والصحافة والطباعة والاستقلال وغيرها من العوامل المؤثرة.. وأبرز المتأثرين هو (حقي الشبلي) ومن المعروف أننا حين نريد خلق مجتمع مثقف يجب علينا إعداد مسرح متطور من حيث (النص,المؤلف, المؤدي: أي الممثل) ثم الإعلام والصحافة والجمهور والاهتمام بالمسارح طبقًا للمقولة المعروفة...
(أعطني مسرحًا أعطكم شعبًا مثقفًا(
حقي الشبلي..والمسرح
ربما جنون المسرح ميزه عن زملائه.. ربما حضوره وشخصيته.. ربما وسامته كانت مركز جذب.. ربما كلها معًا   كانت لها تأثير كبير في إقناع كل من حوله ولم شمل زملائه وجمعهم لتشكيل (فرقة التمثيل الوطنية) فقدم طلبًا لوزارة الداخلية للحصول على موافقة.. والهدف كان هو: (المنافع الخيرة) و(الرقي بالفن العراقي الجميل) بحيث ذكر بالنظام الداخلي للفرقة.. الابتعاد وبراءة الفرقة من أي نشاط سياسي.. هذا السبب جعل الدولة ترضى عنه.. والسبب الآخر في هذه الفترة التحصيل الدراسي.. يكاد يقتصر على القلة.. والأغلب غير متعلمين أو لديهم شهادة الابتدائية.
 كانت الضغوط الأسرية كبيرة حول التمثيل والمسرح.. أما والده (رشيد الشبلي) كان  رافضًا للمسرح.. أما حقي الشبلي نذر نفسه للمسرح وكان يقول :- الفن فيه لذات الفن, المسرح رسالة جمالية جليلة للناس... لذلك عاش وفيًّا مضحيًا للمسرح رغم الأسرة وضغوطها إلا أنه لن ينثني.. وتحدى من أجل رسالته..  مثل الأدوار الرئيسية والثانوية حتى قام -وبدون حرج- وارتدى الملابس النسائية ليمثل الأدوار النسائية من باب التحدي.. حيث كنا في تلك الفترة نعاني تخلفًا -كما وسبق أن ذكرت- وعادات وتقاليد بالية لم تسمح للمرأة أن تعمل وتتعلم.. فاضطر الفنان الرائع والقدوة والباني الحقيقي للمسرح والأب الأول أن يأخذ هذه الأدوار ويتعرض لعقوبات الأهل والأسرة والقبيلة.. وصلت إلى النبذ والتبرؤ من انتمائه إلى الأسرة.. وهي عقوبة قاسية.
 كرس حياته للمسرح فلم يتزوج.. وكان عندما يسأله زملاؤه وأصدقائه لماذا لا تتزوج ؟ يقول لهم: إنني متزوج من المسرح. صاحب شخصية متميزة.. مبتسم وملتزم يحترم الوقت.. هذه الشخصية حببته وأعطته القدرة والحضور على خشبة المسرح..
أصدقاؤه رواد وبناة المسرح.
أصبح أصدقاؤه وزملاؤه رواد المسرح العراقي وهم:
أحمد حقي الحلي, عبد المجيد الخطيب, فاضل عباس, محيي الدين محمد، ناصر عوني, صبري الذويبي, عبود الشالجي, عثمان الشيخ سعيد...
حقي الشبلي... ورحلته المسرحية..
حصل على بعثة دراسية دعمًا له لابتعاده عن السياسة.. وتدرج في المناصب... رائد الحركة المسرحية, مؤسس الفرقة التمثيلية الوطنية, أول فنان يوفد إلى مصر, أول فنان عراقي يدرس المسرح في فرنسا, اختاره جورج أبيض ليشارك في عمل مسرحي قدمته فرقته.. كما اختاره عزيز عيد للمشاركة في عمل آخر لفرقة فاطمة رشدي 1929 فقال: أنها فرصة حقيقية للتعرف إلى فنون المسرح وتقنيات ممثلي العرض المسرحي.. إذ إن  عزيز عيد  كان بارعًا في تدريب الممثل وتفسير النص وتحليله وتحسين طريقة الأداء عند الممثل.
رافق فرقة فاطمة رشدي إلى مصر.. جمع شمل فرقته بعد سفره إلى مصر وعودته مع فرقة (فاطمة رشدي).. تعاقد مع ممثلات مصريات ولبنانيات وسوريات للعمل كممثلات لعدم مساهمة المرأة العراقية آنذاك للأسباب التي ذكرتها في الأسطر السابقة (التخلف والعادات والعشائرية والتقاليد) لكن مع الوعي الثقافي والفكري ظهرت بعض الممثلات العراقيات والهاويات منهن (فخرية علي, مديحة سعيد, نزهت توما, أنطوانيت إسكندر -هي أخت المطربة العراقية عفيفة إسكندر).. وبعد عودته  من مصرحصل الأستاذ حقي الشبلي  على بعثة إلى فرنسا لإكمال دراسته في المسرح.. وأنهى دراسته سنة 1939 م.. عاد ليؤسس قسم المسرح في الفنون الجميلة 1940.. أصبح رئيسًا لقسم المسرح ومدرسًا فيه.. وفي سنة 1947 م مثل فيلم (القاهرة – بغداد) للمخرج المصري (أحمد بدر خان) كتب قصته (حقي الشبلي و يوسف جوهر)
أسس شركة سومر للسينما والمسرح وأصبح مديرًا عامًّا لمصلحة السينما والمسرح التي أنتجت الأفلام التالية:
الفن والجابي
شايف خير
ثم أصبح نقيبًا للفنانين وعميدًا لمعهد الفنون  1961, ثم أصبح عميد كلية الفنون  (1972 -1988)
أما بعد ثورة (14  تموز 1958) تغير مجرى الفن
أهم المسرحيات التي أخرجها للمعهد.
