التفاعل: أسلوب وإمكانات التناول الإدراكي العلمي للمسرح

التفاعل: أسلوب وإمكانات التناول الإدراكي العلمي للمسرح

العدد 621 صدر بتاريخ 22يوليو2019

يعمل المسرح على جسم وعقل المتفرج، فهو يغير العقول ويلمس الأجسام إلى أعمق المستويات. وأنا بصفتي منظرة ومتخصصة في المسرح، فأنا مدفوعة لفهم طبيعة هذا العمل: كيف يمكن أن تحرك القصة المتجسدة التي تروى على خشبة المسرح المشاهد؟ أحيانا عندما يعتاد الناس على البساطة الدرامية والخطابية الكوميدية التلفزيونية، كيف يستطيع المتفرجون فهم قصة مسرحية مثل «ريتشارد الثالث»؟ لقد تحولت دراسات المسرح والأداء بشكل مثمر إلى نظريات الأنثروبولوجيا وعلم النفس واللسانيات وغيرها للبحث عن الأجوبة التي تدفع هذا المجال. وفي خطوة من المحتمل أن تحدث هزة، مثل التي أحدثها (فيكتور تيرنر) و(فرويد)، يسعى الباحثون الآن لإيجاد الإجابات في العلوم الإدراكية.
وكما أشار (ديفيد سولتز David Saltz) بشكل مفيد أنه من المهم ألا يستخدم تكامل العلوم الإدراكية في دراسات المسرح والأداء البحث في العلوم للتحقق من صحة نظرياتنا. كما أن مقالة عن (ريتشارد الثالث) أو استخدام الأطراف الصناعية في أداء مسرحية (ريتشارد الثالث) هي قيمة من حيث إنها تقدم إجابات وأسئلة لمختبر غرفة التدريبات، ينبغي أن يوفر البحث العلمي طرقا جديدة لاستجواب الافتراضات في إطار مجالنا وتوضيح ثنائية اللغة – ولا يحتاج منهما أن يكونا متحولين. فلا يجب أن تغرينا الإحصائيات وصور الرنين المغناطيسي لترك سلطة معرفتنا. فالوضع النظري (سواء داخل العلوم أو الإنسانيات) لا يقل صلاحية لربط البيانات التجريبية، ولكن يجب أن يكون مسئولا وقابلا للدحض من خلال شبكة الدراسات والنظريات التي لا يزال في حوار معها. إذ تربط اللسانيات الإدراكية اللغة والإدراك والجسم، بطرق تؤثر على المسائل العملية والنظرية في الأداء، وبالتالي تكون نقطة بداية طيبة لبحث متعدد المجالات.
وفي هذه الدراسة سوف أقدم بعض الأسئلة والإجابات التي تنتج من التعارض بين شكسبير والعلم وخشبة المسرح والمختبر. ولمعرفة كيف نفهم يعني أن نعرف كيف نزيد هذا الفهم. فالبحث في اللسانيات الإدراكية عن المجاز ونظرية المزج يقدم أساليب فك المعنى وربطه بالصور الأفكار الأخرى التي أثيرت حول المسرحية. ويسمح لنا فهم اللغة بهذه الطريقة بتحليل درامي للمسرحية للتركيز على المساحات التي أثارت جدلا وإن لم تكن علنية بالضرورة. إذ تعيد اللسانيات الإدراكية تنشيط التحليل النصي، ولكن الأهم من ذلك بالنسبة لقوة النمو طويلة المدى لهذا المجال المتنامي، أنه يوفر الصلة بين الكلام والتفكير والكلمات والخلايا العصبية. وسوف أبدأ بمقدمة للنظرية اللغوية التي أكدت أقصى فائدة لتحليلي اللغوي، ثم أنتقل إلى علم الأعصاب المتضمن في أداءات هذا النص.
