الواقعية النقدية واستراتيجيات الأداء المسرحي (1-2)

الواقعية النقدية واستراتيجيات الأداء المسرحي (1-2)

العدد 618 صدر بتاريخ 1يوليو2019

يعد مفهوم النوع Genre هو أحد أشد الموضوعات وعورة في المسرح ودراسات الدراما. فهل الكوميديا والتراجيديا نوعان فنيان، أم أنهما يغطيان أنواعا فنية متعددة؟ وهل المذهب الطبيعي Naturalism نوع أم أسلوب (وهل هناك فرق بين الاثنين؟). ولو أنهما نوعان فنيان، فهل هو نفس النوع عندما يكون جادا أو هزليا؟ أم هل يجب المحافظة على المصطلح لتصنيفات أضيق مثل المسرحيات القوطية ومسرحيات الميلودراما ومسرحيات الأسرار والمسرحيات الشعرية الحديثة، وتراجيديات الانتقام اليعقوبية، والعبثية؟ وهل تؤسس هزليات شكسبير نوعا فنيا؟
وعندما يمكن استخدام مصطلح بهذه الأساليب المتباينة، تكون الفرص سانحة لدرجة أن المصطلح يشمل كلا من الكثير جدا والقليل جدا، وقد يفتقر إلى الأساس الفلسفي الواضح. ورغم ذلك هناك طرق أخرى لتمييز التشابهات والاختلافات بين المسرحيات وأساليب الأداء. وسوف أناقش بديلا واحدا، يميز أنواع المسرح والدراما في إطار استراتيجيات الأداء. ويتأصل هذا المفهوم في أفكار الواقعية النقدية، وهي إطار فلسفي عام يظهر كبديل مهم لكل من الوضعية وما بعد البنيوية. ولأن الواقعية النقدية ليست مألوفة بشكل واسع عند المتخصصين في العلوم الإنسانية، ولا سيما في الولايات المتحدة، فسوف يقدم الجزء الأول من هذه الدراسة أفكارها الأساسية على أكمل وجه ممكن. ثم سوف يطور الجزء الثاني مفهوم استراتيجيات الأداء، وكيف يكون ذلك المفهوم مفيدا في تحليل تاريخ المسرح والدراما (ولا سيما علم أسباب أساليب الأداء)، وللتعرف على الكيفية التي قد يفهم بها الجمهور خلال فترة معينة العروض التي ذهبوا لمشاهدتها.
مقدمة مختصرة للواقعية النقدية:
الواقعية النقدية هي فلسفة جديدة ذات جذور قديمة. فقد بدأت في اتخاذ شكلها في ستينات القرن العشرين (بشكل ملحوظ في أعمال روم هار Rom Harre) باعتبار أنها فلسفة للعلم أساسا، وبلغت أقصى مداها عام 1975، عندما ظهرت كتب كل من: روم هار واي.اتس. مادين القوى العلية” The Casual Powers وكتاب راسل كيت Russell Keat وجون أوري John Urry النظرية الاجتماعية كعلم Social Theory as Science وكتاب روي باسكار Roy Bhaskar النظرية كعلم Theory as science. وبسبب صرامة تحليلاته وسعيه المستمر إلى نتائجها، أصبح باسكار أبرز فلاسفة الواقعية النقدية، إذ قدم نحو تسعة كتب حول الموضوع بحلول عام 2000. ولكن كما يوضح باسكار نفسه، فان كثير من أفكار الواقعية النقدية الأساسية مستمدة من أعمال الكتاب السابقين. فبعض الصور لها جذور عند كانت وهيجل وحتى فلاسفة اليونان الكلاسيكيين، ولكن أبرز المبشرين بها هو كارل ماركس. وليس مدهشا إذن أن تتطور بشكل أساسي في مجالات علم الاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية والقانون. ورغم ذلك فإن اكتشافها في الثقافة غير شائع، ولكن كثيرا مما يظهر باعتباره واقعية نقدية يكتسب متابعة أوسع. ومع نمو الاهتمام بأن الفلسفة أصبحت واضحة أولا في إنشاء قائمة للمناقشات في عام 1995، فقد حظيت أبحاث الواقعية النقدية الآن بدعم مؤسسة دولية في سلسلة نشرتها دار روتليدج في مجلة محكمة.
