إيطاليا والمسرح في مصر في القرن التاسع عشر

إيطاليا والمسرح في مصر في القرن التاسع عشر

العدد 622 صدر بتاريخ 29يوليو2019

 هذا البحث، شاركت به في المؤتمر الدولي «مسار الرحلة بين الشرق والغرب: طريق الحرير من وإلى البحر المتوسط»، الذي أقيم يومي 6 و7 يوليو 2019 بالمركز الثقافي الإيطالي بالقاهرة، تحت رعاية السفير الإيطالي في مصر (جيامباولو كانتيني)، وبتنظيم وجهود كبيرة من الأستاذة الدكتورة وفاء رؤوف البيه رئيسة قسم اللغة الإيطالية بكلية الآداب جامعة حلوان.
تمهيد
من يبحث في بدايات المسرح في مصر؛ سيلاحظ أن أغلب البدايات المهمة، كانت إيطالية!! وربما سيتفاجأ قارئ هذا البحث، أن بداية المسرح في مصر كانت إيطالية في أغلب مظاهره، من حيث البناء والإدارة والعروض والنصوص.. إلخ!! والجدير بالذكر أن باحثين سبقوني في الكتابة عن ذلك، معتمدين على الكتابات الإيطالية – أو الأجنبية – لا سيما وأن صحفا إيطالية، كانت تصدر في مصر – وتحديدا في الإسكندرية، مثل جريدة «إيكو دي إيجيتو L’eco di Egitto» – اعتمد عليها بعض الباحثين، وعلى رأسهم الدكتور فيليب سادجروف في كتابه «المسرح المصري في القرن التاسع عشر». وعلى الرغم من ذلك، أستطيع أن أضع احتمالا، أقول فيه: إن أغلب الباحثين – حتى الآن – لم يعتمدوا في بحوثهم على الكتابات العربية المنشورة في الصحف المصرية، أو على النصوص المسرحية المترجمة عن الإيطالية، أو على الوثائق العربية المتعلقة بالمسرح الإيطالي، أو المتعلقة بالإيطاليين المسرحيين في مصر في القرن التاسع عشر، وهذا هو هدفي من البحث.
وبناء على ذلك، أقول: إن أقدم إشارة عن عروض مصرية شبه مسرحية، نقلها إلينا الرحالة الإيطالي «بلزوني BELZONI» عام 1815، عندما حضر عرسا في منطقة شبرا، وشاهد - في احتفالاته – عرضين أقرب إلى المسرح: أحدهما يدور حول عملية نصب واحتيال، وقع فيها أحد الحجيج. والآخر يدور حول إعرابي فقير يدعو أوروبيا لتناول الطعام في بيته، ويبدأ الإعرابي بإلقاء الأوامر إلى زوجته لتذبح عنزة إكراما للضيف، فتخبره بأن العنزة شردت، فيأمرها بذبح أربع دجاجات، فتخبره بأنها لم تنجح في الإمساك بالدجاج، فيأمرها بذبح بعض الحمام، فتخبره بأن الحمام في السماء ولن يعود إلى أعشاشه الآن، وهكذا استمر الحوار بين الإعرابي وزوجته؟ وفي نهاية المطاف، تناول الضيف اللبن الرائب مع عيش الذرة، وهو الطعام الموجود أصلا في المنزل.
وإذا تركنا بداية العروض هذه، إلى بداية أخرى؛ سنجد أن أول قوانين تنظيمية تتعلق بالمسرح في مصر، أصدرها باللغة الإيطالية “أرتين بك Artin Bey”، وزير الخارجية في 16 أكتوبر 1847، وكانت القوانين تخص المسرح الإيطالي الموجود في الإسكندرية. ومن هذه القوانين التزام الممثلين بإظهار الاحترام في ألفاظهم وأفعالهم أثناء العرض المسرحي. وعدم السماح للجمهور بالتدخين وإحداث الضجيج بالصفير أو بقرع العصا، أو بالدق بالأقدام، أو الإخلال بالأمن العام داخل المسرح؛ حيث يرابط ثمانية رجال شرطة بزيهم الرسمي، ورقيب شرطة في المنطقة المجاورة للمسرح، وهم على استعداد للاستجابة السريعة لحفظ الأمن.