• مزج التفاعل:
لأن اللغة تعمل على جسم/ عقل المستمع، فتبدو عملية معالجة هذه اللغة أساسية للمتخصصين في المسرح. وليس من الصعب أن نفهم ما معنى “شتاء سخطنا الآن/ صنع صيفا مجيدا بشمس يورك/ والسحب التي غطت بيتنا/ قد دُفنت في حضن المحيط”، إن التحدي هو فهم كيف يعني ذلك. فكل من نظريتي الاستعارة المفاهيمية والمزج المفاهيمي تعارضان الافتراضات التقليدية لبنية القواعد اللغوية الموروثة التي توزع جملا مثل «القط على الحصيرة the cat is on the mat» بناء على تعريفات وقواعد حفظ الكلمات. وتوافق اللسانيات الإدراكية عموما أن اللغة والفكر إبداعيان ومتجسدان ويستخدمان الاستعارات والأمثلة والتمازجات. وفي كتاب (الطريقة التي نفكر بها) The Way We Think يتوسع (جيل فاكونير) و(مارك تيرنر) في نظرية الاستعارة ليجادلوا بأن المعنى ليس من المصدر إلى الهدف فقط، ولكنه مزيج بين المساحات العقلية. ويتم عرض المعلومات من مساحتي إدخال أو أكثر إلى مساحة مختلطة، مثل تلك المساحة التي تحتوي على معلومات وبنية من أكثر من مجال. والأهم أن تتضمن المساحة المختلطة بنية ناشئة غير متاحة من المدخلات، فالتضارب هو التآزر. وأود أن أستخدم “كذبة اجتماعية” لإظهار كيف يمكن لنظرية المزج المفاهيمي أن تبدأ عندما تنتهي نظرية الاستعارة.
وإذا كانت «الكذبة خدعة» يعني بها إحداث ضرر، و”الاجتماعية” تتعلق بالجماعة أو العلاقات الودية، أو المجتمع المهذب، فلن يضيف التعديل إلى فهمنا للكذبة. وفي هذه الحالة، فسوف تخصم كلمة «اجتماعي» المعلومات من تصنيف كلمة «كذبة». وكما يقول (جورج لاكوف George Lakoff): “تصنيف الكذبة الاجتماعية ليس تقاطع مجموعة من الأشياء ومجموعة من الأكاذيب”. فالكذبة الاجتماعية بدلا من ذلك تُفهم عن طريق الإسقاط بشكل انتقائي لبعض المعلومات من مساحة مدخلات كلمة «اجتماعي» وبعض المعلومات من مدخلات كلمة «كذبة» إلى مساحة ثالثة. ففي مساحة كلمة «اجتماعي» تكون اهتمامات الذات عرضة لأهمية الجماعة، وفي مساحة كلمة “كذبة” تُقدم معلومات غير دقيقة لكي تسبب ضررا للآخر. ومساحة المزج “كذبة اجتماعية” تخلق فكرة جديدة، فكرة لم تكن متاحة تماما من المدخلات: الخداع لمصلحة الجماعة.
وفي التحليل النصي التالي، أتمنى أن أوضح منهج فك عملية صناعة المعنى، رغم أن المعاني نفسها ربما لا تكون جديدة. فلا تكمن قوة المسرحية العظيمة فيما تعنيه، ولكن في كيف يتم صنع معناها وإعادة صنعه عبر الزمن والأجيال. وفك بناء مسرحية «ريتشارد الثالث» للحالة في إنجلترا باستخدام نظرية المزج المفاهيمي يقدم تحليلا غنيا ومفيدا مسرحيا. وما يلي، رغم ذلك، لن يكون تفريغا كاملا، بل تضاربا أولي بين الجملة ونظرية المزج. وأتمنى أن أستخدم تحليلي المختصر لطرح مزيد من الأسئلة أكثر من الإجابة عليها، كدعوة لأعمال تالية.
