مسرح القارة الأفريقية

مسرح القارة الأفريقية

العدد 622 صدر بتاريخ 29يوليو2019

مقدمة لا بد منها..
يبدو أن هذه المؤسسة الثقافية التي أطلق عليها الدرامي والشاعر الألماني يوهان فلفجانج جوته (28/ 8/ 1749 – 22/ 3/ 1832م) Johann Wolfgang Goethe تعبير «المسرح» تنشر بذورها وجذورها في كثير من التطابق والتشابه في أكثر من مكان وزمان. وهو ما وصلت إليه هذه الدراسة من حيث النشأة الأولى، وكذا التطورات التي نشأت على هذه الصناعة الإنسانية الفنية، وقد تكون بعض هذه الحقائق غائبة عن أصل المسرح في أفريقيا، نظرا لعدم الاهتمام بالمسرح الأفريقي ودراساته. ليس فقط على مستويات التعليم المسرحي الفني أو استمرارية العروض المسرحية، أو توافر المعاهد الفنية العالية ومؤسسات تعليم الفنون.. ولكن أيضا على مستوى تاريخية هذا المسرح، الذي يكاد يكون مجهولا على خارطة الفن المعاصر في قرننا العشرين وتحديدا في العقد الأخير منه.
ومن إحقاق القول أن نذكر أن دارسي الفنون المسرحية في العالم المتمدين في أوروبا وأمريكا لا يعرفون كثيرا عن مسرح قارة سوداء كبيرة نعيش على ظهرانيها.
نشأة مسرح أفريقيا..
تشير النتائج التي وصلنا إليها في هذه الدراسة إلى وجود تشابه غير قليل بين نشأة المسرح الأفريقي، ونشأة المسرح الإغريقي (اليوناني القديم) الذي يعتبره المؤرخون البداية الحقيقية لفن المسرح العالمي. خرج المسرح الإغريقي من عبادات وطقوس الإله ديونيزوس، ثم تطور داخل ظروف وأحوال المجتمع اليوناني القديم، أشعاره وآدابه التي جاء بها كبار الشعراء.. وعلى وجه الخصوص إسكيلوس، سوفوكليس، يوريبيديس، وآرستوفانيس، وهي نفس الظروف والملابسات التي صاحب ميلاد المسرح الأفريقي في أكثر من مكان على سطح القارة السوداء متسعة الأرجاء والمساحات. وتدلنا الوثائق والمعلومات التاريخية على أن مسرح أفريقيا ولد مرتبطا بالتطور الديني من ناحية، وبواقع المجتمع القبلي الأفريقي من ناحية أخرى، إذ كانت البدايات فيه بدايات طقوسية شعائرية أيا كان نوعها. وقد ظهرت هذه الطقوس في الاحتفالات التي كانت الجماهير الأفريقية – داخل نطاق القبيلة – تشاهدها على شكل حلقة دائرة تتابع ما يقدمه ممثلون ومغنون وراقصون. صحيح أنه كانت هناك احتفالات دينية مختلفة على مر العام منذ قديم الزمان في أفريقيا، لكن الواقع أن عروض هذه الاحتفالات كانت تنحو نحو شكل واحد أو موحد إن شئت أن تقول. ويتلخص هذا الشكل في الإعداد للمسرح بما يقتضيه من واجبات كالحوار والغناء والرقص أو دق الموسيقى، بل كان من أهم مميزات هذه العروض اشتراك الجماهير الأفريقية فيها حول حلبة المسرح بشكلها آنذاك، اشتراكا فعليا، وذلك بترديد مقاطع الغناء، وفي الابتهالات الدينية التي كانت تتجه إلى شكر الله عز وجل، والاعتراف بنعمه وفضائله، كانت العروض تستمر عدة أيام متصلة (وهو ما يذكرنا بنشأة المسرح الإغريقي). وكانت مجموعات الممثلين والعازفين والمنشدين والمرددين تختار من الشعب، باستثناء بعض الأدوار المهمة أو الرئيسية التي كانت أدوارا مركزية، مثل الممثل الأول وعازف آلة الطبل. وكان فن الرقص يشترك اشتراكا مهما في العرض المسرحي الأفريقي القديم، وبمشاركة الموسيقى بطبيعة الحال. والغريب أن هذا النوع من العروض الأفريقية قد استعمل الأقنعة MASKS التي كانت ترمز إلى وجود بعض الحيوانات الأفريقية، بغية إبراز عامل الضحك والفكاهة والإثارة. وهو الأمر الذي وجه آداب وفنون القصة والرواية الأفريقية فيما بعد إلى استعمال الأقنعة وغيرها من صبغات الوجوه في نسيجهما.
