المسرح في ليالي رمضان قديما

المسرح في ليالي رمضان قديما

العدد 612 صدر بتاريخ 20مايو2019

تحدثنا في المقالة الثانية عن العروض المسرحية التي عُرضت في رمضان، لا سيما في الإسكندرية، التي كانت مجالا رحبا للمنافسة الفنية المسرحية بين الكثير من الفرق، والتي كانت تبرز من بينها فرقة علي الكسار بتفوقها على أغلب الفرق المنافسة. وفي حلقتنا الأخيرة هذه نستكمل الموضوع!!
المنافسة بين الكسار والمسيري
من الواضح أن تألق الكسار في ليالي رمضان بالإسكندرية، أوغر صدور الفرق الأخرى المنافسة، مما جعله ينقل مكان مسرحه إلى مكان آخر، بعيدا عن منافسيه، في رمضان التالي. وهذا المعنى نستشفه من كلمة نشرها الكسار في جريدة البلاغ – في نوفمبر 1935 – قال فيها، تحت عنوان (السهر بالإسكندرية): «اعتادت فرقتي أن تحيي بثغر الإسكندرية المحبوب شهر رمضان المعظم، كما اعتادت أن تقيم لها مسرحا خاصا بالمينا الشرقية؛ ولكن للأسف كثرت شكاوى العائلات الكريمة من عدم راحتها عند مشاهدة حفلات الفرقة، نظرا لعدم استيفاءها المسرح المذكور لمعدات الراحة المطلوبة، على الرغم من كل مجهود نفعله. وكذلك خشية الأمطار التي تكثر في شهري نوفمبر وديسمبر. لذلك رأت إدارة الفرقة بعد كل ذلك أن تسعى في راحة جمهورها ومشجعيها الكرام، وعليه بذلت مجهودا كبيرا حتى تحصلت على مسرح سينما إيزيس بشارع فؤاد الأول رقم11، ذلك المسرح الفخم الذي يفي بالغرض المقصود فعسى أن نكون قمنا ببعض الواجب المفروض علينا. [توقيع] علي الكسار».
وبالفعل انتقل الكسار إلى تياترو سينما إيزيس، وعرض فيه مسرحياته، وفقا للإعلان بروجرام أسبوعه الأول في رمضان، ومنها: الملاهي، الدنيا بخير، زربيحة هانم، الدار أمان، حبايب. كما ذكر الإعلان أمورا تشويقية، منها أن المسرحيات سيمثلها خمسة وخمسون ممثل وممثلة وراقصة، في مقدمتهم علي الكسار، وحامد مرسي، وعقيلة راتب. كما سيوجد مونولوجات، ودوتات من لطيفة وبهيجة، وحسين ونعمات المليجي. هذا بالإضافة إلى موزيكهول منتخب، مع: رقص شرقي، ورقص روسي، ورقص فتنزي، ورقص أكروباتيك.. هكذا أعلنت جريدة البلاغ يوم 27 نوفمبر 1935.
وعلى الرغم منذ ذلك، لم ينجح الكسار النجاح الذي حققه العام الماضي، لأن انتقاله من منطقة المينا الشرقي، جعل الجمهور يذهب إلى المسارح المتنوعة المنتشرة هناك، فظهرت فرقة أحمد المسيري، ونالت نجاحا كبيرا، بعد أن جذبت جمهور الكسار إليها؛ لأن المسيري كان يقلد شخصية البربري، ويكتب في إعلاناته «أكبر كوميك بربري»!! وشخصية البربري، اشتهر بها الكسار؛ بوصفه «بربري مصر الوحيد»!! وكفى بنا أن نقرأ إعلانه المنشور في مجلة الصباح في نوفمبر 1935، لنقف على تفاصيل ما تقدمه هذه الفرقة!!
«أجمل الحفلات التمثيلية في شهر رمضان المعظم بمسرح المسيري بالمينا الشرقية بالإسكندرية. 30 رواية جديدة، 60 إسكتش غنائي، 30 ممثل وممثلة. أكبر فرقة استعراضية فرقة الأستاذ المسيري أكبر كوميك بربري، تخرج روايات وإسكتشات، ألفها مديرها الذي عرف ميول الشعب فنجح في وضعها بمختلف العواطف، وتمثل الحياة المصرية أدق تمثيل، مع خفة الروح، ومتانة الأسلوب، وحبك المواقف، التي اشتهر بها الكوميدي المحبوب الأستاذ المسيري. رواية الافتتاح (ميت فل)، ثلاثة فصول ضحك متواصل. عروس المسارح الرشيقة فوزية أحمد. عايدة التركية، محسنة محمود، عواطف إبراهيم، أنصاف محمد، سعاد حسن، بدوية فهمي. كل ليلة رواية وإسكتشات جديدة بملابس ومناظر جميلة: رقص طرب فكاهة. المنولوجيست الثلاثة أحمد المغاوري، الشيخ عبد العزيز، حمام العطار. مقلد المرأة الشهير عبده حجازي، مدير المسرح إبراهيم الحناوي. أوركستر رئاسة الأستاذ علي كلوظة».