 شتاء سخطنا الآن
قد صنع صيفا مجيدا بشمس يورك
والسحب التي غطت بيتنا
قد دُفنت في حضن المحيط
يحدد ريتشارد ملك يورك الإيقاع، ويبشر بالمستقبل، ويقدم أهم توضيح في جملة واحدة. وبالطبع يمكنني أن أناقش أن أغلب ما يلي في المسرحية يمكن رؤيته في هذه الجملة الأولى في عرض مذهل لما يسميه (فاكونير) و(تيرنر) «التعاطف». فحالة إنجلترا المعقدة في بداية المسرحية مضغوطة بواسطة (ريتشارد) إلى نطاق إنساني، بينما يفهم المستمع نهاية صراع الأسرة المالكة في يورك في إطار تغير الفصل، مع سحب سوء الحظ التي دفنت في أعماق المحيط. وفضلا عن القول بأن تلك الأشياء على ما يرام، يخبرنا (ريتشارد) أن أشياء سيئة تحدث للأشياء السيئة. تبتكر لغة ريتشارد حزنا متغيرا بانتظام مثل فصول السنة، ومحيط كحضن الأم والمقبرة، وملك هو ابن وشمس. يعتمد تصوير شكسبير على تتابع المتمازجات التي تسهل المطالبة بتمازجات المستقبل، فاللغة تقف على التداعيات التي تبنيها على طول الطريق. فلغة شكسبير توليدية بشكل إدراكي: فالتمازجات التي ينسجها خلال المسرحية تخلق المفاهيم كلما استمرت.
عندما أسمع “شتاء سخطنا الآن”، أفترض أن سخط (ريتشترد) في أوج ارتفاعه، فضلا عن نهايته بسبب الدفء الذي يوفره ملك جديد. وهذا جزئي لأنه لا يوجد شيء مبهج أو صيفي في ما يتعلق بتصوير (ريتشارد)، ولكن هذا جزئي لأنه بعد أن أضاف “صنع صيفا مجيدا بشمس يورك هذه”، تتغير تلك الصورة لكي تتوافق مع فكرة التغير الموسمي. فعبارة “شتاء سخطنا الآن” هي مزيج استعاري، حيث المعلومات المنعكسة من المساحة الذهنية للشتاء مختارة بناء على فهم «السخط» باعتباره دائرة والشتاء هو أكثر أجزائها برودة. فعندما يقول (ريتشارد) إذن إن سخطهم تحول إلى صيف، فمن الضروري أن يعكس معلومات من مفهوم السنة باعتبار أن لها مواسم لكي يفسر الحالة الحالية باعتبارها تغيرا لا ينفصم مثل الزمن: انتهت الحرب، وتغيرت الأحوال. ويريد (ريتشارد) أيضا أن يستحضر برودة الشتاء – فالأشياء تتغير كما أنها مرحب بها – الجزء الأخير في الدائرة والغموض المتجمد لما هو آتٍ. وكما اتضح، سيبقى سخط إنجلترا صاخبا حتى نهاية المسرحية، عندما يموت ريتشارد ويتوج ريتشموند (جد الملكة إليزابيث الأولى).
في جملة ريتشارد الأولى، دُفنت سحب سوء حظ الأسرة في قبر تمثل وكأنه محيط وصدر. ويحتوي ذلك القبر المائي على سوء الحظ، مثلما يحتوي المحيط على الجسم الميت أو يحتوي الصدر سرا مشتركا. وكلاهما الحميمية والخطر في هذه الصورة. وتسمح دينامية مزج البنية بمسافة للمعنى لكي يلتحم خلال المسرحية. وصدر المحيط العميق قادر على الرعاية والخنق – وهي فكرة استكشفت المزيد في المشهد التالي. فـ(ريتشارد) في إغرائه لـ(آن) يستخدم الصدر مرتين: المرة الأولى عندما يطلب أن يعيش لمدة ساعة في حضنها الجميل، والثانية أن يقترح أن تغمد نصل سيفه الحاد في صدره إذا كانت تعتقد أنه المسئول عن موت زوجها. هذان الصدران، مثل صدر المحيط حاويان للحياة والموت. وبعد بدء المسرحية بهذه الصورة المظلمة والمبهجة للمحيط الذي يدفن السخط، يضم شكسبير وصفا شعريا طويلا لحلم شقيق (ريتشارد) (كلارنس) عن الغرق في المحيط. ففي هذا الحلم، كما يحكيه (كلارنس)، يدفع (ريتشارد) أخاه في تدفقات المحيط الرئيسية، حيث على الرغم من الرغبة في الموت، يجد (كلارنس) أن المحيط توقف في روحه وخنقها داخل الجزء الأكبر منه. فالمحيط والصدر هما حاويان يخنقان حتى عندما يكونا معنيان بالتنشئة ويشبها الرحم القوي الذي يلومه (ريتشارد) في المناجاة الأولى على أنه سبب تشوهه «أخرجتني قبل أواني/ في هذا العالم الصاخب/ غريبا نصف مخلوق».