لقد ساعدت القصص الأفريقية الغنية بأفكارها وأحلامها وخيالها الواسع المتقد على ميلاد نوع أدبي جديد، لم يكن له نظير في عالم القصة العالمي. وساعد على تطور هذا النوع في المسرح استعمال الأصوات الغريبة والمخيفة لإبراز تأثيرات درامية ونفسية وسط مظاهر أفريقية خاصة. وهو ما سجلته الحضارة الأوروبية في مسرح غرب أفريقيا بلغة (ماندنجو) MANDINGO التي كشفت عن النوع الفني المسمى بالتيار الفني (الجريوتي) GRIOT.
لكن.. لما كانت أفريقيا – ولا تزال – واسعة الأرجاء، متعددة الدول والجمهوريات، بل واللغات واللهجات، والأفراد والأجناس والأديان. متحركة الواقع بحكم انتقال شعوبها وقبائلها وناسها من مكان إلى مكان في الماضي، في أوضاع غير مستقرة، فإن كل هذه الظروف والأحوال مجتمعة قد أفرزت للتاريخ المسرحي نماذج كثيرة من أشكال الفن المسرحي، على غرار فن (الياييك) YEJIK، وغنائيات (إمفت) MVET، ساتيريان (يوربا) JORUBA، (الأساك) ASAK، (زولو إمبونجي) ZULU IMBONGI، والغنائيات العذبة في سواحل شرق أفريقيا (يوتندي) UTENDI. لم يقتصر عرض هذه الأشكال الفنية في عروض المسرح الدائري، بل وصل إلى المهرجانات الفنية الأفريقية.

المسرح الأفريقي في القرون الوسطى..
ظل المسرح منذ نشأته، وإبان تطوره حتى عصر القرون الوسطي، مسرحا متحركا، بمعنى أنه كان قليل الثبات، مسرحا متجولا بمعنى التجوال والترحال. وقد استطاعت الفرق المسرحية الجوالة – وبمختلف اللغات واللهجات الكثيرة – أن تقدم عروضها في أماكن كثيرة داخل أفريقيا. ويدلنا التاريخ المسرحي أن “بعض هذه الفرق الجوالة قد قدمت عروضها في ساحات القصور الإمبراطورية في العصر الوسيط المتأخر”(1). وهو ما كشف عنه النقاب للمرة الأولى في القرن الثامن عشر الميلادي استنادا إلى ما بقي من إمبراطورية يورويا. وما تأكد بعد ذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي على أيدي المؤرخين الأوروبيين والأمريكيين الذين أشاروا إلى طبيعة عروض المسرح الأفريقي، وبخاصة في النوع المسمى (كوتيبا) Koteba بلغة ماندنجو. كما يشير نفس التاريخ إلى استمرار هذه العروض حتى عصرنا الحالي، مع تعديلات طفيفة لا تمس جوهر النوع. إذ أصبح مكان العرض المسرحي هو الميدان الرئيسي للمدينة أو المحافظة. ويتم التمثيل على الأرض الطبيعية، دون استعمال لمرتفعات أو خشبة مسرح تعتلي المكان، إلا في أحوال نادرة تقتضيها أحيانا طبيعة الأحداث الفنية. على هذا يظهر المسرح الأفريقي في عصر القرون الوسطى بلا مناظر مسرحية، يتم التفريق فيه بين الشخصيات على أساس احتلال ما يحملونه أو ما يرتدونه من أقنعة وجلد حيوان ونبات وغصون أشجار. الممثلون كلهم من الرجال حتى للأدوار النسائية. أحد المغنين يصاحب التمثيل والموسيقى في أغلب الأحيان. الطبول تأخذ مكانها مصطفة على الأرض خلف الممثلين، كما تظهر شخصيات المهرجين والمضحكين يلقون بنكاتهم أثناء العرض المسرحي. ويدخل القفز الأكروباتي ACROBAT في نسيج الرقص الأفريقي.
