مسرح الثقافة الجماهيرية في عيون مبدعيه

مسرح الثقافة الجماهيرية  في عيون مبدعيه

العدد 613 صدر بتاريخ 27مايو2019

«إن الثقافة الحقيقية هي النابعة من القاعدة الشعبية، وكلما تعمقنا في الجذور ارتفعنا إلى العالمية» بهذه العبارة لخص «نجيب محفوظ» نهاية عام 1966 دور مسرح الثقافة الجماهيرية الذي يعد خط الدفاع الأول عن ثقافتنا لما يلعبه من دور بارز في مواجهة كل أشكال التعصب، بالإضافة إلى الانفتاح الثقافي على البيئات المختلفة في شتى ربوع مصر..
ومن هذا المنطلق نناقش: هل من الضروري أن تقدم في مسرح الثقافة الجماهيرية عروض تلائم البيئة والموقع الجغرافي الذي تقدم به أم لا؟
اختلف المسرحيون في هذا الشأن، فالبعض يرى ضرورة تقديم نصوص تلائم البيئة أو الموقع، بينما يرى البعض ضرورة تطويع النص حتى يتناسب مع الشريحة المتلقية، وخصوصا إذا كان ما يقدم نص عالمي. ويرى آخرون أن هناك انفتاحا مجتمعيا على الثقافات الأخرى ما يسقط حجة انغلاق البيئة على تلقي فنون بعينها تناسب ثقافتها.. نستعرض في هذه المساحة حجج هؤلاء وهؤلاء.
- قال المخرج رأفت سرحان: حاليا أرى أنه لا توجد أسس محددة تحكم اختيار النصوص المسرحية المرشحة للإنتاج، وأن الاختيار متروك بالكلية للمخرج أولا ثم بالتوافق مع أعضاء الفرقة أحيانا، وغالبا ما يكون المخرج واقعا تحت تأثير الفكرة في الأصل ثم الكلمة النهائية تكون للجنة مناقشة المشاريع، تتبعها موافقة الرقابة على المصنفات.
أضاف سرحان: من المهم أن تنتج عروض تعكس قضايا وعادات وموروثات البيئة أو المجتمع الذي سوف يتم إنتاج العمل المسرحي به، ولكن ليس بالضرورة أن يتم ذلك بشكل دائم، وإلا وقعنا في النمطية وعدم التجديد، ثم أننا نقدم خدمة ثقافية لرواد الموقع ومن حقهم التعرف على ثقافات الغير من خلال عروض مسرحية تعكس ذلك، حتى وإن كانت عالمية، ولكن من المهم أن نقدمها بشكل جيد وجذاب ليتقبلها الجمهور. ولنا في مسرح الثقافة الجماهيرية تجارب ناجحة في هذا الشأن، وإن كان رأيي الشخصي أن يكون ذلك في نطاق محدود وأن تتاح فرصة أكبر للنصوص المصرية والعربية.
تابع قائلا: المسرح حالة فنية إنسانية تحاول أن ترتقي بمفاهيم وعادات وتقاليد ومثل، لا أعتقد أنها تختلف كثيرا باختلاف المكان.
تطويع النصوص العالمية
واتفق معه المخرج أحمد الشريف في أهمية تقديم نصوص تلائم قضايا المجتمع، حيث قال: بالتأكيد، جماهيريا من الملائم تقديم نص يناقش قضايا المجتمع الذي تقدم به المسرحية، ولكن هذا ليس شرطا، فمن الممكن تقديم النصوص العالمية بشرط تطويع لغتها للموقع بحيث يحدث التواصل الجماهيري، وقد سبق وقدمت تجربة ناجحة للغاية جماهيريا، ومصرت مسرحية “الحضيض” للكاتب الروسي العالمي مكسيم جوركي تحت اسم «البلاعة» ولاقت نجاحا كبيرا.
فيما قال المخرج خالد حسونة إن تقديم نصوص تخص البيئة في الوقت الراهن أصبح غير مطلوب كما كان سابقا حيث كانت هناك ضرورة لذلك، أما الآن في ظل الانفتاح الكبير الذي شهدته البيئات المختلفة، فلم يعد ضروريا تقديم نصوص تخص البيئة، اللهم إلا عبر بعض تجارب نوعية ولضرورات فنية معينة.
وتابع قائلا: بالطبع من الضروري مراعاة الظرف الزماني والمكاني عند تقديم النصوص المختلفة لاختيار ما يتناسب مع طبيعة المكان، حيث إن ثمة قيودا ما زالت بالطبع تقيد هذه البيئات ويجب مراعاتها، ولذا فعلى المخرج في هذه الأماكن دور كبير في النصوص وطريقة طرحها وتقديمها.