ومن المفاجآت المكتشفة حديثا، أن أول مسرحية تم تمثيلها باللغة العربية في مصر، كانت عام 1870، وهي مسرحية «الإسكندر في الهند»، والمترجمة عن اللغة الإيطالية، من تأليف الإيطالي «بيترو تراباسي» الملقب بميتاستازيو، وقام بتمثيلها مجموعة من شباب مصر الهواة. ومن الاكتشافات أيضا، أن المطبعة الإيطالية في القاهرة - والمشهورة بالمطبعة الكاستليه لصاحبها الخواجة جاكموا كاستلي – نشرت في 9 أبريل 1872، أول مسرحية مصرية مؤلفة باللغة العربية، وهي «نزهة الأدب في شجاعة العرب المبهجة للأعين الزكية في حديقة الأزبكية»، من تأليف محمد عبد الفتاح.
وإذا أردنا الحديث عن بدايات ازدهار المسرح في مصر، سنجدنا نبدأ من عصر الخديو إسماعيل؛ بوصفه أول حاكم مصري اهتم بالمسرح اهتماما عظيما؛ حيث أقام في منطقة الإسماعيلية – وهي الآن منطقة وسط البلد والأزبكية والعتبة – منشآت مسرحية وفنية وترفيهية، مثل: مسرح الكوميدي الفرنسي، ودار الأوبرا الخديوية، والسيرك، ومسرح حديقة الأزبكية، ومضمار السباق - وهذا المضمار، كان يديره الخواجة جويليوم داود الإيطالي، وكان المضمار يُسمى بملعب الفروسية الإيطالياني، كما ذكرت مجلة وادي النيل عام 1871 – وكان يُطلق على كل هذه المنشآت عبارة «التياترات الخديوية»! وهي منشآت ضخمة ومهمة، وتحتاج إلى إدارة واعية بأهميتها وتحقيق أهدافها؛ لذلك اختار الخديو إسماعيل شخصية إيطالية، خدمت في مصر سنوات كثيرة، وهي شخصية «بولينو درانيت»، ليكون مديرا للتياترات الخديوية.
وإحقاقا للحق، يجب أن نقول: إن جميع المنشآت المسرحية – والترفيهية – في عصر إسماعيل، كانت تأتي جميعها في المرتبة الثانية، بعد أهم منشأة - والتي احتلت المرتبة الأولى - وهي دار الأوبرا الخديوية، التي ظلت – طوال القرن التاسع عشر – تُسمى بالأوبرا الإيطالية؛ حيث إن بناءها كان على الطراز الإيطالي، وبناها الإيطاليون، وأدارها الإيطاليون، ومثل فيها الإيطاليون، ونصوص بعض عروضها كتبها الإيطاليون؛ لذلك سنبدأ بالحديث عن الأوبرا الخديوية؛ بوصفها نموذجا للوجود الإيطالي المسرحي في مصر في القرن التاسع عشر.
الأوبرا الخديوية/ الإيطالية
افتتحت الأوبرا الخديوية في أوائل نوفمبر 1869 بعرض «ريجوليتو»، ولم يكن أسلوب عرض إعلانات العروض المسرحية في الشوارع معروفا في ذلك الوقت؛ ولكن في أكتوبر 1870، بدأ هذا الأسلوب يظهر في القاهرة، وأول ظهوره كان من خلال إعلان باللغة الإيطالية!! ولأهمية هذا الإعلان، سننقل ما نشرته مجلة «وادي النيل» عنه، قائلة، تحت عنوان «افتتاح ملعب الأوبرا في أكتوبر 1870»:
«شاهد كل إنسان في هذه الأيام الحاضرة بشوارع مدينة القاهرة، مُعلقا على الحيطان والجدران، صورة إعلان، يتميز للعيان بغرابة شكله، ويستوقف المارة ببداعة طبعه وشغله.... وذلك أنه مطبوع باللغة الإيطاليانية، على فرخ من الكاغد طويل عريض، وشكل من حروف الطبع غريب مستقبض، يتضمن: أنه بأمر الحضرة الخديوية العلية، سيفتح اللعب في تياترو الأوبرا، الكائن بالأزبكية في يوم الأحد الآتي، أول شهر نوفمبر القابل، بتصوير اللعبة المشهورة عند الطوائف الأوروباوية باسم (لافاووريته)، أي (المحظية). وهي عبارة عن قطعة تياترية من نوع القطع المسماة باسم (درام) أي قصيدة شعرية تتضمن تصوير بعض الوقايع التاريخية بطريقة مضحكة أو مبكية، منقسمة إلى أربعة فصول، يتخللها ألحان موسيقية، مع بعض تخليعات أخرى مسلية، ورقص وعزف من بعض القيان، أي الراقصات الأفرنكيات، وغير ذلك من الفنون التي تسلي قلب كل محزون».