يظهر البطل في المسرحية الشعبية الأفريقية شخصية أفريقية خالصة. ومع أن كلمات وحوار الدرامات لم تكن تتيح تصاعدا دراميا أو تطورا فنيا للعمل المسرحي حول الحلقة الدائرية، إلا أن الحركة والرقص والأكروبات كانت تكمل هذه العروض، لتعبر عن قصة البطل أو مأساته. من الطبيعي أن ذلك لا يعني عجز الكلمة أو قصورها في المسرحية الشعبية الأفريقية، لأن شكل الدراما مختلف هناك عما عرفناه من أشكال في الآداب الدرامية الأوروبية أو الآداب المسرحية العربية، بقدر ما كان يعرض صورة أفريقية ذات طابع فريد وخاص.


حصار حول الفن الأفريقي..
رغم تعدد البلاد الأفريقية، فمن النادر أن نسمع عن المسرح أو إشعاعات له في القرن العشرين. وبالنظرة العلمية والحضارية نعتبر الأفارقة – في أكثر من مكان في القارة – محرومين من هذا الغذاء الروحي والعقلي، الذي يؤثر بشكل أو بآخر في التنمية الثقافية للقارة، وفي تربية وإعداد الرجل الأفريقي العصري، كما يبعث على تأخر وتخلف في الميدان الثقافي.
ونعتبر القرن التاسع عشر الميلادي هو قرن حصار الفن الأفريقي، ومحاصرة الإبداعات الأفريقية الخالصة. وما هذه الحالة إلا رافدة من روافد الاستعمار للقارة السوداء. ونستطيع أن نقول في جرأة إن أشكال الاستعمار المختلفة (ما بين فرنسية وإنجليزية وغيرها) قد عملت على شلّ تقدم الفنون عامة في أفريقيا. هذا المرض العضال الذي عكس – وياللأسف – على تكوين فكر الإنسان الأفريقي، وصرفه إلى المعاناة والقتال والحروب والقوقعة إلى الداخل، بعيدا بعيدا عن الفكر والفلسفة والتطور والازدهار، كما صرفه وشغله أيضا عن السير في طريق الانتصار الحديث وبلا اتهامات، يجب الاعتراف، بل والتسليم أيضا بأن الثقافة الأوروبية قد استهدفت – وفي أنانية كثيرة – الميدان الأفريقي، مساحة جغرافية، مؤثرات نفسية، عادات وتقاليد اجتماعية، آداب وفنون وشعبيات، بغية خلع الجذور النفسية والاجتماعية ونزعها، لتحل محلها ثقافات وعادات أوروبية مستوردة ومنقولة إلى قارة أفريقيا، مثلها مثل السلع التموينية سواء بسواء.
لقد أجبر الأوروبيون الشعوب الأفريقية على تقبل الحضارة الأوروبية فكرا وفلسفة وآدابا وفنونا، لتقليدها والنسخ على منوالها.
وكما يشير تاريخ المسرح العالمي، تعرف أفريقيا أنماط المسرح الأوروبي، ومدارس فن التمثيل، والمناظر والديكور، ولم يكن هذا اللقاء المفاجئ الأوروبي – الأفريقي في صالح القارة الأفريقية على أية حال.. لماذا؟
أولا: لأن الذين قادوا الثقافة الأوروبية في بلاد أفريقيا كانوا من المبشرين المسيحيين وأعضاء في الإرساليات التي تنتهج نشاطا تبشيريا منظما.
ثانيا: كان من نتيجة سيطرتهم على الشؤون الثقافية أن اضطهدوا مظاهر الرقص الأفريقي حتى استطاعوا وقفه ومحوه وإلغاءه من الظهور على المسرح. تماما كما منعوا ظهور كل ما يشير إلى احتفالات دينية.
ثالثا: أدى هذا التغيير في شكل المسرح الأفريقي إلى إهمال الأفارقة للعروض المسرحية الأوروبية ذات الحوار الدرامي الكثير والجيد الذي لم يتعودوا عليه، وبقي العرض المسرحي الأفريقي – في صورته الجديدة – بعيدا عن التقاليد والفلكلور والحكاية الأفريقية، ولا يمت إلى المجتمع الأفريقي أو إلى عالم أفريقيا.