وهناك صورتان تؤديان إلى مفهوم استراتيجيات الأداء في نظرية الواقعية النقدية. أولا، يتعلق تطور المعرفة بالتبادل الديلكتيكي بين النظرية والتطبيق. ويصف باسكار هذا بأنه حلزونات نظرية وتطبيقية، تؤدي فيها الممارسة إلى التحريض والأحكام النظرية أحيانا، إذ تنطوي النظرية منطقيا على أحكام عملية، وقد تتسبب مباشرة في اتخاذ إجراءات عملية. وأعتقد أن العلاقة بين النظرية والتطبيق هي علاقة ناشئة: قد تتحفز الممارسات أو تحكم بواسطة استلزامات نظرية، ولكن النظرية تنشأ من الممارسة. وتتأكد الفكرة الأخيرة بواسطة الجدل الأنطولوجي بأن الأحداث الفعلية تنشأ من الإمكانيات والضروريات المفروضة بواسطة كيانات حقيقية، وخبرات ومفاهيم تنشأ من بين تلك الأحداث.
ثانيا، لا تشير عملية تكوين معرفة جديدة عن طريق المعرفة الجديدة فقط إلى استخدام الأساليب الحالية لجمع البيانات التي يمكن أن نستخدمها لتأكيد النظرية أو لتحديها: إنها تختص أيضا باستخدام شيء مفهوم فعلا باعتباره متناظرا مع شيء غير مفهوم أيضا. فبالنسبة للواقعية النقدية، فإن النماذج – الصور الأيقونية – هي جزء مهم في نظرية تفسيرية. فالنموذج لن يتطابق مع موضوعه، بل هو بالأحرى (بدرجة أكبر أو أقل) ملاءمة لسمات الموضوع. وفي نفس الفكرة قد يجد الباحثون أن النموذج الموجود ليس ملائما بشكل كافٍ وأن نموذج آخر يجب أن يأخذ مكانه، مما يؤدي إلى تحولات نموذجية في العلوم.
والصور الأيقونية جزء أساسي في المسرح، لذلك من المهم أن نؤسس علاقة بين ظهور النظرية من الممارسة، وعمل النماذج داخل النظرية. ويمكن إنجاز هذا بتكملة الفلسفة الواقعية النقدية بنتائج علم بعينه، وهو تحديدا العلم الإدراكي، الذي أصبح معروفا جيدا من خلال كتابات جورج لاكوف George Lakoff، ومارك جونسون Mark Johnson. وتكملة الواقعية النقدية بهذا الأسلوب هو الأسهل لأن لاكوف وجونسون يستمدان من هذا البحث فلسفة يسميانها “الواقعية المتجسدة embodied realism”، التي لها الكثير من القواسم المشتركة مع الواقعية النقدية. وهناك بعض الفروق، ولكن بسبب الأهداف الحالية فإن البحث هو المسألة المطروحة. واستنتاج العلوم الإدراكية الرئيسي هو أن الفكر يتشكل بعمق بواسطة التجسيد الإنساني. والدليل على ذلك الزعم نشأ من البحث في اللسانيات وعلم النفس وعلم المعنى الإيمائي، ومجالات أخرى بدأت في أواخر الستينات. فالتجسيد يشكل العقل من خلال تفاعلنا مع العالم المادي، الذي يزودنا بالتجارب من وراء مفاهيمنا الأساسية لمحتويات العالم وبنيته. فمثلا، تنشأ مفاهيمنا في الاحتواء من خلال تجاربنا الحسية بأننا داخل شيء ما، نحاول الدخول في شيء، أو نزيل أو ننقي موادنا من الداخل.. إلخ. وبينما نبني على خبراتنا في العالم، نحول هذه التجربة المبنية على الصور، وتسمى مخططات الصور، إلى مجازات تساعدنا في أن نتصور أنواع الأشياء الأخرى – أشياء ليس لها نفس البنية المادية (العداء في السباق)، وأشياء لا يمكن فهمها ماديا على الإطلاق، والأشياء اللامادية مثل الجاذبية (القمر داخل مجال جاذبية الأرض) والعلاقات الاجتماعية (الشخص س في علاقة مع الشخص ص).