وفي نوفمبر 1870، قام أبو السعود أفندي بكتابة مقالة، في مجلته «وادي النيل»، تحت عنوان «بدعة أدبية وقطعة تعريبية». والمقصود بالبدعة الأدبية، هو ترجمة مسرحيتين إيطاليتين إلى اللغة العربية وهما: لابادوسيت، ومزين إشبيلية!! ووصف الأمر بالبدعة؛ راجع إلى حدوثه لأول مرة في مصر؛ حيث إننا لم نجد نصا مسرحيا إيطاليا منشورا باللغة العربية في مصر قبل هذا التاريخ!! والجدير بالذكر إن المسرحيتين تم عرضهما في الأوبرا الخديوية باللغة الإيطالية؛ وقام بترجمتهما إلى العربية محمد عثمان جلال، ونشرهما إبراهيم المويلحي في مطبعته.
هذا الزخم الإيطالي بالنسبة لدار الأوبرا الخديوية، جعل أبو السعود أفندي يطلق عليها اسم «تياترو الأوبيرة الإيطاليانية المصرية»! كما أطلق عليها أيضا أحمد فارس الشدياق - في جريدته «الجوائب» - اسم «الملهى الإيطالي». وهذه التسميات انتشرت، بسبب النموذج الإيطالي الأبرز في تاريخ الأوبرا الخديوية، وهو أوبرا (عايدة)، التي تُعد أيقونة الأوبرات في العالم!! فقد كتب نصها الكاتب الإيطالي «غيزلنسوني Ghislanzoni»، وتم عرضها في ديسمبر 1871، وقام أبو السعود أفندي بترجمتها إلى العربية – من الأصل الإيطالي – كما قام أحمد راسخ بترجمتها إلى التركية – من الأصل الإيطالي أيضا – وتم نشر الترجمتين في مطبعة جريدة (وادي النيل) لأبي السعود أفندي، وتم توزيع الترجمتين على جمهور المشاهدين.
ومن الوثائق المهمة المحفوظة في دار الوثائق القومية؛ وثيقة مؤرخة في 11/ 5/ 1880، صادرة من نظارة الأشغال العمومية إلى مجلس النظار – أي مجلس الوزراء – بخصوص طلبات التقدم لاستغلال الأوبرا الخديوية في موسم 1880/ 1881. والملاحظ – في الوثيقة - أن جميع المتقدمين أمثال مسيو لاروز وموتسى بك - اشتركوا في شيء واحد – وهو ضرورة وجود أكبر عدد من العروض الإيطالية بدار الأوبرا الخديوية في هذا الموسم. وتوجد أكثر من وثيقة بالدار، تتعلق بهذا التنافس بين المتعهدين، واشتراكهم جميعا في الاهتمام بالعروض الإيطالية؛ بوصفها العروض الأساسية في أي موسم من مواسم الأوبرا؛ بل وكانت العروض الإيطالية، لها السبق قبل العروض الفرنسية، وهذا ما أكدت عليه جريدة المقطم في مارس 1898، قائلة: «اتفقت لجنة التياترات مبدئيا على أن التمثيل في الأوبرا، يكون في السنة المقبلة، كما كان عليه في هذه السنة. فيمثل الجوق الإيطالي الروايات التلحينية أولا، مع ما يتخللها من الرقص، ثم يمثل الجوق الفرنسوي رواياته».
ولهذا السبب، وجدت صعوبة بالغة في تتبع العروض المسرحية والفنية الإيطالية - التي عُرضت في الأوبرا الخديوية - بسبب كثرتها في كل عام، منذ افتتاحها وحتى نهاية القرن التاسع عشر!! لذلك سأتحدث فقط عن العروض ذات الطبيعة الخاصة، والتي لها أهمية فيما نحن بصدده. وأول مناسبة خاصة، كانت إقامة ليلة فنية راقصة، والمعروفة باسم (بالو) في فبراير 1882؛ حيث خصص دخلها لجمعية المقاصد الخيرية المصرية، ولجمعية المدارس الإيطالية المجانية! وكانت تحت رعاية الخديو توفيق وفي حضوره مع بقية وزرائه. وقد تبرع المسيو شوكولاني بمبلغ 250 فرنكا، لصالح هذا الاحتفال الخيري. وهذا الأمر تكرر مرة أخرى عام 1887؛ حيث أقيمت حفلة بالو بالأوبرا الخديوية لصالح إعانة المدارس الإيطالية في مصر، وحضر الاحتفال البرنس دونابل، ولي عهد ملك إيطاليا.