رابعا: انتهت التلقائية في العروض الأفريقية، وضعف دور الموسيقى واختفت مشاهد الرقص الديني، رغم محاولة المبشرين عرض مسرحيات دينية في بداية خططهم الخبيثة والمهلكة.
خامسا: انتشار الموجات المسرحية الحديثة القادمة من أوروبا، بين الشباب الأفريقي، وبخاصة الذين نهلوا من علوم المسرح وفنونه في أوروبا(2) إبان فترة الثلاثينات، وهو ما أدخل كثيرا من الأشكال المسرحية الأوروبية FORMS على أصل المحتوى الأفريقي CONTENT. الأمر الذي قدم لنا في نهاية الأمر شكلا ممسوخا ومحتوى يطغى فيه الشكل على الأصل والمضمون. فيترك المشاهد الأفريقي كل دليل أمين، إلا فيما ندر من الكتاب الوطنيين في أفريقيا.

محاولات التصحيح..
لم يكن الأمر ليسير على هذا النهج طويلا، خاصة بعد أن تقدم الجانب العلمي والمعرفي بفعل أبناء أفريقيا القرن العشرين.. في محاولات الانعتاق من ربقة الاستعمار، وهي الموجة والتعطش إلى حرية وأحداث نلمسها في التحرير الذي دخل إلى القارة في النصف الثاني من القرن العشرين تحديدا.
ففي طريق الفن المسرحي، قامت أصوات جديدة تطالب بإعادة تأصيل الثقافة والأدوات الأصيلة، تحقيقا لميلاد مسرح أفريقي خالص في القرن الحالي. وكان من نتائج هذه الصيحة ما يلي:
1 - عودة الموسيقى والغناء – وبالطابع الأفريقي التراثي والأصيل – إلى العروض المسرحية.
2 - إعادة دور الأوركسترا الموسيقي في الدرامات المسرحية والعروض، إلى سابق عهده، ملازما ومتلائما مع الفنون الدرامية.
3 - في أواخر عام 1944م تبدأ محاولات إعادة فنون الرقص الأفريقي إلى مسرح أفريقيا.
ومن الطبيعي أن هذه المحاولات الوطنية قد اصطدمت بمعارضات سلطوية أجنبية تبعا لموقف المستعمر وعقليته وفهمه وتسهيلاته أو تعنته. إلا أن تيار الفنانين المسرحيين الأفريقيين العائدين من الدراسة الأوروبية – وبفهم معاصر ووطنية أفريقية خالصة – قد تصدوا لمرحلة جديدة في بناء المسرح الأفريقي المعاصر. من بين نماذج الدارسين الوطنيين نعثر على موريتس سونار منجور(3) MORIC SONAR SENGHOR العائد من باريس ومدير المسرح السنغالي، يكافح بجهوده لإعادة عنصري الموسيقى والرقص بكل تقاليدهما الأفريقية إلى حلبة وخشبة المسرح. والغيني كايتا فوديبا(4) KEITA FODEBA الذي طور من فلسفة الرقص الأفريقي ونماذجه ومعاييره، ليس في قارة أفريقيا وحدها، بل وبنشر هذا الرقص في نموذجه الحديث على مسارح القارة الأوروبية. ثم الأفريقي من نيجيريا وول سوينكا(5) WOLE SOYINKA الشاعر والدرامي العائد من إنجلترا والباحث عن قضايا الأصالة والحرية في المسرح الأفريقي وفق شكل طبيعي أصيل.
تستمر محاولات التصحيح منذ أربعينات القرن العشرين لصالح مسرح أفريقيا وتحصل عدة دول أفريقية في الستينات على التحرر القومي وتنعتق من ربقة الاستعمار الأوروبي. ومن الطبيعي أن يؤدي المسرح الأفريقي دوره في طرد المستعمر بعد أن فجر القضايا الوطنية كعامل إلهام وتعبئة لأحاسيس الجماهير ووجدان الشعوب الأفريقية، وكمجمع لكلمتها – قدر ما في وسعه – من قوة وفلسفة وإيحاء.