لقد كتبت كل من (ليندا تشارنز Linda Charnes) و(مادونا ماينر Madonne Mimer) عن ارتباط الرحم/ القبر في مسرحية (ريتشارد الثالث). إذ تفكك (تشارنز) لغة «الرحم/ القبر»: يستبدل ريتشارد لغة الإفراط والتأخر الهائل، بلغة التخلف والابتسار غير المهذب. وتجادل (ماينز) بأن استعارة الميلاد مركزية في المسرحية وأن الميلاد والقتل متحدان في المسرحية، وعلى الرغم من اتفاقي معها، أعتقد أن المزج يفسر كيف يحدث هذا الربط. فـ(ريتشارد) ليس الشخصية الوحيدة التي تلوم رحم الأم لشكلها الشرير، فـ(مارجريت) تسميه «طلقة رحم أمك الثقيلة». وبعد ذلك تحدد الرحم الذي أنجب ريتشارد، وأنها كان يجب أن تدفنه، باعتباره المدخل إلى الجحيم، «لقد تسلل من رحمك مثل الكلب/ كلب الصيد الملعون الذي سيطاردنا حتى الموت». وفي نهاية المسرحية، يعود (ريتشارد) إلى صورة الرحم باعتباره علاقة الميلاد والموت. وقبيل معركة بوزورث فيلد، يتكلم (ريتشارد) مع أرملة أخيه عن زواج ابنتها وأختها لأميرين قتلهما. فتذكره أنه قتل أولادها، فيجيب «وفي رحم ابنتك أدفنهما:/ حيث يترعرعون في هذا البيت القذر/ بكل جوارحهم، حتى تستريحي». وفي صورة بشعة أخرى للدفن والبعث، يجعل (ريتشارد) الرحم صراحة مثل القبر: وسوف يكون رحم ابنة إليزابيث هو التربة الراعية لميلاد مستقبل أفضل.
ويجادل (كريس هاسيل جي أر Chris Hasel J R) أن الانتصار الأخير لـ(ريتشموند) على (ريتشارد) في «بوزورث فيلد» تم عرضه مسبقا في خطبته القوية لجنوده. ولا يقترح تحليل (هاسيل) ما يجعل إنسانا أقوى من آخر. إذ توضح نظرية المزج المفاهيمي أين فشلت خطبة (ريتشارد) ونجحت خطبة (ريتشموند). ففي محاولة لحشد قواته في المعركة النهائية ضد (ريتشموند)، ينعت ريتشارد خصمه بأنه «راضع الحليب» وهو النعت الذي يفهم رجاله أنه رجل أو فتي لين العريكة أو مخنث أو يفتقر إلى الشجاعة ولكنه أيضا ربما سمع «الخبز المنقوع في الحليب» أو «الرضيع الذي ما زال يتغذى على الحليب – وهما تعريفان من القرن السادس عشر مدرجان في قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية. ومن المحتمل أن شكسبير أراد أن يسمع جمهوره المعاني الثلاثة. فـ(ريتشارد) الخطيب المتمكن لا يمكنه أن يفكر في شيء أسوأ من الوقوع فريسة إغراء الحب الأمومي، إذ يستمر كلامه لتحذير الجنود من زوجات سرقة الهزيمة. وقبل أن يفقد ريتشارد حصانه، يفتقر إلى رؤية الإنجاب التي لا تتعرض للخطر أو الخيانة. ومن الناحية الأخرى، يشجع (ريتشموند) جنوده بربط أرحام زوجاتهم بأجيال المستقبل التي من شأنها توفر الخلود من خلال الذرية: إذا حرمتم أولادكم من السيف/ فسوف يتركه أولاد أولادكم في حياتكم». تتطلب رؤية (ريتشموند) أن يستدعي جنوده المساحة الذهنية في التهديد الموجه الأطفال، ثم يمزج ذلك بمساحة مستقبل أولاد الأولاد المهددين: الأطفال الذين يتم إنقاذهم بالسيف ينجبون أطفالا قادرين على سداد دين حياتهم. في هذا المزيج، يكون الجنود على قيد الحياة وبخير ويشعرون بالارتياح لوجود أحفادهم – صورة من المرجح أن تغرس الشجاعة في المعركة بدلا من صورة الزوجات والبنات المغتصبات. ويذكر (ريتشموند) جيشه بأن ما هم عليه الآن يعتمد جزئيا على كيفية تذكرهم.