وقد وضحت العلوم الإدراكية مخططات صور مختلف أنواع: الأوضاع، والتوجهات، والحركة، ودرجة الحرارة، والصلابة، وكثير غيرها. ويركز جونسون ولاكوف بشكل رئيسي على ظهور مخططات الصور من التجربة الجسمية للأفراد، ولأن الأجسام البشرية متشابهة أساسا، فهذه المخططات مشتركة. ورغم ذلك، يناقشان أيضا مخططات الصورة التي تنشأ من خلال التجارب الاجتماعية، سواء تلك هي مجموع الكثير من خبرات الأفراد المتجسدة مع الأشياء أو الفعاليات التي منتجات اجتماعية تاريخية، أو خبرات علائقية تعتمد على تفاعلات شخصية أو مؤسسات اجتماعية. فالخبرات الاجتماعية هي أساس المجازات مثل “العقل هو الآلة” أو “الوقت من ذهب”. عمليا تبنى كل أفكارنا، ومفاهيمنا، ومعرفتنا على مخططات الصورة – بداية من المفاهيم الأساسية مثل المفاهيم الداخلية والمسارية، مرورا ببنيات التفكير المتقدم مثل القياسات المنطقية، والمنطق البوليني، والتحليل السببي، وصولا إلى كل الأنساق الفلسفية. ولذلك تنشأ هذه النظرية أساسا من خلال التجربة الحسية أو الاجتماعية، والتفاعل بين التجسيد والقصدية، فالتشبيه المجازي هو في صميم هذه العملية، وهو الرابط الذي يجعلها ممكنة.
استراتيجيات الأداء:
قيمة البحث في العلوم الإدراكية معروف فعلا في مختلف مجالات التحليل الأدبي والثقافي، وفي مجال دراسات المسرح قام بروس ماكوناتشي Bruce McConachie بأقصى ما يمكنه لبحث فائدتها. وسوف أتناول إحدى دراساته في نهاية الدراسة. وأعتقد، مثل ماكوناتشي أن العلوم الإدراكية يجب أن تندمج داخل إطار تفسيري أوسع. وفي رأي، تعطي الواقعية النقدية لمفهوم مخططات الصورة سياقا أكبر وعمقا بنيويا، وتمتلك أقوى الرؤى الفلسفية والاجتماعية لتطوير تحليلات نظرية وتاريخية متماسكة للأداء المسرحي. ومفتاح إجراء هذه التحليلات هو مفهوم استراتيجيات الأداء.
تضم استراتيجيات الأداء ساحة بأكملها من المواد والأساليب التي يستخدمها كتاب المسرح والممثلون والمخرجون ومديرو الإنتاج، وأمثالهم، أو التي يفترض أن يستخدموها في بناء المسرحيات. ويمكن أن تتضمن القائمة الأولية مكان الأداء وزمن الأداء والحدث الدرامي وإعداد المشاهد والصوت وإعداد الشخصيات واللغة والتمثيل ومفاهيم النوع الفني، والعادات السلوكية المتوقعة من المشاهدين والفعاليات بين خشبة المسرح والمشاهدين والجغرافيا والتوجهات وخطاب ما قبل الأداء وخطاب ما بعد الأداء. والقائمة طويلة، ولا يمكن لمدير خشبة المسرح أن يسيطر على كل العناصر. ورغم ذلك، من الناحية العملية، تميل العناصر داخل العرض الواحد، وغالبا عبر كثير من العروض إلى التلاحم في نسق واحد منتظم (يشبه النسق المنتظم في التكوين الاستطرادي).
