ماذا بعد الفلاح الفصيح؟

ماذا بعد الفلاح الفصيح؟

العدد 613 صدر بتاريخ 27مايو2019

يحاول سعيد سليمان من فترة ليست بالقصيرة أن يستزرع فن الأوبرا في أروقة البيت الفني للمسرح المصري، وإذا اقتصرنا الحديث على الأعوام القليلة الماضية، فسنجده قدم عرض (الإنسان الطيب) بمسرح الطليعة؛ ثم (شامان) بمسرح الغد، والآن يقدم بمسرح الشباب عرض (ترنيمة الفلاح الفصيح).
وأعتقد أن سليمان من خلال هذه العروض _ إذا اقتصرنا مشروعه عليها ولم ننظر لما هو أبعد ذلك _ قد مر بالخطوات التجريبية الأولى؛ لكي يحدد طريقا واضحا؛ بعد ذلك لاستمرار مشروعه أو استزراعه.
فخلال تجربة (الإنسان الطيب) كان نص العرض مؤلفا دون أن تكون هناك مرجعية حاكمة. ولكنه كان يعالج مشكلة الإنسان ككل والصراع بين الخير والشر. صحيح كانت هناك إشارات للواقع المصري. ولكن العمومية كانت غالبة؛ أي أن الخاص لم يلقِ بظلاله على العام بل العكس.
وفي التجربة الثانية (شامان) كان نص العرض بمرجعية أجنبية خاصة من الشرق وحضارات الهند والصين. وإذا اعتبرنا هذه المرجعية، خاصة بمن أنشأها، وليس لها امتداد في واقعنا المصري، وقد يمتد للعربي أيضا، إذن سيكون الأمر هنا على عكس ما تم في النموذج الأول؛ أي أن الخاص هنا ألقى بظلاله على العام، ولأننا جزء من هذا العام، إذن فالعرض كان يناقش بعضا من قضايانا.
وقد يأتي تأويل آخر مفاده أن هذه المرجعية هي مرجعية إنسانية خالصة لأنها تعود للتراث الإنساني، وحديثا لها مؤيدوها ومروجوها في كل الأنحاء، خاصة من أصحاب الثقافات الواسعة. ساعتها سنعود لتأويل الأول، وفي أحسن الأحوال سيتزاوج التأويلان معا، وهذا أمر لست ضده.
ولكن في (ترنيمة الفلاح الفصيح) فإن المرجعية هنا هي مصرية خالصة. صحيح أنها تمتد زمنيا، وربما الكثيرون لا يدركونها، ولكن هذا لا يقلل من حقيقتها. إذن، المرجعية مصرية والتوجه لما هو مصري أيضا.
إذن، فلا يعتقد أحد أن محض الصدفة هي الحاكمة في التوجه والمعالجة، فالعرض الأول أقيم في قاعة مسرح الطليعة، والثاني قدم قي قاعة مسرح الغد، ومع الوضع في الاعتبار أن التعامل مع المكانين كان يستوجب وجود عدد من الجمهور يقدر بالعشرات فقط. سنقول إن سليمان ربما عرف أن جمهوره المستهدف ينخر في هذه الأعداد.
أما في تجربتنا التي قدمت بمسرح الشباب بعد إعادة افتتاحه، وعدم طلب سليمان أن يقدم العرض في مكان آخر؛ أي أن الجمهور المستهدف انتقل من خانة العشرات لخانة المئات. وطبيعي أن جوهر العرض والمستهدف منه؛ حتى فيما قبل التحقق، كان هو السبب في ذلك، خاصة لو وضعنا في الاعتبار المرجعية التي أشرنا إليها من قبل.
وإذا كان سليمان قد حقق قدرا لا بأس به من نجاحات في عروضه السابقة، مع الوضع في الاعتبار الجمهور المستهدف، فهل كان هذا النجاح ممتدا في (ترنيمة الفلاح الفصيح)؟ خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن هذه المرجعية المصرية مشروطة بالمعرفة في عملية التلقي، مع التسليم بأن هذه المعرفة ليست متوافرة للشخص العادي.
صحيح أن المردود الفني في عملية التقديم على خشبة المسرح كانت جيدة وهناك اكتشافات جيدة لبعض المؤدين والممثلين الذين قد يكون لهم شأن _ فقد اعتمد سليمان على الشباب _ كما أن  رامة فاروق التي أتعرف عليها للمرة الأولى، ربما كمهندسة ديكور ومصممة أزياء، قد تفاعلت بشكل جيد مع الموضوع وقدمت حلولا للمخرج مع الحفاظ على الجانب الجمالي والدلالي للكثير من الرموز الفرعونية المستخدمة، مع القبول لما قام به د. هاني عبد الناصر في مجالي الموسيقى والألحان.
ولكن هناك عائقا أوليا تجلى في تصادم الموضوع مع المرجعية المطروحة، فمن يعرف قصة (الأخنوم) الذي هو (الفلاح الفصيح)، سيدرك جيدا أن الملك الفرعوني ساعتها لم يأخذ موقفا منه. صحيح أنه أمر بعدم تلبية مطالبه في أول الأمر لكي يستمع كل ترانيمه أو شكواه، ولكنه في آخر الأمر قد لبى مطالبه بل وجعل منه مسئولا كبيرا لكي يعمل على تلافي الشكوي من أي مواطن مر بما مر به سابقا، ولكن هذا لم يكن هو المطروح أمامنا، بل قد تمكنت بعض الأحداث الراهنة من لي عنق المرجعية لكي يكون هناك خطاب مغاير، يتماس مع الواقع، ولكنه تعارض مع المرجعية.