ساعدت حركة التعليم، ووجود بعض جامعات في مناطق وبلاد أفريقية(6) على تشجيع ونشر الفن المسرحي في الجامعات وفي الحياة العامة. ثم دخل تعليم مواد العلوم المسرحية كالإلقاء، التمثيل، الإخراج إلى التعليم الجامعي الأفريقي. كان هذا الدخول إلى رحاب الجامعة معوضا لنقص المسارح العامة، بل وندرة الفرق المسرحية المستمرة والمنتظمة أو العاملة بنظام (الريبرتوار) REPERTOIRE. لقد حول هذا التغير أنظار الجماهير الأفريقية إلى بداية احترام المهنة المسرحية وتقدير العاملين في الحقل المسرحي، بعد أن كان الازدراء هو الإحساس السائد تجاه هذه المهنة.
وأخيرا.. وفي ظل ثورة التصحيح الفني هذه اعترفت مجتمعات أفريقيا بقيمة الفن الأفريقي النابع من الأرض.
حقيقة، إن هذه العلوم المسرحية كانت – ولا تزال في بعض المناطق – تدرس باللغتين الأجنبيتين الإنجليزية والفرنسية في الغالب، لكن هذا لا يقلل من الاتجاه الفكري الذي ارتاده المسرح الأفريقي في طريق التصحيح.
وتمثل اللغة في المسرح الأفريقي مشكلة من المشكلات الحيوية لهذا الفن. ففي أفريقيا ما يقرب من (800) ثمانمائة قبيلة وجماعة تتكلم بألفي لغة ولهجة (200 -)، لكن نصف سكان القارة بأجمعها يستعملون نحو خمس عشرة لغة فقط (15) الأمر الذي يخفف من حدة المفارقات اللغوية، وعدم الفهم، أو التأويل في المضامين الدرامية للمسرحيات.. هذا من جانب.
ومما يسهل فكرة انتشار المسرح ووظيفته من جانب آخر، أن عروض الرقص الأفريقي عادة ما يصاحبها (الراوي) الذي يشرح ويعلق ويفسر الأحداث.. وكأنه قائد الجوقة في المسرح الأفريقي الأول. لكنه من الطبيعي أن نذكر أن مثل هذه الحلول لا تصلح للعروض المسرحية كلها، باعتبار أن المسرح كلمة وحوار وفكر وفلسفة، وتأثير انفعالي بالحرف والعبارة الأدبية في نهاية المطاف.

أولا – مسارح غرب أفريقيا..
السنغال، ساحل العاج، الكاميرون، غانا، نيجيريا.
1 - مسرح السنغال:
تعتبر العاصمة (داكار) من أهم عواصم غرب أفريقيا التي تتمتع بمسرح عصري. يعود الفضل في نهضة مسرحها إلى جزيرة (جوريه) GOREE القريبة من العاصمة، التي أسس فيها وليم بونتي منذ الثلاثينات مدرسة عليا لفنون المسرح عرفت باسمه ECOLE WILLWAM PONTY ظلت هذه المدرسة هي الإشعاع العلمي المسرحي الوحيد في غرب أفريقيا حتى خمسينات القرن الحالي. واستقبلت عددا من الفنانين المسرحيين الفرنسيين، كان أبرزهم (س. بيارت) C. BEART الذي بدأ الإخراج المسرحي هناك منذ عام 1933م بواقع مسرحية في كل موسم مسرحي. ووجه إلى مهرجان الفنانين المسرحيين من مواليد العاصمة داكار.
ينشط مسرح السنغال في ثلاثينات القرن، وينتج ما يقرب من (50) خمسين عرضا مسرحيا تدور موضوعاتها بين الثقافة والتقاليد الأفريقية، والعادات والتراث والشباب والمجتمع، إلى جانب قضايا تاريخية أفريقية يدخل في نسيجها كل من عنصري الأدب والدين المستند إلى قصص الإنجيل. وكما يقدم المسرح دراسات تمس النزعات الوطنية والتحررية، تظهر لأول مرة شخصيات مثل جامع الضرائب، الشرطي، التاجر، القس والمعلم.