لا تهدف نظرية المزج إلى التنبؤ بالمزيج الدقيق المبني من أي مجموعة معينة من المساحات العقلية المستحضرة. ويمكن أن يزودنا المنظور التاريخي بالطريقة التي يمكن أن يؤثر بها علم الكونيات البطلمي على تكوين المعاني المرتبطة بالشموس/ الأبناء في المسرحية، على سبيل المثال. وما يهمنا هنا هو الطريقة التي تبني بها اللغة المعنى طوال المسرحية – الطريقة التي تستحضر بها المساحات العقلية لفهم كلمات مثل «صدر» و«رحم» (مهما كانت معلومات يستدعيها المشاهدون عند سماع الكلمة) هي عندئذ متاحة ومنقولة بينما تدور أحداث المسرحية. ويجادل (فوكونير) بأنه بينما يمكن يختلف أي مزيج معين من شخص إلى آخر، فإن شبكة المساحات المدفوعة في موقف معين هي أكثر قوة باعتبارها عملية في تدفق، وسلسلة من المتغيرات، فضلا عن أنها مزيج نهائي. ووفقا للتصميم تقريبا، فإن الوصف الكامل للمساحات في إطار مبني بواسطة مزيج هو أمر مستحيل، لأن هناك عددا لا نهائي من المساحات المحتملة المرتبطة. ولا تكمن قيمة تطبيق نظرية المزج على النص أو الأداء في القدرات التصنيفية، بل تكمن بالأحرى في كيفية تحديد المساحات المحتملة وتوضيح الصلات التي لا تظهر على الفور رغم المحافظة على القوة حتى في حالة السكون. تقدم نظرية المزج للمتخصصين في المسرح والمنظرين أداة لتحسين العرض والتصميم لأنها توفر طريقة لفهم المقصود عندما نقول إن شيئا يفلح بينما لا يفلح آخر.
ولتقديم مثال لتحليل الأداء اللغوي الإدراكي، أريد أن أركز على تمثيل (سام شبيرد) لدور شبح الملك هاملت في عرض (مايكل ألمريدا Micheal Almereyda) لمسرحية «هاملت» (عام2000). فقد استعار (ألميريدا) شخصية النجم السينمائي (شبيرد) لكي يحكي قصة «هاملت». فمن خلال اللقاء والاشتباكات بين المساحات العقلية التي استحضرها (شيبرد) وشبح الملك هاملت، يربط (ألميريدا) قصة الفن الرفيع والفن الوضيع، والحي والميت، والأب والابن، والفيلم السينمائي وشريط الفيديو، وخشبة المسرح والشاشة، جميعا معا. ففي عرض (هاملت) يحافظ الشبح على عناصر الملك الميت (مظهره وذكرياته ونياته) ولكنه لا يحافظ على الآخرين. ويأخذ الشبح شكل الجسم الذي كان عليه ذات يوم، ولكن بدون ماديته البدنية: «نفس شخصية الملك الميت». ويستطيع أن يتكلم ويمشي، لكنه لا يؤثر مباشرة في تغير مادي – بمعنى أن الشبح لا يمكنه أن ينتقم.