هذا إعلان من إعلانات كثيرة نشرتها مجلة الصباح طوال شهر رمضان، ما يهمنا منها، أسماء المسرحيات، التي قدمتها فرقة المسيري، ومنها: مجد زمان، بدوية، القرداتي، سفينة نوح، سبع العيلة، ابن عمار، بنت القنصل، كلام الأمراء، الحب والبمب، مال العبيد، بلد الحبايب، القاضي عمر. وظلت فرقة المسيري منافسا قويا لعدة سنوات، لا سيما وأن الفرق تعددت وتنوعت، لا سيما في رمضان – الموافق أكتوبر عام 1938 - حيث نشرت جريدة المقطم كلمة، جمعت فيها أسماء الفرق وأماكنها في الإسكندرية أيام رمضان، قائلة: «.. فرقة الكسار ولا حاجة بنا لتعريفها لحضرات القراء، وهي تعمل في تياترو ديانا، وعليها فرقة فوزي منيب، ثم فرقة خميس سكر، وهو ممثل قديم يقلد شخص كشكش بك، وفرقة محمد المغربي المشهور بزغرب، وهو معروف عند كبار السن والمعمرين، وفرقة المسيري واسمها منسوب إلى صاحبها، الذي يمثل دور البربري».
الفرق الجادة
الجدير بالذكر أن عروض رمضان المسرحية في الإسكندرية، لم تكن مقصورة على الفرق المسرحية الكوميدية فقط، بل كان للفرق الجادة نصيب فيها، وأبلغ مثال على ذلك فرقة رمسيس ليوسف وهبي، التي شغلت مسرح الماجستيك - في رمضان عام 1936 – حيث أعلنت جريدة الأهرام في نوفمبر عروض الفرقة الرمضانية، ومنها: زوجاتنا، وبنات الريف، وبيومي أفندي، وكرسي الاعتراف، وأولاد الفقراء، ورجل الساعة، والجحيم، وخفايا القاهرة، وبنات اليوم، وبنات الذوات، والاستعباد، وأولاد السفاح، والفاجعة، وشارع عماد الدين. وهذه المسرحيات، قام ببطولتها: يوسف وهبي، أمينة رزق، علوية جميل، مختار عثمان، استفان روستي. كما اتفقت محطة الإذاعة اللاسكلية مع يوسف وهبي على إذاعة بعض من مسرحياته مساء كل اثنين من شهر رمضان. هكذا أخبرتنا مجلة المصور.
كما وجدنا إعلانات كثيرة - في أغسطس 1946 - للفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى – أي الفرقة القومية – جاء في بدايتها الآتي: «الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى، تحتفل بإحياء ليالي شهر رمضان المعظم لعام 1946، بتياترو الهمبرا بالإسكندرية، المدير الفني الأستاذ زكي طليمات، حيث تقدم مجموعة مختارة من أروع المسرحيات العالمية والمحلية الخالدة». أما المسرحيات، فمنها: شارع البهلوان، زوج كامل، سلك مقطوع، مجنون ليلى، المروحة، العباسة، مشغول بغيري، الأب ليبونار، بناقص واحد. أما ممثلو هذه المسرحات، فهم: جورج أبيض، حسين رياض، أحمد علام، سراج منير، منسي فهمي، فؤاد شفيق، مختار عثمان، محمود رضا، عبد العزيز خليل، فؤاد فهيم، فاخر فاخر، علي رشدي، حسن البارودي، عبد المجيد شكري، سعيد خليل، عباس يونس، شفيق نور الدين، لطفي الحكيم، حسن إسماعيل، توفيق صادق، رأفت شلبي، علي حسن، عبد العزيز الجاهلي، زينب صدقي، أمينة رزق، فردوس حسن، زوزو حمدي الحكيم، نجمة إبراهيم، إحسان شريف، روحية خالد، سامية فهمي، زوزو ماضي، ثريا فخري، سرينا إبراهيم، فيفي برسوم، سامية عبد العزيز، عفاف شاكر، والمخرج فتوح نشاطي.
