نوح الحمام في انتظار المسيخ

نوح الحمام في انتظار المسيخ

العدد 622 صدر بتاريخ 29يوليو2019

يأتي “نوح الحمام” استمرارا لمغامرات الكاتب والمخرج أكرم مصطفى على مستوى الشكل والتناص مع تيمات ونصوص عالمية من خلال عملية هضم وتمصير تحيل التجربة التي يقدمها إلى مستوى اكثر اتساعا وقبولا لدى المتلقي المحلي، قبل سنوات قليلة شاهدنا نصه الجميل “الأبرياء” – من إخراج أحمد ابراهيم- الذي اشتبك فيه بصورة ثرية مع النص الألماني الشهير للكاتب زيجفريد لنتس واستطاع ان يكسر وقتها نمطية وسطحية التجارب التي اتخذت من الحراك الشعبي في 25 يناير 2011 قشرة سياسية لها لكي تحميها من اي نقد او رؤية موضوعية بعيدا عن طغيان الحدث.
ثم قبل عامين قدم لنا المونودراما النسوية المكثفة “واحدة حلوة” – من تمصيره وإخراجه- عن نص “أمراة وحيدة” لداريو فو، وعبر عملية هضم دقيقة التعاطي مع الموضوع وحساسة بأتجاه المضمون استطاع أن ينجز عملا ممصرا بصورة ناضجة، وذو تاثير وتماس حقيقي، وبأقل قدر من النكهة الغربية التي تظل كامنة في النصوص الجيدة مهما حاولنا ان نمزجها برائحة مجتمعاتنا وساكنيها.
في نوح الحمام – من تأليفه وإخراجه- يمكن ان نلتقط بسهولة ظلال تيمة الأنتظار الشهيرة التي تعتبر “جودو” بيكيت احد علاماتها البراقة، بل أن اللقطة المسرحية الأولى بالنص تحيلنا إلى مفتتح قصيدة كفافيس :
ما الذي ننتظر ونحن محتشدون في الساحة العامة ؟
من المنتظر وصول البرابرة اليوم..
فالرجل الذي ينتظر وصول “وطني” – لكي يأخذ منه بثأر أخيه يجلس في ساحة القرية ساهرا مع صديقه (الأهتم) – اي الذي يعاني من عيب في مخارج الألفاظ-  ليتأكد من الخبر عبر مرور الأم المتحمسة لعودة ابنها – أم وطني- فيظل في حالة تأهب ومراوحة ما بين الترقب والخوف في انتظار(وطني) قبل أن ندرك أن كل شخصيات العمل بما فيهم الرجل والأم (الزوجة الجافة والعشيقة البضة غريبة الأطوار والضابط المفصول العائد للأنتقام) كلهم في انتظار وطني الذي اشيع بقوة أنه قادم الليلة عائدا إلى قريته منذ ان غادرها قبل خمس سنوات.
ولكن من هو وطني الذي ينتظره الجميع؟
على عكس كل من نص بيكيت وقصيدة كفافيس فإن الشخص او الكيان المنتظر في نوح الحمام لا يحمل أي خلاص من أي نوع، بل على العكس، فقدوم وطني إلى البلدة او عودته سوف يؤدي إلى الكثير من الحوادث المآساوية المؤسفة، وربما من هنا يأتي ذلك التناسق الشعري والدلالي بين عنوان العرض”نوح الحمام” الذي يأخذنا عبر سياقات حزينة وقاتمة – خاصة مع الاغنية التي تشبه عدودة تراثية التي يفتتح بها العرض والتي تتسأل عن سر نوح الحمام وحزنه الكثيف بينما يتضح سر هذا النواح والحزن كلما تكتشف ملامح من شخصية وطني عبر حكايات الليلة الغريبة التي يقضيها الجميع في انتظاره.
نحن هنا امام الطرف المقابل للمُخلص، فالحكايات الشهوانية والدموية التي تتداولها الشخصيات عن سيرة الغائب تكشف طبقات القسوة وانعدام الضمير وموت القلب التي تتسم بهم شخصية هذا المُنتظر، وتدريجيا يصبح ترقب البعض له وخوفهم من مواجهته (مثل الرجل صاحب ثأر اخيه والضابط صاحب ثأره الشخصي) من ناحية بينما من ناحية أخرى تمثلنا لحجم العذاب والتمزق الذي سوف يسببه المُنتظر لأمه التي تتباهى بجرائم الشرف والدم التي ارتكبها منذ أن كان صغيرا وعشيقته المتزوجة التي سلبها عقلها وزوجته التي تعلم أن لنساء اخريات نصيب من جسده.
كل هذا الدم الذي على وشك ان يُرتكب وتلك العذابات التي توشك أن تشتعل بمجرد قدومه يجعلنا أمام شخصية اقرب للمسيخ الدجال الذي يعلن ظهوره عن نهاية العالم كما نعرفه.