والمناسبة التالية، أخبرتنا بها جريدة القاهرة يوم 23/ 1/ 1889، قائلة تحت عنوان (ليلة تشخيص في الأوبرا الخديوية): «علمنا أن جمعية الإحسان الإيتالية في القاهرة، قدمت إلى نظارة الأشغال العمومية، بطلب الرخصة بإحياء ليلة تشخيص في الأوبرا الخديوية، وسيخصص الإيراد لصندوق الجمعية. فأجابها سعادة الناظر إلى ذلك، وعين لهم ليلة 15 فبراير القادم». كما أخبرتنا جريدة المقطم بمناسبة أخرى في عددها بتاريخ 12/ 1/ 1893، قائلة: «أحيا النزلاء الإيطاليون أمس، ليلة حافلة في الأوبرا الخديوية، خصص دخلها للجمعية الخيرية الإيطالية. وكانت الأوبرا مزينة بالرايات الإيطالية، وقد حضر تلك الحفلة جمع غفير، وخرجوا يثنون على القائمين بإحياء هذه الليلة أجمل ثناء».
وفي عام 1897، جاءت فرقة إيطالية شهيرة بإدارة الموسيو لويجي، وعرضت في الأوبرا الخديوية عايدة، وحضرها الخديو عباس حلمي الثاني، مع ضيف مصر – في ذلك الوقت – ملك سيام، المعروفة الآن بتايلاند، كما أخبرتنا جريدة مصر في أكتوبر. ومما يؤكد تميز هذه الفرقة، حضور الخديو لعرض آخر لها بعد أيام قليلة، نقلت لنا وصفه جريدة المقطم بتاريخ 26/ 11/ 1897، قائلة: «مثّل أمس الجوق الإيطالي، الذي يديره الموسيو لويجي رواية (لوسيا دلاميرمور)، فغصت الأوبرا بالمشاهدين. وكان سمو الخديوي المعظم، يشاهد التمثيل. فأجاد الممثلون في تمثيل أدوارهم، وغنت المغنية الأولى، ممثلة دور لوسيا غناء شجيا، فأطربت وأبدعت ورقصت الراقصات على نغمات الموسيقى، رقصا مدهشا. فأعجب الحاضرون بما شهدوا وسمعوا، وانصرفوا وهم يثنون على هذا الجوق ويتحدثون بمحاسن تمثيله».
ومن الواضح أن الفرق الإيطالية - التي كانت تأتي إلى مصر في أواخر القرن التاسع عشر – كانت تجذب أكبر كم من الجماهير، فاستغلت هذه الميزة الجمعيات الخيرية، ومنها جمعية الروم الكاثوليك - تحت رئاسة فريد بك بابازوغلي - وأحيت ليلتها الخيرية في الأوبرا الخديوية تحت رعاية الخديو في يناير 1898، ومثلت الفرقة الإيطالية عرضا مسرحيا في هذه الليلة، كما أخبرتنا جريدة المقطم. وبعد عام، أخبرتنا الجريدة نفسها يوم 16/ 2/ 1899، باحتفال مشابه، قالت فيه: «احتفلت الجمعية الخيرية الإسرائيلية البارحة، بليلة أنس في الأوبرا الخديوية. فصدحت الموسيقى بالألحان الشجية، ومثل الجوق الإيطالي رواية (لابوهيم). فأجاد الممثلون في التمثيل والغناء، وامتلأت الكراسي واللوجات بجمهور الحاضرين، الذين ذهبوا إليها حبا بعمل الخير، وعضد المدارس الخيرية الإسرائيلية. وكان حضرة قطاوي بك، والخواجة جرين، والخواجة ليفي، يقابلون الجمهور بالترحاب. وبعد نصف الليل انصرف الجميع، وهم يثنون على القائمين بمهام تلك الليلة».
وإذا كانت الأوبرا الخديوية، هي المسرح الرسمي الأول والأكبر في العاصمة، فيعدّ مسرح حديقة الأزبكية الثاني من حيث الأهمية والقيمة التاريخية في القاهرة!! وهذا المسرح عرضت عليه أغلب الفرق الأجنبية والعربية، وكانت الفرق الإيطالية لها نصيب فيه أيضا!! وسأتوقف فقط عند عام 1897؛ حيث عرضت فيه إحدى الفرق الإيطالية فنونا غريبة وعجيبة، لم تنتشر في مصر كثيرا في هذه الفترة، ومنها فنون العرائس، والتمثيل الصامت (البانتومايم)، وبعض ألعاب السيرك والحواة والسحرة.. إلخ، كما أخبرتنا جريدة المقطم في أكثر من عدد بتاريخ أكتوبر 1897.. وإلى هنا نتوقف، ونستكمل الموضوع الأسبوع القادم، والحديث عن المسرح الإيطالي في مسارح الإسكندرية.


سيد علي إسماعيل