تنشأ استراتيجيات الأداء من تفاعلات العوامل مع البنيات الاجتماعية والقوى، وكل منهما على حدة، وأجسامهم، في بيئة الأداء أمام المشاهد. وتضع البيئة الاجتماعية أكبر الشروط (التمكين والتقييد) على فعاليات العوامل. وكما أشرنا سابقا، يجب تحليل البيئة الاجتماعية على ثلاثة مستويات: البنيات والعوامل وأنواع الخطاب. فكل منها في الواقع له صور اجتماعية وذات معنى. فالصورة المادية للبنيات الاجتماعية تتكون من الأشياء التي تتيح للناس أن يفعلوا أشياء – معدات، ومباني، ومواد، وأجسام. وعلى المستوى المرتبط بالعوامل، تختص المادية بمهارات الناس وعاداتهم ونشاطهم المنسق، بما في ذلك الترتيبات التأسيسية والتنظيمية التي يمكنهم من خلالها القيام بالفعل. وبالنسبة للخطاب، فإن العنصر المادي هو النص البدني، والصوت، أو الصورة المطلوبة للدلالة. فالصورة الاجتماعية لكل مستوى تتعلق بعلاقات الناس الشخصية والجماعية المترابطة. وعلى المستوى البنيوي يعني هذا العلاقات الاجتماعية للإنتاج ونسق الممارسات المتمركزة، وعلى المستوى المرتبط بالعوامل، التفاعلات الفردية والتنظيمية الفعلية، بما في ذلك أي تصنيف اجتماعي أو جماعة يشارك فيها العامل بشكل عادي (مثل الطلاب الذين تحتاجهم المدرسة)، وعلى المستوى الاستطرادي، النيات والقوى الخبيثة. في النهاية، تتضمن الصورة ذات المعنى للبنيات مخطط الصورة ومستوى التصنيفات الأولية للعوامل، وتتضمن صور ذاتهم والآخر، واستراتيجياتهم العامة لتوصيل الحوار، وتغطي في المجال الاستطرادي التعبير عن الأفكار والآراء في شكل منطق، ونظريات، وفن قص، ودراما ورقص، والإبداعات الثقافية الأخرى.
ويحدث الأداء المسرحي باعتباره تكوينا جماعيا معينا وفعالية داخل هذه الدينامية ككل. ويوظف كعامل اجتماعي يمتلك أنطولوجيته الطبقية الفريدة من نوعها، أنطولوجية توازي أنطولوجية المجتمع. يتكون مستواها المسرحي من التقاليد والعلاقات والترتيبات المكانية التي تحكم التفاعلات بين المؤدين والمشاهدين. وهذا مشابه للبنية الاجتماعية. ومستواها الدرامي (المناظر للمستوى المرتبط بالعوامل) هي القصة كما يتم تمثيلها أو سردها بواسطة المؤدين، والأحداث المجسدة وتفاعلات الشخصيات التي يؤدونها. ومستواها النصي هو سجل الأداء، وهو إبداع استطرادي يمكن أن يكون مسرحية مكتوبة أو فكرة مفصلة بشكل ارتجالي. والتناظر بين الأداء المسرحي والمجتمع يجعل المسرح نوعا من صورة للأنطولوجيا الاجتماعية – أحد أعضاء الانعكاسية الاجتماعية. علاوة على ذلك، من خلال تنفيذ الانعكاسية الاجتماعية، يعمل الأداء المسرحي كنموذج للطاقة الاجتماعية.