ربما كان في سؤال انتظار المسيخ جزء هام من جوهر التجربة المسرحية هنا، لأنه يحيل المتلقي إلى التساؤل حول فلسفة الأنتظار وجدواها في كثير من الاحيان. ان انتظار “وطني” لهو انتظار للخراب القادم بمجرد ان يطأ البلدة، وغياب وطني الطويل لهو حقبة السلام التي عاشتها القرية بينما هو مبتعد بشروره وقسوته، إذن فليس كل مُنتظر مُخلص، وليس كل غياب شر.
على مستوى الشكل يكثف اكرم ككاتب ومخرج حضور الفكرة او التساؤلات التي يريد لها ان تتدفق بسلاسة إلى عقل المتلقي ومشاعره عبر توظيف عنصر وحدة الزمان والمكان والموضوع شكليا وايقاعيا، فتجاور المناظر الثلاث (البار حيث ينتظر الضابط وساحة القرية حيث ينتظر الرجل صاحب ثأر أخيه وصالة منزل وطني حيث تنتظر امه وزوجته وعشيقته) بينما ننتقل عبر الأضاءة والأظلام من زاوية لاخرى استطاع أن يحقق وحدة المكان المطلوبة، بينما الليلة التي ينتظر فيها الجميع عودة وطني حققت وحدة الزمان وأخيرا وحدة الموضوع وهو انتظار كل الشخصيات لهذا الوطني.
يمنحنا عنصر وحدة الزمان والمكان والموضوع مساحة اكبر للتأمل في عملية الأنتظار القاتمة، والتي تختلط فيها الذكريات مع الأوهام مع الحكايات التراثية والحكم الشعبية مع المشاعر المشوشة بين فرحة ورعب، ويكتمل التأمل المطلوب عبر مجازفة درامية من الكاتب حين يقوم بتسكين الصراع لمنح مشاعر المتلقي وذهنه مساحة ايقاعية وزمنية اطول للأستغراق في خليط الأنتظار والذكرى والوهم.
فالنص لا يحتوي على تصاعد درامي او صراع متدرج يحمل على كتفيه حماسة المتلقي للمتابعة حتى مع تكشف بعض الأسرار او تعري الشخصيات التدريجي من ظاهرها لينكشف الكثير من باطنها الذي يشكل انتظار وطني عورته ومفتاح فهمه في نفس الوقت.
هذا هو المقصود بالمجازفة الدرامية، لأن اي كاتب يغامر بتسكين الصراع فهو يغامر إذن باستعداء لحظات من الملل او البطء الأيقاعي أو هبوط حماسة المتابعة، صحيح أن وحدة الزمان والمكان والموضوع ساهمت في تنشيط الأيقاع وابقاءه في حدود الكثافة المطلوبة بالأضافة إلى زمن العرض ككل الذي لم يتجاوز الساعة، ولكن لا شك أن تسكين الصراع لمنح مساحة تأمل خاصة يعتبر مغامرة جريئة من الكاتب يمكن أن نضيف عليها ايضا مغامرة الحوار المسرحي الذي قدم بلهجة جنوبية قاسية وفي نفس الوقت بمزيج من الواقعية والشعبوية التراثية التي تمزج ما بين الحكاية والمثل والأمثولة والموعظة، ناهينا عن جرأة الديالوجات الخاصة بمشاهد الأم مع الزوجة والعشيقة والتي تصف حالة النشوة الجنسية وشهوانية اللحظات بين وطني وبين نسائه، وفيها تبدو الام مستمتعة في اوديبية واضحة تلقي بظلال مريبة وغامضة على علاقتها بأبنها المُنتظر، وتفسر لنا بعض من تواطئها الغريب مع جرائمه ونزواته، بل وتلقي بعض الضوء على اصل تلك الجرائم والنزوات التي ساهمت هي نفسها في تنميتها بشخصيته لأنها ببساطة تركته يفعل ما يشاء بلا حساب.
وفيما يخص الجانب النفسي للشخصيات يمكن أن نتوقف هنا أمام ملاحظة اخرى تخص مضمون النص وهو أن شخصيات الرجل صاحب الثأر والزوجة والعشيقة والضابط يعانون جميعا من حالات فشل نفسي وجسدي وأجتماعي وأنساني تبدو جميعها في ظاهرها مرتبطة ومعلقة في رقبة وطني و(حضوره) أو (غيابه وانتظاره)، فهل وطني بالفعل او بما فعله او لم يفعله هو المسئول عن تعلق العشيقة به وتمثلها له في فراشها بدلا من زوجها! وهل الخسوف النفسي وجفاف الجسد للزوجة ولجوئها إلى السحر لضمان محبة وطني – اختار المخرج ممثلة بجسد نحيف نسبيا ليبرز فكرة جفاف جسدها ونفسيتها ويؤكد على التضاد بين هذا الجفاف وبين طراوة جسد الممثلة التي قدمت شخصية العشيقة- وهل وطني هو السبب في فصل الضابط من عمله رغم ما يدعيه من تفاني وحب لفكرة فرض القانون بقوة الخوف؟
في الحقيقة فالشخصيات الأربعة تعاني من تشوهات ومشاكل نفسية واجتماعية ربما ساهم وطني في بعضها وربما لم يساهم، لكنها بلا شك تعلق الخلاص من هذه المشكلات والتشوهات في رقبة عودته ولهذا تنتظره بفارغ الصبر، رغم أن تلك العودة قد تودي بهم جميعا إلى الهلاك، وهو ما يعيدنا إلى سؤال انتظار المسيخ مرة أخرى!