كانت أغلبها مسرحيات عربية وعالمية، أهمها:
معرض الجثث, الطاحونة الحمراء, فتح بيت المقدس, (لفرح أنطون).. (محاسن الصدف والوطن) لفكتوريان.  (عقول في ميزان) أعدها حقي الشبلي, شهرزاد لتوفيق الحكيم...  
يقدر عدد المسرحيات التي قدمتها فرقة الشبلي منذ 1927 حتى نهاية عام 1934 حوالي (120) مسرحية مختلفة ما بين اجتماعية ووطنية وتاريخية شعبية ومسرحيات مترجمة...
وفي عام 1977 م اشترك في فيلم (النهر) للمخرج (فيصل الياسري)
حقي الشبلي... والجوائز
حاز الفنان القدير والمبدع وراية المسرح العراقي ورمز الرقي والجمال على العديد من الجوائز الفنية  العراقية والعربية أبرزها:
كرائد عربي من رواد الفن والمسرح (في تونس 1983 م)
كنقيب لفناني أقطار الخليج العربي (1984 م في الكويت رشحته فرقة مسرحية كويتية)
حقي الشبلي... عواطفه النبيلة وحرصه:
الفنان إنسان أولاً يتصف بأخلاق ويمتلك قيمًا رفيعة.. كان الفنان حقي الشبلي يشعر بالمسؤولية تجاه حركة الفن والمسرح..كان حريصًا على أخلاق المهنة.. عرف بالانضباط والدقة في المواعيد والحرص والالتزام بحيث كان يحرج الشباب الجدد عندما يجدونه قبلهم يتعامل معهم بحب ومنهم شاهد على ما نقول..
الفنان سامي قفطان المتمكن والمبدع يقول :
أحقا أنا أمثل مع حقي الشبلي؟ -إذ هجم عليه وقبل يده والدموع تملأ عينيه- هل حقًّا سامي قفطان فعل هذا؟
ماذا فعل حقي الشبلي؟ أو ما رد فعله لعواطفه النبيلة واحترامه وتقديره للجيل الذي يليه؟
ضمه  بين ذراعيه وتعانق الرجلان -حقي وسامي-  والجمع يصفق...
 هذه الأخلاق والعواطف العراقية النبيلة.. إنه فنان القرن العشرين بلا منازع وبلا مغالاة مع كل ما صنعه وقدمه لرفع رايات الإبداع وسط التخلف والعدم وركامات الاستعمار.. ليأخذ بروح المسرح بيده ويزرعها في أرض العراق لتنبت الإنسانية وتنمو  وتخضر وتثمر لتينع الأهداف الإنسانية النبيلة لنقطف ثمار الروح الوطنية الدانية...
رحل ابن دجلة والفرات.. ابن سومر واكد..  ابن حمورابي ونبوخذ نصر.. رحل ابن هارون والمنصور.. رحل ابن العراق العظيم.. الأول في تاريخ المسرح.. باني الأساس للسينما العراقية... رحمك الله في سمائه وأسكنك جنانه.
حاضر أنت معنا.. وعلى الجيل الجديد أن يتخذ مراحل الأولين لتشكيل علامة بارزة في الرقي والإبداع.. إذ علينا تسليط الضوء بين الحين والحين على هؤلاء الرموز للفن في العراق عرفانًا ووفاءً منا لهم.. ربما يكون الوفاء قد غادر -ويا للأسف- بعضنا ممن انتمى إلى الأجندات السياسية التي همها الوحيد المحسوبية والماديات والانتساب لغرس التفرقة والانقسام... سلامًا  على روحك أيها المبدع الرائع الرائد والأب الروحي الحقيقي للمسرح حقي الشبلي.. الذي تُوُفِّيَ عام1985 م..  تبقى علمًا يخفق في سماء الفن العراقي مهما طال الزمن... الوفاء والرحمة لروحك الزكية.. الرحمة إلى روح من تزوج الفن وعاش ومات لأجله.. فمن المؤكد
العراق اليوم بأمس الحاجة إلى عمالقة جدد مثل هؤلاء الرموز والأعلام مؤسسي المسرح الذين ساهموا في بناء الحركة المسرحية لكي تعود الأيام جميلة ومضيئة لتنير سماء ...العراق الجريح...
(نحن نريد لكل عصر مبدعًا رمزًا متحديًا جديدًا)

المصادر
...............
ذاكرة المسرح (جريدة المدى)
ملاحق جريدة المدى اليومية (الفنون الجميلة)
شبكة رؤية الإخبارية.
(الأستاذ لطيف حسن) 


نجاة صادق الجشعمي