وقد استعمل المسرح السنغالي المنصة الخشبية التي كانت شيئا نادرا في مسرح أفريقيا (كان التمثيل يجرى على الأرض البسطاء). وأصبحت الجماهير تلتف حول المنصة من ثلاث جهات (الصدر، الجانبان الأيمن والأيسر). كما كان الديكور نادرا ما يجرى استعماله. وحاول المسرح استغلال الأماكن المفتوحة صيفا في الهواء الطلق (يلاحظ جو أفريقيا الحار صيفا).
حتى عام 1939م لم تكن المرأة قد صعدت إلى خشبة المسرح السنغالي. وفي نفس العام 1939م صعدت إحدى الفتيات الأفريقيات مع زميلاتها ضمن عرض مسرحي قدمته مدرسة روفسك للبنات RUFISQUE.
يعزى فضل مدرسة وليم بونتي على المسرح الأفريقي أنها عملت على فهم واستيعاب الثقافة المسرحية الأوروبية من جانب الجماهير الأفريقية، وبلا إغفال للثقافة الأفريقية الأم. بذلك المنهج المتوازن استقطبت المدرسة المبعوثين العائدين من الخارج، في محاولات لتأصيل وتجذير العادات الشعبية البسيطة، ونقلها مادة حية للدرامات والمسرحيات، وهو ما أعطى معنى خاصا للمسرح الأفريقي المعاصر.
وتتوسع الحركة المسرحية انتشارا..
يشيد بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مسرح (ديو بال) THEATRE DIO PALE في مدينة ديو بال في غرب أفريقيا. وهو مسرح خاص قدم أعظم الأعمال الأوروبية على خشبته، وفي اعتبار شديد لتنمية الحس الوطني والشعور بأفريقيا ودور شعوبها قاطبة. إلا أن من أهم منجزات هذا المسرح هو إيقاظ الوعي الزنجي ليمثل الآيديولوجية الأفريقية. واتخذ المسرح التحاما مع حركة الزنوج NEGRITUDE، الأمر الذي مهد فرسته لمسرح السنغال لتوسيع رقعته، وتقييم المسرحيات الأفريقية الخالصة. كانت دراما (سارزان) SARZAN هي أولى درامات المسرحية الأفريقية في السنغال. تحكي الدراما قصة الكاتب السنغالي (بيراجو جيوب) BIRAGO DIOP، وتعرض مواجهة أدبية بين التفكيرين الأوروبي والأفريقي، من زاوية طرق التفكير، شكل الحياة، واعتبر النقاد هذه الدراما خطوة على طريق إبراز حياة أفريقيا بكل أصالتها وخصوبة التربة فيها.
ومع هذه المحاولات القومية أو الوطنية في الفن المسرحي، إلا أنه من الملاحظ أن سنوات الخمسينات قد امتلأت بدرامات المسرح الفرنسي (وكأن الاستعمار أراد العودة من جديد). ففي سنتي 1954، 1955م أعلنت مسابقات درامية لمسرحيات باللغة الفرنسية. كما يعلن عن مهرجان للمسرح عام 1957م لرق غرب أفريقيا، يشترط اللغة الفرنسية أيضا. ومع ذلك فإن السنغال تقترح في عام 1966 مهرجانا عالميا للفنون الزنجية، تتبارى فيه فرق مسرحية وغنائية راقصة من أمريكا وبلاد أفريقية أخرى، ولكن – مرة ثانية – باللغتين الإنجليزية والفرنسية.
ثم.. يتقدم الفن المسرحي..
ففي عام 1965م، وفي مكان مسرح ديو بال يفتتح المسرح القومي السنغالي. ويقدم الأفريقي (أمارو كيشيه ديا) AMADOW CISSE DIA مسرحيته المعنونة (الأيام الأخيرة في حياة لات ديور) LES DERNIERS JOURS DE LAT DIOR.
وهي مسرحية تحكي تأريخا لجهاد القائد الشعبي الأفريقي لات ديور في سبيل جمع الشمل القومي ضد المستعمر الفرنسي وإعلان حرية أفريقيا. وفي عام 1966م يكتب الأفريقي (تشايك نادو) CHEIK NADO درامته (نفي ألبوري) L’EXIL D’ALBOURI ذات المضمون التاريخي الأفريقي. ثم تتبع في عام 1968 دارما (عظام مورلام) L’OS DE MORLM درامي (بيراجوا ديوب) BIRAGO DIOP الذي يؤكد في خطوط الدراما استمرارية الغليان القومي.