وعلى الرغم من أن اختيار ممثل لأداء الدور يحمل معنى يقوم على العناصر التي يظهرها الممثل تلقائيا لكي يعرضها معه (العمر، والعرق، والنوع البدني، والآليات الصوتية)، لا يتوافق كل الممثلين مع شخصية (سام شبيرد). فسيرة شيبرد خالية من الأدوار والتفاصيل التي تتعارض مع صورته باعتباره من النوع الهادئ الصلب، إنه راعي البقر أو رائد الفضاء أو الكاتب المسرحي. ولا سيما لأدوار مثل الشبح، حيث لا يسمح للمشاهدين بنفس مقدار الزمن بمعلومات عن الشخصية، فاختيار شبيرد هو اختيار تلك الشخصية. اختيار نجم لشخصية محددة يسمح للمخرج بإثراء دور صغير عن طريق نقل معلومات من حياة النجم الحقيقية بقوة إلى الشخصية. ويسمح أيضا للممثلين أن يجسدوا شخصياتهم عن طريق أداء شخصياتهم في فيلم.
بينما يتم تقييد مزيج «شيبرد/ الشبح» بسياق مزود بنص وفيلم – «شبح» و«ملك» و«أب» و«فنان» و«مدير تنفيذي» – فأكثر المعلومات التي نعرفها عن «شيبرد» ومسرحية شكسبير، كلما أصبح المزيج أكثر ثراء. فمثلا يعتقد أن شكسبير قد لعب دور شبح الملك «هاملت»، و«شيبرد»  هو كاتب مسرحي وممثل. بهذه المساحات العقلية المستحضرة، فإن «هاملت» ملك (ألميريدا) هو محدد العظمة التي تسير مؤقتا في ثوب مؤدي ضئيل. لقد سقط ملك (ألميريدا) الذي له دراية بأعمال (شيبرد) ككاتب مسرحي، وسمعته في تجنب برودواي للمسرح السحري في سان فرانسيسكو، بسبب نزعة شقيقه التجارية وتفضيل ابنه لمقاطع الفيديو على المسرح: شبح شيبرد أكثر من مجرد مجموع أجزائه.
لقد فعل (ألميريدا) أكثر من إعطاء الدور لـ(شيبرد): يمنح الأولوية لهذه التداعيات من خلال كيفية عرض سينمائي. كان يمكن أن يصور (ألميريدا) شبح (شيبرد) سينمائيا باعتباره صوتا غير مجسد أو كصوت روحاني، فهذه الاختيارات تؤكد تمثيل المساحات (كاسبر، أفلام الرعب، وتاريخ الأشباح في مسرحيات شكسبير). وبتقديم (شيبرد) بكامل جسمه وليس شبحا، تستطيع الكاميرا أن تركز على ماديته وليس شبحيته. فشبح (شيبرد) يدخن وهو يرتدي معطفا طويلا من الجلد، يستدعي صورة راعي البقر المصورة على سجائر مارلبورو التي سبق أن لعبها في الماضي. يجعل (ألميريدا) شبح (شيبرد) يختفي بالسير خلال ماكينة بيبسي، التي تؤكد المؤسسة المسئولة عن استثمار مثل هذا المنتج وبالتالي تتحرك من خلاله شخصية (شيبرد) باعتباره لا منتمي، وكأنه يتحرك بالسحر، والاستغلال الدائم لرأسمالية السلع. يربط (ألميريدا) (شيبرد) مع (إيثان هوك) وبالتالي يضع عناصر الفكرة في المقدمة في العلاقة بين «هاملت» وأبيه. وعندما يظهر (شيبرد) لـ(هوك) أول مرة، يتهمه ويخيفه وويخرسه: (شيبرد) هو راعي البقر القوي بالنسبة للجنرال المفكر هوك: فشيبرد هو الفعل وهوك هو الكلام. كان سام شيبرد هو الوحيد الذي بقي على الشاشة لبضعة دقائق، ومع أنه يرتكز على المساحات العقلية التي يستدعيها، يحكي القصة دون أن يقول كلمة.