صالات الغناء
لعل الفرق المسرحية وعروضها في رمضان، نجحت في الوجود والانتشار الفني، مما يجعلنا نظن خطأ بأن هذه العروض هي وسيلة الترفيه والترويح على جمهور السهارى في ليالي رمضان!! والحقيقة أن الغناء، كان له وجود أيضا، وبالأخص من قبل أعلام الموسيقى والغناء في هذه الفترة. فعلى سبيل المثال كتبت مجلة المصور في مارس 1929 – على لسان ناقدها الفني – تحت عنوان (جولة في صالات الغناء):
«يظهر أن لشهر رمضان فضلا كبيرا على الفنون، فوق ما له من فضل على صائميه. فما كاد ينبثق هلاله في الأفق حتى أزدانت أماكن الغناء بثريات الكهرباء. وانطلق الرواد إلى ساحاتها يقضون الهزيع الأول من الليل، في ترويح النفس، وإجلاء صدأ الخاطر بما يرسله أرباب الأصوات، من رنين أصواتهم، وجميل تغريدهم....... وكانت أولى تلك السهرات لسماع زعيم المجاهدين بحق، الأستاذ محمد عبد الوهاب. ولست أدرى كيف أصف ما تركه هذا المطرب الشاب في نفسي من أثر، فقد كان يعلو بنا إلى ملكوت الأرواح، وينتقل بنا في أرجائه، ويحلق في سمائه، حتى انقضى الليل إلا قليله، وكأنه فترة لم نشعر بمرورها. ثم ذهبنا إلى منازلنا عسى أن تنتشلنا الحقيقة من بيداء الخيال، وتعيدنا سيرتنا الأولى؛ ولكني أصدقك القول سيدي القارئ، لقد تركت العنان لفكري بعد سماع عبد الوهاب، وإذا بي أرى أن هذا الشاب النادر قد ملك علينا أذواقنا، واستلب حواسنا، واحتكر إعجابنا، فأصبحنا إذا ما سمعنا غيره لا نطرب له، ونشعر أن بالأذن حاجة إلى حلو ترانيمه، وبديع شجوه وأفانينه. هذا هو عبد الوهاب الذي لم يكمل من مرحلة عمره خمسا وعشرين سنة، والذي استوى على عرش الطرب، فبايعه الجميع زعيما لفن الغناء، وقائدا لحركة التجديد فيه. ولعله يرى في ذلك ما يشحذ همته، ويستثير شجاعته، فيشق طريقه إلى قمة النبوغ الذي هو جدير به».
ويستكمل الناقد حديثه، قائلا: «.. ثم دعاني عالم جليل من كرام أهل الريف لمرافقته إلى سماع الآنسة أم كلثوم. وهو من فرط إعجابه بها، يقدمها على كل ما حوت الأرض حتى نفسه، إذ جعل من اسمها يمينا مفضلا لديه، وقسما عزيزا عليه. وجلست إلى يسار مولاي ورفع ستار المسرح فإذا الآنسة تبدو في وقار واحتشام، وقد توجت بعقالها البدوي الذي أضحى من مستلزمات تختها الموسيقى...... إنني طربت بما سمعت، وأعجبت من حلاوة ذلك الرنين المنبعث من حنجرتها السليمة كالقيثارة في يد الفنان الماهر. واعترف بأنه لولا أصوات نكراء كانت تدوي في أرجاء المكان من المعجبين الهاتفين لما شابت حفلتنا هذه أي شائبة ولظللنا نروي ظمأ نفوسنا بهذا الصوت السحري الجميل وذلك الشجو العلوي العظيم».
ويستكمل الناقد حديثه عن الغناء في ليالي رمضان، فيقول: «.. وفي سهرة خاصة دعانا المسيو فيتاسيون، متعهد حفلات الأستاذ عبد الوهاب إلى سماع مطربة جديدة أسمها (سهام). فلبينا دعوته، وإذا نحن أمام فتاة في حولها الخامس عشر في جسم ضئيل، وقوام نحيل. اعتقدنا أول وهلة أنه ليس في مقدورنا أن تستحوذ بصوتها على فضاء الغرفة التي تضمها، ولكنها ما أن بدأت في الغناء، حتى تلاشى ذلك الاعتقاد وتبدد، فقد كان صوتها مليئا، ونبراتها متوافقة، وأوتار حنجرتها سليمة. أما عن حلاوة ذلك الصوت فحدث دون حرج. ولا أشك مطلقا في أن تلك الفتاة، ستتخذ لنفسها مركزا ممتازا بين مطربينا في وقت قريب عاجل».