2 - مسرح ساحل العاج..
لاحظ شبه علاقة ثقافية بين مسرح السنغال ومسرح ساحل العاج، إذ يتأثر مسرح ساحل العاج بالتيار الثقافي القادم من جزيرة (جوريه) شأنه شأن المسرح السنغالي.
تتحدد بدايات مسرح ساحل العاج منذ ثلاثينات القرن العشرين، عندما قدم المسرح دراما من تأليف (برنار بنلين داديي) BERNARD BINLIN DADIE كان قد كتبها في عام 1916م بعنوان (مدن) LES VILLES عام 1933م. وهو نفس المؤلف الأفريقي الذي صعدت أعماله مؤخرا في المعرض العالمي بباريس عام 1937م. (أسيمين ديميل ملك سانفي) على مسرح الإيليزيه(7).
ROI DU SANWI وASSEMIEN DE’HYLE ودرامته الثانية التي كتبها عام 1954م بعنوان (هذا الميراث لي) CEST MON HERITAGE تعكس سنوات انصراف الكاتب الدرامي لسنوات كثيرة عمل فيها بالشؤون السياسية الأفريقية.
ويعتبر الكاتب الأفريقي (آمون دي آبي) AMON D’ABY واحدا من مؤسسي مسرح العاج. فقد كتب محاولات درامية أخذت مادتها من الإنجيل وقدمها لمنظمة الشباب في وطنه. وفي عام 1938م عندما تأسس أول مسرح منتظم في ساحل العاج عمل الدرامي آمون دي آبي في وظيفة (دراماتورج “8” DRAMATURG) في المسرح المذكور. اشتهر مسرح آبي بانتماء دراماته إلى مسرح البوليفار الفرنسي BOULEVARD، ولكن في تركيز شديد على الدور الاجتماعي الأفريقي، ومن جهة النظر الأفريقية خاصة. إضافة إلى توجهات في الدراما لكسب معركة استقلال البلاد.
ثم.. تغلق مسارح ساحل العاج بعد الحرب العالمية الثانية.
وفي عام 1953م، وبعون من فرنسا ينشيء الفرنسيون مركزا ثقافيا للفلكلور تحت اسم CENTRE CULTUREL ET FOLKOLORIQUE LA COTE D’IVOIRE وهو حتى اليوم أهم الهيئات الثقافية في ساحل العاج. ثم يبرز إلى جانب الطليعة المسرحية الأفريقية في ساحل العاج، الدرامي الأفريقي (جرمين كوفي جادو) GERMAIN COFFI GADEAU الذي يقود الدراما الأفريقية بأربع درامات مهمة تعالج مشكلات الفلاح الأفريقي. من أشهرها دراما (كوفا أورجوبا) KWAO ADJOBA من ستة مناظر، ودراما (نهاية الوعود) LA COURINNE AUX ENCHERES.
إن غالبية أعمال جادو تمتاز بالشاعرية والجمال، داخل إطار كوميدي أفريقي خلاب.
3 - مسرح الكاميرون:
لا يطلعنا التاريخ كثيرا عن وجود نشاط مسرحي حكومي أو أهلي أو خاص في الكاميرون، قبل استقلالها في عام 1960م. وجود النشاط المسرحي مبعثرا هنا وهناك، يفتقد طابع التنظيم والنظام والاستمرارية الفنية.
ينشأ بعد الاستقلال في الكاميرون مسرحان مرة واحدة. المسرح الأول يحمل الطابع الديني الكاثوليكي في منطقة (يوندي) YAOUNDE. أما المسرح الثاني فهو المسرح الشعبي الكاميروني THEATRE POPULAIRE CEMEROUNAIS وقوامه فرقة حية من الشباب. لم يستمر المسرح الأول طويلا في نشاطه الفني. إلا أن أهم ما يتركه لنا من علامات هو العرض المسرحي الذي قدمه في عام 1961م. بعنوان (عاطل عن العمل) UNEMPLOYED من تأليف الكاتب الأفريقي (استانيسلاس آفونا) STANISLAS AWONA، وبعدها عرض المسرح الذي قدمه عام 1966م بعنوان (نانجا كون الرجل الروحي) NNANGA - KON SPIRIT MAN. ثم.. يتوالى ميلاد الفرق المسرحية.