في الأداء المسرحي، يخلق الممثلون (العوامل الحقيقية) الشخصيات (العوامل الافتراضية)، الذين هم كذلك منتجات بشكل آني أو مؤثرات سببية للطاقة الفعلية، أسباب الحدث الدامي في المسرحيات، ومؤشرات لما يمكن أن يكون عاملا. فالشخصيات، باعتبارها عوامل، تسعى بشكل نموذجي لحل مشكلة ما، ويشبعون حاجة ما، ويدرأون خطرا ما، أو بطريقة أخرى يزيلون مرضا أو تهديدا أو يشبعون رغبة ما. ومن أجل ذلك، يتبنون استراتيجيات معينة، أو على الأقل تكتيكات معينة. وبالمثل يسعى المؤدون والمخرجون وفنانو المسرح الآخرون إلى حل المشكلات، على الرغم من أن مشكلاتهم مختلفة جدا عادة: أفضل طريقة لفهم النص، كيفية التواصل مع متلقيهم المحتمل، كيفية الاستفادة المثلى من مواردهم المالية والمادية والتنظيمية.. إلخ. وهم يقومون أيضا باستراتيجيات مختلفة لتحقيق غاياتهم. لا تتعلق كل الاستراتيجيات بالأداء نفسه مباشرة، ولكن تلك التي تركز عادة على وضوح الأداء والنجاح الفني. فاستراتيجيات الأداء، إذن، هي مقاربات لتجسيد الطاقة عن طريق المسرح، ويرافق خيال المؤدي، والقصدية، والتجسيد تجاه حوار مباشر أو غير مباشر مع المشاهدين. فالاستراتيجيات تختار تخطيطات الصور المتضمنة المستمدة من الحسية والخبرات الاجتماعية. ولأن بعض التخطيطات مستمدة من التجارب الاجتماعية مع المؤسسات التي تعمل نفسها على العلاقات الاجتماعية الأساسية أو تعتمد عليها، فقد تحصل بعض صور التخطيطات على دور مهيمن في تكييف وتمكين استراتيجيات الأداء.
وسوف يصور المثالان التاليان كيف تعمل مثل هذه الاسترتيجيات. وسوف أشير فقط إلى الأسس البنيوية لظهورها، ويجب أن أصف الاستراتيجيات بجهود كبيرة فعلا. وسوف يختص المثلان صيغة وضوح الأداء، وليس نجاحه الفني: تحقق كثير من الأداءات الصيغة الأولى وليس الثانية، وتعتمد الثانية عموما على الأولى (رغم أن ذلك ليس دائما). ومثالي الأول، أن مسرحيات العصور الوسطى نادرا ما تكون مفهومة أو ذات معنى بالنسبة للجمهور الحديث كما كانت بالنسبة لمشاهديها الأصليين، جزئيا لأن الأفكار عن الحقيقة والواقع قد تغيرت. ولذلك، قد تبدو استراتيجيات الأداء العام لمسرح العصر الوسيط طريفة، أو حتى محيرة، بينما يكون تلقيها الإدراكي مفقودا تماما. لقد بنى أداء العصر الوسيط استراتيجياته بشكل أساسي على صورتين تخطيطيتين: “الحقيقة هي الكتابة” (بمعنى الكتابة اليدوية والمخطوطة)، «الحقيقة هي التكرار». (كانت تستدعي مخططات الصور الأخرى بالطبع، ولو كان أقل مركزية). فقد كانت هناك درجة من التوتر بين هذين المخططين، لأن أحدهما مستمد من تقاليد القراءة والكتابة السائدة والأخرى من الخلفية الشفهية والطقسية المنتشرة، ولكنهما في أغلب الأحوال احتفظا بتكافل مثمر. والطريقة الرئيسية التي ارتبطا بها كانت من خلال التشابهات، في الرمزية والمجاز والتصنيف، وأشكال أخرى. إذ اندمجت التشابهات في الأدب والفن والمواعظ والفكر السياسي ونظرية الموسيقى والعقاب العام في العصور الوسطى، ويمكن العثور عليها في أطروحات حول المنطق واللاهوت عند الكتاب الذين انتقدوا الفكر النتاظري.