وأضاف: بالنسبة للنصوص العالمية، فما زلت مصرا على أن تقديمها عبر قصور الثقافة يجب أن يكون في أضيق الحدود وبرؤى مغايرة كي تناسب كل أنواع الجمهور من رواد قصور الثقافة، فهناك المسرح الجامعي ومسارح البيت الفني للمسرح، وهي جهات تقدم بها نصوص عالمية، بينما الثقافة الجماهيرية يجب أن يكون لها دور في تأصيل الهوية المصرية والعربية فيما تقدمه من نصوص.
تابع قائلا: رغم أنه على مدار أكثر من عشر سنوات توضع في توصيات اللجان المختلفة في المهرجان الختامي توصية تخص الاهتمام بالنصوص المصرية والعربية، ولكن لا حياة لمن تنادي، بل يزداد الأمر سوءا، ففي كل عام تزداد النصوص الأجنبية والغربية التي تنتج عبر الثقافة الجماهيرية المصرية، وأعتقد أن ذلك مرده إلى لجان التحكيم التي تمنح النصوص العالمية الأفضلية في التقييم وتمنحها المراكز الأولى دائما، ومن ثم في العام التالي يتقدم المخرجون بنصوص أجنبية باعتبارها فرس رهان شبه مضمون للفوز، يجب أن تقوم الثقافة الجماهيرية بدورها الذي أنشئت من أجله.
 ومن وجهة نظر مختلفة، أشار المخرج والسينوغراف خالد عطالله إلى أن الفنون المسرحية ليست حكرا على بيئة بعينها، ولكن الإشكالية تكمن في فرق الهواة الذين لم يخضعوا إلى أي تدريب، إلا من رحم ربي.
وأضاف عطالله قائلا: تقديم نصوص عالمية يعد مجازفة في الثقافة الجماهيرية وخصوصا في الجنوب، فمن الممكن تقديم نصوص عالمية في الدلتا وذلك لقرب المسافة والاحتكاك بالمدينة. واستطرد: هناك بعض الموضوعات التي تقدم في الجنوب أصبحت مستهلكة ومنها على سبيل المثال مشكلة الثأر، فهناك قضايا ومشكلات مسكوت عنها تعد أكثر صعوبة من مشكلة الثأر، فالمسكوت عنه يلمس الذات الإنسانية بكل تصنيفاتها سواء في الجنوب أو غيره من الأقاليم، ولكن هذا لا يعني أن الجمهور في الصعيد لا يقبل النصوص العالمية فهو يقبله ولكن بالمفهوم الصعيدي.
وضرب عطالله مثلا بتجربته «بير السقايا»، وهو عرض عن مسرحية “ماكبث”، للكاتب حسام عبد العزيز وحصل بها على عدة جوائز، موضحا أن المفهوم الأصلي متشابه، ولكن الاختلاف كمن في الطرح وطريقة التقديم بما يتناسب مع الشريحة المتلقية.
ليس من الضروري
وأشار المخرج عزت زين إلى أنه لا توجد قاعدة واحدة تحكم اختيار النصوص، ويمكن أن نعتبرها دليل المخرجين، فمن الطبيعي أن الفنان أو المخرج تشغله قضية أو فكرة ويكون مهموما بها، ودائما ما يشغله ما سيقدمه للجماهير وكيف سيقدمه ويتناوله، فالفن اختيار وليس من الضروري تقديم عروض تبدو معبرة عن البيئة، فكثير من القضايا تمس الإنسان كإنسان، خاصة وأن العالم أصبح قرية صغيرة، ومن الممكن تقديم عرض مسرحي عن تنازل إمبراطور اليابان لابنه عن الإمبراطورية، وهي قضية سيهتم بها المواطن في مصر لأن العرض يطرح قضية مهمة وهي التداول السلمي للسلطة في المجتمعات المتحضرة، مثلا.
 رسالة وهدف
فيما أشار المخرج أحمد البنهاوي إلى أن مسرح الثقافة الجماهيرية له هدف ورسالة وهدفه الرئيسي هو الإصلاح من شأن المجتمعات، موضحا أن الأمر لا يتعلق بمواءمة النص للموقع الذي يقدم به، ولكن يتعلق بمواءمته لمسرح الثقافة الجماهيرية.
وذكر البنهاوي أن المهرجان الختامي لفرق الأقاليم ضم 16 عرضا مسرحيا من بينهم 6 نصوص مصرية وعربية و10 عروض عالمية، وهو ما يطرح تساؤلا مهما: لماذا يتم تقديم مسرح عالمي في الفيوم أو يتم تقديم “هاملت” في قرية؟ من الذي سيشاهد تلك النصوص؟ مضيفا: هذا ليس تقليلا من القرى ولكن تأكيد على فكرة تقديم نصوص تناسب البيئة والمواقع التي تقدم بها.