أن علينا ان ننظر إلى داخل انفسنا ونجرد ذواتنا من اية مبرارات خارجية ونصل إلى اصل مشكلاتنا قبل ان نعلقها في رقبة المُخلص المنتظر الذي ربما لا يأتي قدومه إلا بمزيد من الخراب علينا – وهو ما يحيلنا إلى عملية نقد الذات الذي كرس لها اكرم مصطفى نص الأبرياء قبل سنوات-
تبقى الأشارة إلى عدة نقاط تخص متانة الأيهام العام بالمكان وتلك النكهات التي سبق واشرنا إليها التي تشعرنا ان ثمة ما ينقص تمصير الموضوع او التيمة او السياق ككل :
أولا : لماذا يوجد في هذه القرية بار كامل الأوصاف بهذا الشكل الذي شاهدناه في العرض؟
يذكرنا وجود البار بتلك الجملة الشهيرة في الاعمال المترجمة (ثم نزل فلان إلى البلدة واتجه إلى الحانة) فهل تدور الأحداث في زمن سابق – ربما الأربعينيات أو الثلاثينيات- حيث كانت القرى والبلدات المصرية الصغيرة تحتوي على خمارات أو بارات! ولكن ملابس الضابط وجراب السلاح الذي يحمله ونوع السلاح يوحي اننا امام زمن حديث نسبيا، إذن فأين تقع تلك القرية أو البلدة المصرية الصغيرة التي تحتوي على بار! ربما لو كانت قهوة بلدي ويحتفظ نادلها بمشروب خاص لزبائن مخصوصين لأصبح الامر اكثر واقعية وقربا من الحالة المصرية، ولكن بار في قرية في الزمن الوهابي الذي نعيشه!! من الصعب تقبل هذا ومن غير الضروري أن يذهب بنا المخرج إلى تلك الصورة الأجنبية عن مجتمعنا الحالي فيضع نفسه في دائرة شك حول النص ككل.
ثانيا : مع كل دسامة الحواروقوة اللهجة إلا أنه من الغريب ان تتحدث كل الشخصيات تقريبا – ربما باستثناء الضابط – عبر الحكاية الشعبية والامثولة والحدوتة التراثية! وكاننا امام خيال جمعي واحد او مخيلة لغة واحدة لا تفرق بين ألسنة الشخصيات! وبالتالي يطمس الحوار الحدود المطلوبة بين ابعاد الشخصيات واختلافها الذي هو أساس أي عمل درامي، فشخصيات الأم والرجل صاحب الثأر والزوجة والبارمان الأسمر البدين كلهم يستدعون الحكايات والأمثولات دون فرق في المخيلة أو الثقافة – حتى الشعبي منها- وإذا كان هذا متقبلا من الأم بحكم خبرتها وسنها ومن البارمان بحكم مهنته التي تجعله مضطلعا على نفوس وذكريات وملامح زبائنه إلا انه يبدو غريبا على الرجل صاحب الثأر وعلى الزوجة الجافة! فمن غير المنطقي أن يتحول الجميع إلى حكماء واصحاب خبرات، ويمتلئ جرابهم بالأمثولات الفلسفية! بل أن في هذا تقليل من شان الأشتباك الحواري بين النص وبين تلك الحكايات وبريق موعظتها.
وتقودنا هذه الملاحظة إلى المأخذ الثالث على النص وهو ان وجود الأمثولات والحواديت الشعبية في بدن الحوار كجزء اساسي جعل المتلقي غير متأهب ولا ملتفت لذروة العرض، فتبدو الخاتمة وكأنها تأتي فجأة أو ان العرض انتهى دون اشارة واضحة أو سابق تهيئة للمشاهد، لأن الكاتب وضع على لسان شخصية الأم حكمة من تلك التي تكدس بها الحوار طوال العرض، ومن ثم اصبح المتلقي معتادا على وجودها وحضورها الوعظي والفلسفي، وبالتالي فإن استخدامها كنقطة في أخر سطر العرض ككل يبدو كأنه انطفاء مفاجئ! لم يترك للمشاهد فرصة استعياب الذروة أو ربطها بالنص ككل سواء فكريا أو شعوريا، ناهينا عن الربط الدرامي الذي هو ايضا مطلوب بحكم الشكل المسرحي فحتى النصوص ذات النهايات المفتوحة لأشباه الحكايات تحتاج هي ايضا إلى نهاية ما.   


رامي عبد الرازق