الرأي الآخر
لعل ما سبق يعكس لنا فكرة، تقول: إن العروض الفنية والمسرحية والغنائية في ليالي رمضان، كانت مستحبة ومقبولة من الجميع!! ولكن هذا الاعتقاد خاطئ، لوجود رأي آخر، يجب أن نطلع عليه لتكتمل الصورة أمام الجميع. فقد لاحظ الأستاذ محمد عبد الله الجزار المدرس بالمعهد الديني بالإسكندرية، كثرة العروض المسرحية في الإسكندرية، فكتب رسالة وعظية إلى جريدة وادي النيل، نشرتها له الجريدة في فبراير 1930، تحت عنوان (أثر دور التمثيل والرقص في الأخلاق)، قال فيها:
«من العجب العجاب نشاط المهرجين في هذا الشهر المعظم، وإكثارهم من إقامة السرادقات لهذا الغرض على الميناء الشرقي، وغيره بمدينة الإسكندرية..... ومما يضحك ويبكي ما يكتبه هؤلاء الناس بالخط الكبير، على أبواب دور التمثيل، وفي الإعلانات من قولهم: احتفالا بشهر رمضان يكون رقص شرقي وأفرنكي من أعظم الراقصات. وتطرب الجمهور الآنسة فلانة وفلانة!! وفي بعض الإعلانات المحفوظة عندي، مما وزع على المارة والراكبين في هذا الشهر، ما يأتي: رقص شرقي بالملابس الشفافة (تأمل) من ملكات الرقص في الشرق!! تشجيعكم بالمونولوجات الجديدة، وبالرقص الخلاب ملكة الرشاقة فلانة. من هنا عرفنا الغرض الأصلي من إقامة دور التمثيل، لا سيما في هذا الشهر!! ما الذي يفهمه الأجنبي، الذي لا يعرف حقيقة الإسلام أيها القارئ الكريم من عبارة: احتفالا بشهر رمضان ترقص فلانة؟ إنه يفهم أن هذا الشهر جعله الدين الإسلامي شهر خلاعة وشهوات وإباحة وتهتك وفساد للأخلاق! رحمة لك أيها الدين. لقد تجاهلك القوم وأرادوا أن يشوهوا جمالك بهذه المخازي لابتزاز الأموال المحرمة».
ثم ذكر الأستاذ أغلب الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية، التي تعضد كلامه، فكانت من أطول المقالات الوعظية واختتمها بقوله: «يا بني الإسلام، لتكن لكم غيرة عليه، يا بني مصر أرفقوا بها. وإياكم أن تحفروا لها هاوية تقبر فيها الأخلاق قبل أن تقبروا. ليست الأمة إلا بالأخلاق فأناشدكم الله إلا ما تباعدتم عن الرذائل، وتجافيتم عن هذه القبائح. عار على وطنيتكم، عار على قوميتكم، عار على مجدكم، وسؤددكم، وعلومكم، وآثاركم، ومفاخركم، أن تتهافتوا على ما لا يليق بكم، وعلى ما يهد ركنا قويا من أركان الفضيلة، كتهافت الفراش على النار. عسى أن يكون لهذه الكلمة أثرها في نفوسكم. فإنها نفثة مصدور، وتأوه مكلوم، وعسى أن تنقلها بعض الصحف والمجلات، التي تشد أزر الفضيلة، وتغضب إذا انتهك حماها، وتعمل جهدها على التنفير من الرذيلة تعميما للفائدة. وما نريد إلا الإصلاح ما استطعنا، وليبلغ الشاهد الغائب. والقارئ من لم يقرأ. ألا قد بلغنا، اللهم أشهد».
وفي رمضان عام 1932، نشرت مجلة الكشكول كلمة في فبراير، تحت عنوان (إكراما لشهر رمضان)، جاء فيها: «ظهرت إعلانات الملاهي والمسارح، وفيها إنهم خفضوا أسعار المشروبات، وأحضروا أبرع الراقصات إكراما لشهر رمضان. ونحن من جهتنا لم نشأ أن نتكلم، أو نكتب شيئا لاحظناه على هذا الإعلان، حتى لا يقال إننا نحارب فكرة، قامت في رؤوس أصحاب المسارح والملاهي. وظننا أن وزارة الأوقاف ستحتج؛ لأن شهر رمضان الذي تحييه بالوعاظ، تحييه الملاهي بالراقصات. ولكننا انتظرنا حتى إذا اعتزم رمضان الرحيل. رأينا الصالات والمسارح أقل إيرادا منها في الأشهر الماضية. وقد أغلقت إحدى الصالات. والحقيقة أن الذي ابتكر فكرة (إكراما لشهر رمضان)، أخطأ التقدير؛ لأن رمضان لا يكرم بإحضار الراقصات، وأجود أنواع الخمور، وإنما يكرم بالتباعد عن الفحش والفجور. وهذا الذي حدث، وكأن الإعلان مذكرا ما لرمضان من المكانة في قلوب المصريين. وقد انعكس القصد ودل الإعلان على سوء الاختيار».


سيد علي إسماعيل