والمجاز هو أحد الأساليب المميزة في فن العصر الوسيط وأدبه. إذ يسيطر التجسيدات المجازية على المسرحيات الأخلاقية مثل «قلعة المثابرة Castle of Perseverance»، وكانت تظهر أحيانا في مسرحيات الأسرار. ورغم ذلك، كان المجاز أسلوبا في التفسير، وليس التشخيص. كان المعنى مقسما إلى معنى حرفي ومعنى مجازي. أو عدة معاني مجازية: التفسير الرباعي للتوراة – الحرفي والمجازي والأخلاقي والمرتبط بالأمثولة – كان عمليا عقيدة، وظهر غالبا في العظات. ويمكن تطبيق نفس الأسلوب على مسرحيات الأسرار، ففي حالات قليلة فسرت الشخصيات الرمز بأنفسهم. ولكن يمكن أن تملك الصور المكانية للأداء أيضا معنى رمزيا. فمثلا، تبدأ كنيسة «يورك كوربس كريستي سايكل» موكبها في الصباح الباكر بدير الثالوث المقدس في ضواحي المدينة، وتنتهي في الليل على الرصيف، والسوق، حيث توزن البضائع وتباع حيث يحدث العقاب – وهو مسار أشار إلى الحركة من الرب والخلق حتى يوم القيامة.
ورغم ذلك، بقي المستوى الحرفي في التوسع المجازي، ولم يكن أقل أهمية من المعاني المجازية. (فلم يكن في الواقع غير مألوف بالنسبة للريفيين أن يفسروا الكتب المقدسة حرفيا باعتبارها تعليمات للاتصال المادي، وفي إعادة طقوس السلوك الديني الذي ميز غالبا تعبيرهم عن الشعور الديني). فقد كانت الحقيقة الحرفية حاسمة في إثبات قوة النبوءة، وهي موتيفة سائدة عند يورك سايكل. كانت النبوءة إحدى طرق الحقيقة النصية لكشف التكرار في التاريخ، وكانت الطريقة الأخرى هي علم الرموز، حيث يقوم الناس والأحداث بإعدادها في كتابات العهد القديم وتحقيقها من جانب الناس والأحداث في العهد الجديد. ففي تراتيل يورك تتطابق تضحية إبراهيم بإسحاق مع تضحية الرب بياسوع. وتقترح المسرحية هذا من خلال تشبيه خشبة المسرح واللغة: فإسحاق فوق الثلاثين من العمر على نحو ما، ويخضع بإرادته لطلب أبيه ويحمل خشب التضحية على ظهره، ويستخدم كلمات رددها يسوع فيما بعد,.. إلخ. ويمكن أن تتأسس التشابهات التاريخية أيضا من خلال المفارقة التاريخية. وبملء المسرحيات بالدوقات والأساقفة والمواطنين العاديين، جعل الكاتب الدرامي الأوضاع الاجتماعية الأساسية والنماذج الأخلاقية واضحة للمشاهد. ويتضمن هذا الأسلوب مفهوما تصوريا للشخصية بنفس المعنى مثل الشخصيات المجازية (رغم أنه ليس نفس الأسلوب). فالماضي والحاضر يتكرران لأنهما متحدان من خلال تشابه إنجيلي وأخلاقي.
قدمت الكتابة أيضا أساسا أو دافعا من وراء الكثير من الرموز المادية. فمثلا، تمثل صورة السمكة يسوع لأن كلمة الإكليث ichthus، وهو المعنى اليوناني لكلمة سمكة كانت هي الاسم المختصر ليسوع المسيح، ابن الله، المخلص. وقد كانت مسرحيات سايكل مفعمة بالرموز المادية. إذ ربطت رموز يورك سايكل المادية النقابات الحرفية إلى العروض التي يقدمونها. إذ أنتج عمال نجارة السفن مسرحية “بناء الفلك Building of the Ark”، وعرض الخبازون مسرحية “العشاء الأخيرThe Last Supper” وقدم صناع الآلات الحادة «صلب المسيح».. إلخ. ولأن الرموز كانت جزءا من الثقافة الشعبية (بعكس الرمزية الحديثة، حيث تنتمي الرموز غالبا إلى مؤلف أو مسرحية بعينها)، فقد كانت تتكرر بشكل طبيعي.