ثم مع اعترافي بالجهد المبذول في تدريب الشباب سواء من المخرج أو الملحن، إلا أنه جاءت أوقات لم يكن فيها التصريح باللفظ أداء أو غناء واصلا أو مفهوما!! بما أعاق عملية الاسترسال. ربما سينبري أحدهم للرد بأنه في (الأوبرات) العظيمة المعروفة، لا يمكن جيدا استخراج اللفظ نظرا لطبيعة اللحن، واستعراض مساحة الصوت، وهذا سنرد عليه لاحقا.
أدرك جيدا أن سليمان في كل عرض جديد يحاول أن يتدارك بعض ما كان في العرض الذي سبق، وبالفعل هو ينجح كثيرا في هذا.
ومن هنا يكون السؤال: هل سيواصل سليمان مشروعه بنفس الشروط التي سار عليها؟
أعتقد أن الإجابة لو كانت بنعم، فهذا معناه السير في دائرة استنفدت غرضها، ولم يعد هناك جدوى من التكرار.
ومع أنني أتفق مع سليمان في أن عملية استزراع الأوبرا في التربة المصرية، لا يستوجب الإتيان بها كما هي، لكن في نفس الوقت هناك شروط وقواعد لا بد منها سواء في عمليتي التهيؤ أو التنفيذ.
فـGrand Opera التي تقوم على أن يكون الغناء هو الوحيد في العمل سواء كان بوحا أو حوارا، وهو ما حاول سليمان أن يقدمه في العمل الأخير، تقوم أساسا على تحريك المشاعر الإنسانية العامة.
كما أن الـComic Opera التي لمحنا لها وجودا في أعماله السابقة تجمع بشكل قليل بين الغناء والحوار العادي، وعادة ما يكون موضوعها من النوع الذي يبعث على المسرح أو التسلية، مع التأكيد بأن التسمية هنا للفصل وليست للتعبير عن المضمون، فقد تكون الأولى تحمل مواضيع فكاهية والثانية تغلب عليها الميلودراما.
وإذا كان سعيد سليمان يحاول أن يجمع بين النوعين فهذا من حقه، ولكن علينا ألا ننسى أن الموضوع والغالبية تكون للغناء والفخامة في التقديم، مع الوضع في الاعتبار أن الجمهور المستهدف يقدر بكل مقاعد المسرح الذي يمتد لبضعة مئات تصل للألف ربما، حتى وإن كان فنا راقيا يستوجب نوعا معينا من المتلقين.
وهذا يستوجب أولا ألا تكون عملية التأليف وكتابة الأغاني شيئين منفصلين، حتى وإن قام بهما شخص واحد؛ كما في عرضنا، ولو عاد سليمان لبعض (الأوبريتات) الناجحة التي قدمت في المسرح المصري قديما لوجد هذا، وأيقن أن الهدف الأولى هو القدرة على كتابة الأغنيات والحوار الغنائي/ الشعري.
ومع الوضع في الاعتبار الحاجات الموسيقية في إبراز قوة الصوت، فعليه يكون موضوع الأوبرا العام معروفا للجمهور من خلال الاتكاء على ما هو معروف دون تدخل يفسد سريانه المسبق، أو موضوع جديد، موجود في مطبوع العرض ومقدم للجمهور قبل بداية العرض بوقت كاف.
ومع الاعتراف بأن الفخامة واجبة في هذا التوع، فربما وجب أن يكون الإنتاج من الحجم الكبير، للوصول للنجاح المنشود. وأعتقد أن نجاح أوبريت (ليلة من ألف ليلة) للمسرح القومي مؤخرا يقف دليلا. ومع أنني مع منح الفرصة للشباب في كل المجالات، إلا أنه في هذا النوع من الفن يجب الاتكاء على من يود أن يذهب الجمهور لمشاهدته كما حدث في القومي أو من يذهب إليه لسماعه كما يريد سعيد سليمان، وإذا كان الإثنان معا فهو تأكيد أكبر.
ولو وضع سعيد هذا نصب عينه لربما استطاع فعلا أن يستزرع هذا النوع من الفن بمواصفات مصرية، من خلال المشروع المسبق الذي يضع جمهوره في المقام الأول من خلال تقديم ما يحبونه مع التطعيم بالرسالة المرادة، بمعني أن عملا مستقبليا يعتمد على صوت على الحجار يستهدف جمهورا وربما موضوعا مختلفا عما لو كان الاعتماد على واحد من مطربي المهرجانات أو الإغنية الشبابية. وساعتها سيكون التركيز التام على ما يقدم على خشبة المسرح من عناصر البهاء في شتى النواحي، مع البعد عن بعض تعاملات القاعات التي قد تشتت الانتباه، مثل النزول للصالة ومن ثم نبحث عمن يقول ما نسمعه.
باختصار، لكي تكون تجربة سعيد سليمان في مسارها الصحيح ربما وجب أن يقدم مرضوعه التالي في المسرح القومي أو الحديث أو الكوميدي، بميزانية تمكنه من تحقيق الحلم، فهل يعي القائمون على أمر المسرح المصري؟ أعتقد أنه يستحق هذا، فهو أجدى من بعض العروض ذات الميزانيات الكبيرة التي تقدم، وما هي في حقيقة الأمر سوى إهدار للمال العام.


مجدى الحمزاوى

mr.magdyelhamzawy@gmail.com‏