تبدأ فرقة (دوالا) DUALA بمسرحيات اتخذت من الإنجيل وقصصه موضوعات درامية لها. وقد ساعد على نجاح طريق الفرقة إشراف الأفريقي (بو. أ. أمانج) BOE. A 0 AMANG على بداياتها المسرحية كدرامي ومخرج مسرحي متميز. قدمت الفرقة مسرحية (الحصول على المال) LA COURAE A’ARGENT من نوع الساتير المضحك. وفي عام 1938م تعرض نفس الفرقة مسرحية (الذين يحب بعضهم البعض) LES AMANTS DE NULLE PART تحكي قصة حب في إحدى القرى الأفريقية، لكنها تهدف من وراء مضمونها الدرامي إلى تعرية موقف المرأة (نصف البشرية)، لتدين الضغوط والعبودية التي ترسف فيها امرأة القارة الأفريقية.
إننا نلمح تطورا في الفكر المسرحي في درامات الكاميرون، والتصاق الآداب الدرامية هناك بالواقع الأفريقي، وظهور المشكلات الاجتماعية حية نشطة على خشبة المسرح، وعلى أيدي فريق من الشباب الأفريقي، ويظهر ذلك من المؤلفات التالية:
أعمال الكاتب الشاب جيللوم أيونو مبيا GUILAUME OYONO – MBIA من مواليد عام 1939م. قدم درامات (ثلاثة عشاق وزوج) TROIS PRETENDANTS، UN MARI.. والمسرحية تحكي وتسجل التقاليد الاجتماعية في الزواج الأفريقي ثم دراما أفريقيا.
2 - أعمال الكاتب (بنيامين ماتيب) BENJAMIN MATIP وهو من مواليد 1932م. وواحد من أعظم كتاب القصة في الكاميرون. قدم درامته الأولى في عام 1963م بعنوان (القرار الأخير) LE JUGAMENT SUPREME تحكي الصراع في نفس طبيب أفريقي عائد من دراسته بباريس إلى بلده في أفريقيا. وتبين الدراما آثار المعتقلات وأضرار الخرافات في تأخر المجتمع.
4 - مسرح غانا..
نستطيع القول بأن المسرح الغاناوي من أقدم مسارح أفريقيا. ويثبت تاريخ المسرح العالمي أن الجهود المسرحية الأولى قد بدأت هناك في القرن الخامس عشر الميلادي، لكنها كانت جهودا مبعثرة ومتقطعة في غير استمرارية لا تتيح بناء قاعدة جماهيرية في أي مسرح كان.
وكانت البداية في غانا..
نوع من العروض يطلق عليها اسم (سوكودي) SOKODAE. وهي عبارة عن تقليد لبعض الحيوانات والأصوات. وبعض الشخصيات الطبيعية الحية. فيها شيء من التعاويذ والسحر، وشيء كذلك من فن الرقص الأفريقي. وتدلنا المصادر المسرحية على ظهور بعض المهرجانات الأفريقية لهذا النوع من العروض.
وإلى جانب ذلك، ظهرت الدرامات الفكاهية التي لا يزال مسرح غانا حتى اليوم يملأ بها برنامجه المسرحي في كل موسم. تفتق هذا النوع الكوميدي عن أنواع أخرى مثل (ماندنجو كوتيبا) MANDINGO KITEBA، (يوروبا) JORUBA وكلها ساتيريات غانية.
يتطور مسرح غانا تطورا سريعا مع دوران القرن العشرين، ويظهر ذلك في ميلاد عدة فرق مسرحية كثيرة. وأهم هذه الفرق.. فرقة (ياللي) YALLEY. تظهر في عام 1918م على يد مؤسسها ياللي أحد المدرسين من منطقة (سيكوندي) SEKONDI وفي عام 1920م يؤلف (بوب جونسون) BOB JOHNSON فرقة مسرحية شابة تحمل اسم (فرقة الثمانية طليقة الحركة) THE VERSATILE EIGHT. وفي عام 1930 تشرع فرقة جديدة باسم TWO BOBS AND THEIR CAROLINE GIRL (التافهان وكارولينا) تتخصص في العروض الكوميدية الناجحة والمحتوية على جانب كبير من الموسيقى.


كمال الدين عيد