وضرب البنهاوي مثالا بتجربته في قومية أسوان وهو عرض «همام بن يوسف» وهي شخصية جنوبية، تتناسب بشكل كبير مع الموقع الذي يقدم من خلاله، من حيث هي شخصية شهيرة في أسوان.
تابع: قمت بتعميم القضية المطروحة في النص لتكون قضية عامة تشغل الجميع. واقترح البنهاوي أن تقوم الهيئة العامة لقصور الثقافة بتحديد هدف عام من الأعمال المسرحية، هل تقدم كنوع من الترفيه أم أن لها رسالة؟ على أن يتم الاتفاق على نصوص لها قضية أو طبيعة تحقق الهدف المرجو إذا كان هناك هدف.
وقال الكاتب المسرحي د. سيد فهيم: يجب أن نتفق أولا أن المسرح في الأساس للجماهير، بدأ بما عرف اصطلاحا بالفرجة الشعبية بمعناها الحرفي، فهو مجهود فني بذل فيه الكثير من الجهد بدءا من كتابة النص المسرحي، مرورا بتدريب الممثلين إلى بناء الديكور واختيار الموسيقى والأغاني المناسبة لجذب انتباه المشاهدين والاستحواذ على تركيزهم وتفاعلهم مع ما يقدم على الخشبة طوال دقائق العرض المسرحي، وهذا لن يتحقق إلا إذا وجد المشاهد ما يشغله أو يستفز مشاعره من أحداث وقضايا، ولن تكتمل حلقة التواصل إلا إذا كانت لغة الحوار مناسبة ومألوفة للمتفرج، وهذا لا يعني بالضرورة أن تقدم أعمال باللهجة الصعيدية في الصعيد وريفية في الدلتا ومحافظات الوجه البحري، وليس بالضرورة أيضا أن تقتصر القضايا المطروحة على قضايا الثأر والأرض وغيرها من القضايا التي باتت تقليدية ومستهلكة، بل يجب طرح ما يشغل المشاهد من قضايا حياتية فعلية قد تبدو بسيطة دراميا لكن يمكن رصدها وتقديمها بحرفية فنية، وهذا ليس بالجديد على المسرح المصري، فقد شاهدنا في الستينات عروضا مسرحية عبرت عن واقع المجتمع المصري في تلك الفترة الانتقالية من تاريخه، وهناك نماذج في مسرح نعمان عاشور ويوسف إدريس وسعد الدين وهبه ولطفي الخولي ونجيب سرور قدمت تنويعات راقية بالغة العمق والأثر وعبرت بحرفية شديدة عن المواطن المصري وهمومه.
وتابع قائلا: يلجأ بعض المخرجين في الثقافة الجماهيرية، قصور الثقافة حاليا، إلى تقديم نصوص من المسرح العالمي، هذا في حد ذاته لا يعد عيبا، فقد يكون تحديا شخصيا للمخرج ولفريقه بتقديم قيمة فنية راقية وتعريف الجمهور بكلاسيكيات عالمية، لكن هذا يتطلب نمطا محددا من الجمهور وغالبا لا يتناسب مع الجمهور المستهدف من عروض الثقافة الجماهيرية، الجمهور الذي لا يتكبد مشقة البحث عن عرض مسرحي أو دفع ثمن تذكرة مشاهدة، أو يبحث عن نجم كبير يستمتع بأدائه.. فهو غالبا جمهور من أهالي وأقارب وأصدقاء فريق العمل أو جمهور مار بالصدفة يتوقع أن يجد عرضا بلغة أقرب إلى ثقافته، وتقنيات تتناسب مع وعيه وإدراكه، لذلك نجد عزوفا من قطاع كبير من الجماهير عن هذه النوعية من العروض لوجود أكثر من حاجز بين ما يقدم من مادة فنية وبين المتلقي مثل اللغة والبناء الدرامي والقضايا المطروحة.. إلخ. وأول إشارة لهذا العزوف هو عدم انضباط صالة الجمهور وانشغالها أثناء العرض.
أضاف السيد فهيم: لرفع الوعي الفني لدى الأجيال الناشئة يجب أن نبدأ أولا في المسرح المدرسي بتقديم تجارب بسيطة من هذه النوعية من المسرح، عالميا أم محليا، بهدف رفع الوعي الفني لدى الأجيال الناشئة، وتقديم عروض قصيرة على هامش العروض الطويلة على مدار العام في قصور وبيوت الثقافة لتعريف الجمهور بهذه النوعية وتكثيف ندوات الحوار والمناقشة، ولا بأس من إقامة ورش ودورات لشباب الممثلين والمهتمين بالمسرح لرفع الذوق العام والتنوع فيما يقدم ظاهرة صحية، لكن ما يحدث هو أن تكتفي الإدارة بخطة عروض مسرحية واحدة طوال العام، وهذا لا يكفي للنهوض بالحركة المسرحية.


رنا رأفت