فكل السفن هي علامات للفلك، والأشجار التي تصنع منه هي علامات للصليب، والفلك نفسها رمزت إلى الكنيسة، الحافظة للأرواح. ومثل المفارقة التاريخية، وقد صنعت صور النقابات الحرفية القفزة التصويرية عبر الزمن.
يرتبط الانقسام بين الحرفي والتصويري بالتمييز الفلسفي بين العام والخاص. وفي فلسفة العصر الوسيط، كانت العموميات تُقهم باعتبارها طبائع وجواهر مشتركة تشترك فيها نفس الكيانات الفردية – التشابهات في الواقع. والمصطلح اللاتيني لهذه الطبيعة المشتركة هو النوع species. ولذلك هناك كلاب فردية مختلفة، تتميز بسمات خاصة ولكن ليست جوهرية أو ظروف مثل العمر، الود.. إلخ، ولكنها من نفس النوع، بمعنى، أن لها نفس الجوهر أو الطبيعة المشتركة. فالأنواع تشابهات، تفهم باعتبارها موجودة بشكل مستقل عن الملاحظ لها.
ويتم تصميم الفراغ المسرحي في العصر الوسيط وفقا لنفس المبدأ. فسواء استخدم العرض موقع تمثيل واحد، أو عدة مواقع رمزية أو مواكب مسابقات، فإنه قسم بانتظام منطقة الأداء إلى موقع تمثيل واحد (أو عدة مواقع) ومساحة تمثيل محايدة Platea. وموقع التمثيل كان مكانا خاصا يجد فيه الأفراد أنفسهم. ومساحة التمثيل المحايدة بالمقارنة كانت مساحة عامة حيث يذوب الأفراد في الأنواع. علاوة على ذلك كانت المساحة المحايدة هي مجال المسرحية، والتقديم، والتجسيد الطقسي، وانخراط المشاهدين، بينما كان الموقع هو مجال التمثيل بدون حاجة للتفاعل مع المشاهدين. وأثناء الأداء كان التقسيم بين هذين الفراغين قابلا للتقاطع وغالبا ما كان يتم اجتيازه، ولكن ذلك لم يناقض فعاليته المتضمنة: بنية الموقع والساحة تتكون من المجال الخاص في المنتصف، ومجال عام محيط به، وأخيرا عالم المتلقين في الطرف الخارجي. ولذلك نرى مكانا بعينه والناس في الموقع، فيجب أن ينظر المشاهدون من خلال مساحة التمثيل المحايدة، منطقة التمثيل العامة، فكل شيء خاص يجب أن يمر من خلال العام في طريقه إلى المشاهدين (ويمكن أن نقول المستوى الكاثوليكي)، يتضمن في النهاية الرب. وينشئ قطبا موقع التمثيل ومساحة التمثيل المحايدة التوتر الذي يجب أن يُقرأ فيه كل شيء من خلال فلتر أو مرشح تعميم، يكشف كل الأنواع أو الجوهر، باعتبارهم شعارات أو أنواعا أخلاقية.
ولذلك، مثّل الناس على خشبة المسرح علاقاتهم النموذجية مع الرب، حتى من خلال فرديتهم. ولذلك، نادرا ما تابع مسرح العصر الوسيط الشخصية بالمعنى الحديث (التي تحمل عمق نفسي داخلي وتناغم) لأن بنيتها لم تؤكد الدوافع الشخصية ولكن المعنى الأخلاقي الأساسي. فالمؤسسة الاجتماعية في العصور الوسطى كانت تُعرّف في إطار الأنواع الأخلاقية، إذ صاغت استراتيجيات الأداء في ذلك العصر هذا التعريف وعززته. فقد استدعى مسرح العصر الوسيط أوجه الشبه بدهاء ملحوظ في كل مجالات الأداء: اللغة والحبكة وإعداد الشخصيات والأدوات والملابس والتقديم على خشبة المسرح – الأعمال. لقد كانت جزءا من ثقافة مشربة بأوجه الشبه باعتبارها استراتيجية منطقية سائدة، تكوّن (بشكل جزئي أو مفتوح) كلية أنشئت المؤسسة في إطار أخلاقي.