ولا تساهم نظرية المزج المفاهيمي في رؤية (شيبرد) عند تصويره لشبح الملك هاملت أو فهم أن السطر الأول من ريتشارد الثالث الذي ينشئ التشبيهات والمجازات التي تستمر في النمو والتطور على مدار المسرحية. فنظرية المزج المفاهيمي لا تقدم لنا التحليل الذي يقدمه لنا نقاد الأدب وكتاب الفن الدرامي، فنظرية المزج المفاهيمي تمنحنا منهجية لإعادة تفريغ المعنى مرارا وتكرارا، لإيجاد صلات جديدة في عصور جديدة أو مسرحيات جديدة. واللسانيات الإدراكية عموما تستكشف كيف تكون اللغة قوية ولماذا. وإذا شاركت عبارة «الآن شتاء سخطنا» بشكل أكبر في التخيل من خلال ربطها بالمساحات العقلية بشكل غير مرجح، فيستتبع ذلك أنها سوف تثري الفهم، وقد تعقده، وتتطلب المزيد من الكتب والهوامش والتفسيرات، ولكنها، كما يقول أحد المنظرين، سوف تجعلنا أكثر حيوية. وهذا نوع من التقديس لقيمة الأدب التي يمكن أن تكون غامضة وبلا مغنى، ولكن في حوار مع فروع العلم التي تبحث معنى الحيوية ومعنى المشاركة في التخيل وتدرسهما، فإنها تحدث هزة لدراسة الفن الذي نقدره كثيرا. وهذا هو أحد الأسباب التي تجعلني أجد أن اللسانيات الإدراكية أداة مفيدة لتحليل المسرح: فمنهجها ولغتها ونتائجها تتوافق مع العمل الذي يتم في مجالات أخرى.
وقد تعاون (جورج لاكوف)، وهو عالم لسانيات إدراكي في جامعة كاليفورنيا ببركلي، مع (فيتوريو جاليزي)، وهو عالم أعصاب من جامعة بارما بإيطاليا، في دمج البيانات التجريبية إلى نظريات تخصص لك منهما. وهذا العمل، الذي سوف أناقشه فيما بعد، لم يكن ممكنا بدون الاحترام المتبادل لكل من النظرية والبيانات. ورغم الفروق بين مناهج المجالين وتعريفاتهما للأدلة، فقد وجدا الأرضية المشتركة لربط اللسانيات الإدراكية بعلم الأعصاب في دراسة للأسئلة التي طرحها كل منهما. وبالمثل سجلت (سيانا كولسون) و(سيما فان بيتين) الإمكانات المرتبطة بالحدث Event - related Potentials من أشخاص يقرأون جملا مختلفة ووجدوا أن الجمل الاستعارية لم تعد تقرأ ببط أكثر من الجمل الصريحة، بل يتم استدعاء أجزاء منها من المخ. وهذا يوحي بأن هذه المعالجة أكثر ارتباطا، ولا تستهلك الوقت. وتدمج هذه الدراسة المنهجية التجريبية مجالات علم الأعصاب وعلم النفس في أسئلة فهم الاستعارة التي تعتبر قابلة للتحقق من الناحية التجريبية والعلمية. ويتحدى عملهم الاعتقاد السائد لفترة طويلة بأن معالجة الزمن تساوي الصعوبة، بمعنى آخر، تطلبت معالجة الجمل المجازية المشاركة بأكثر من المخ، ولكن هذا زيادة النيران لم تزد من الوقت المستغرق في معالجة الجملة. إذ يعالج مشاهدو المسرح بشكل مذهل المعلومات المركبة بدون أن يضلوا. وبالطبع، ربما أن سبب عرض مسرحية «حلم ليلية صيف» أكثر من مسرحية «فارس المدقة الحارقة The Knight of The Burning Pestle» هو بسبب حقيقة أن ثراء لغة شكسبير تحتاج المزيد من التخيل والعمل، وربما لأن البحث عن كيفية فهم اللغة والقصة والأداء يمكن أن يشجع أولئك الذين يرغبون في أن يجادلوا عن مسرحيات أقل لها نفس سهولة مسرحيات كوميديا الموقف (sitcoms)، ومسرحيات أكثر بتعقيد مسرحيات شكسبير.
...................................................................................
• تعمل ( آمي كوك ) أستاذا بجامعة آموري بالولايات المتحدة الأمريكية  . وقد أصدرت كتابا بعنوان : “المسرحية الشكسبيرية العصبية : التلاقي بين العلوم الإدراكية ودراسات الأداء “  .
• نشرت هذه الدراسة في مجلة theater journal   العدد 59 لسنة 2007 الصادرة عن مطبوعات جامعة Johns Hopkins  بالولايات المتحدة الأمريكية .


ترجمة أحمد عبد الفتاح