بالطبع، استغرقت الأساليب الفنية في العصر الوسيط قرونا لكي تندمج بهذه الدرجة من التكامل. وتتباين هذه الوحدة الجمالية بحدة مع تيار في اتجاه التشعب الذي بدأ خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، حيث تتنافس أساليب الأداء وشروطه المختلفة أو تتعايش معا: النزعة الطبيعية والرمزية والتعبيرية والمسرح الملحمي وإعادة البناء التاريخية وفن الأداء ومسرح المنتدى وخشبة المسرح الإيطالية (العلبة الإيطالية) وخشبة المسرح الممتدة وسط المشاهدين والصندوق الأسود.. إلخ. وقد يتحقق قصد سياسي ضمني أو علني في الكثير من هذه التطورات. ويمتد بعضها إلى الاستراتيجيات الإدراكية المسيطرة ومخططات الصور في اتجاهات جديدة، التي رغم أنها مظاهر متغيرة بشكل جذري تظل متوافقة مع الافتراضات الأساسية، ويأخذ البعض الآخر مخططات الصور ويغير المنظورات، مما يشكل نوعا من التعارض الموالي الذي يحارب النهج السائد، مع أنه يوافق بشكل سري على بعض الأسس، ويظل البعض الآخر يعتمد تماما على استراتيجيات الأداء المختلفة ومخططات الصور. وأحيانا تظهر المناهج المتباينة حتى داخل المسرحيات أو العروض الفردية. وفي العصور السابقة، وغالبا اليوم، كانت تمارس هذه التناقضات باعتبارها عيوبا فنية، إذ في الأداء الحديث قد يستمدون من منهج فني، مثل الانتقائية والمعارضات الأدبية بعد الحداثية، وفي أي من الحالتين، قد يعبرون عن التحولات التاريخية، والأزمات، التعارضات والاكتشافات، والجهود المطلوبة للتشبث بالتغيير وظهور الظروف الثقافية الجديدة التي لم تهيؤها التناولات القديمة، والتخطيطات القديمة بشكل ملائم.
ولكن لا يجب أن يحجب انتشار الاستراتيجيات في مجموعة من استراتيجيات الطليعة حقيقة أن تناولات بعينها هي السائدة. وفي مقاله “عمل أشياء بمخططات الصورةDoing Things With Image Schemas”، يقترح بروس ماكوناتشي طريقة لاستخدام مخططات الصورة لفهم كيف يمكن أن يعايش المشاهدون الأداءات تاريخيا. ومثاله مأخوذ من التيار الرئيسي في المسرح الأمريكي في منتصف الخمسينات: “أمطار بغيضة A hatful Rain” إخراج مايكل جازو Micheal Gazzo، على مسرح برودواي خلال موسم 1955 - 1956. إذ يقدم اكتشافه رؤى مثيرة للاهتمام، ومتوافقة عموما مع الواقعية النقدية. وبشكل صريح، يمكن أن يبني إطار الواقعية النقدية على هذا المنهج لكي يوضح بشكل أكمل الطبيعة الطبقية والدينامية لاستجابات المشاهدين، ويقترح كيف أنه في مثال استجابات المشاهدين هذا قد يتعلق بدوافع متصارعة أو متعارضة.
..........................................................................................
توبين نيلهاوس (Tobin Nilhaus) يعمل أستاذا للدراما والدرسات المسرحية في جامعة يال بالولايات المتحدة الأمريكية. وقدم الكثير من الدراسات في تاريخ المسرح ونظرية الأداء والواقعية النقدية.
وهذه الدراسة تقع في الفصل الثالث من كتاب “فلسفة الأداء المسرحي: تقاطع المسرح والأداء والفلسفة” Staging Philosophy: Intersection of theater، performance and philosophy - الذي صدر عن مطبوعات جامعة ميتشجان عام 2009... تحت إشراف (ديفيد كريزنر David Crazner) و(ديفيد سولتز David Saltz)

 


ترجمة أحمد عبد الفتاح