الحساسيات المسرحية الجديدة في التجريب المسرحي العربي من الريادة إلى الامتداد

الحساسيات المسرحية الجديدة في التجريب المسرحي العربي من الريادة إلى الامتداد

العدد 609 صدر بتاريخ 29أبريل2019

اقترن وجود المسرح العربي من البداية إلى الامتداد ومن الرواد إلى الآن، بأسئلة الوجود وبأسئلة الكينونة وبنداءات التجديد والتجريب، متأثرا ومتفاعلا تارة مع تراثه وثقافته العربية، وتارة في التأثر بثقافة الغرب ومسرحه، وتارة أخرى في التأثر والتفاعل بين تجاربه، سواء تلك التي جربت أنماط ووسائل استنبات المسرح في تربة ثقافية لم تكن لها صلة واضحة بهذا الفن، أو التي جربت البحث عن مغاير ورؤى جديدة بالبحث لهذا المسرح عن هوية، وعن شكل، وقالب مسرحي، وعن احتفال، وعن أصالة، وعن التأسيس وإعادة التأسيس، من منطلقات حديثة، أو مع كل الحساسيات المسرحية الجديدة التي لم تعد مرتبطة بأسئلة الزمن الماضي، والمفاهيم التي واكبت ميلاده واستمراريته، بل صار الحديث عن المسرح محكوما بتوجهات تجريبية محملة بإلحاحات وسياقات تاريخية جديدة.
تجربة الرواد وتجريب تأسيس المسرح العربي بمرجعيات غربية
في كل هذه المسافات التي تربط بين هذه التجارب، ظل المسرح العربي يعيش دائما انتقالاته، ومخاضاته المتجددة، من هيئة إلى أخرى، ومن تجريب إلى آخر، ومن جيل إلى آخر بحساسيات فنية مختلفة، وهو يحمل في رحمه كل الخطابات، والأسماء، والأعلام، والتجارب، التي كونت مشهده الخاص بدءا من أول تجربة التي هي تجربة الرواد، التي كانت تجربة تأسيسية تحمل من بوادر التجريب الشئ الكثير، بمعارف وصيغ وافدة ومستجلبة، أرادوا بها استنبات الظاهرة المسرحية في الوطن العربي إما نقلا، أو ترجمة، أو تقليدا، وقد استمر هذا النمط من التجريب التأسيسي لفترة طويلة من زمن بدايات المسرح العربي) إلى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين (ومرد ذلك إلى حداثة عمر هذا المسرح، وافتقاره إلى خلفية درامية يمكن الاتكاء عليها، مما جعل هذه البدايات بداية متعثرة، ومحتشمة، لأنها كانت محكومة بصعوبة الانطلاق، وتعثر تمثل مكونات المسرح ككتابة درامية، وإخراج، وتقبل، لذلك لم تستمر هذه البدايات التجريبية في التطور كثيرا، لأنها كانت معدومة من سند ثقافي واضح، ومن أي رؤية فلسفية وجمالية واضحة، لأن وكدها كان هو –فقط، ملء الخانة الفارغة في الثقافة العربية، والبحث عن صيغ وإمكانات انغراس هذا الوافد الجديد - المسمى آنذاك «مرسحا» في عمق الثقافة العربية والمجتمع العربي، ولا يهم في ذلك أن تكون هذه الصيغ والإمكانات، نابعة من صميم ثقافة برانية بعيدة عن خصوصية الثقافة المحلية وأشكال وصيغ وجودها، ما بعد الرواد والوعي بثقافة التجريب في إعادة إنتاج المسرح لهذه الأسباب مجتمعة، تعالت الدعوات والصراخات، للتحرك بقوة للبحث عن بدائل جديدة تخرج المسرح العربي عن الشكل الموجود، بعد أن أدرك المسرحيون العرب أن التغيير ممكن، وأن التجديد وارد كي يخرج هذا المسرح من ضلال الاتباعية، والنقل، والتقليد الممل للنموذج، إلى تجربة بعث الروح بكل جديد أصيل، بأصالة تخاطب الإنسان العربي في مكانه وزمانه، وبذوقه ووعيه الفردي والجماعي بمرجعيات مختلفة فيها حضور لثقافة الأنا، دون إقصاء لثقافة الآخر وتطويعها وفق مشروعهم الثقافي والمسرحي خاصة، وهو ما سعت إليه مجموعة من التجارب المسرحية العربية في أواسط القرن العشرين، التي أحدثت قفزة نوعية في طريقة وأسلوب النتاج المسرحي العربي، وفي خطابه وفي بنياته وفي شكل وجوده، بوعي تجريبي تحقق على مستويات متعددة، كان أولها مستوى الكتابة النصية، وخصوصا في أواخر الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي، باعتبارها الفترة الزمنية التي عرفت كتابة جديدة لها خصائصها الفنية والتقنية ومرتكزاتها النظرية، وباعتبارها كذلك الفترة التي بدأت فيها الكتابة النصية المسرحية تجترح لنفسها آفاقا جديدة، لتجاوز معنى التجريب في مستواه اللفظي، ومعانقة أسئلة حيوية تعيد الاعتبار لجملة من القضايا الأساسية التي تؤثر قوة وفعلا على تجريب محتمل، تجريب مؤسس على معرفة عميقة بالذات وبالموضوع، يتغير بالدرجة الأولى بناء واقع إبداعي حقيقته هي الصياغة الفنية التجريبية المنبثقة من عمق الخطاب الإبداعي، وتأتي في هذا السياق مساهمة كل من توفيق الحكيم، ويوسف إدريس، وألفريد فرج، وصلاح عبد الصبور، وعز الدين المدني، والسيد حافظ، وسعد الله ونوس، وعبد الكريم برشيد... وأسماء أخرى شكلت كتاباتها النصية الإبداعية بؤرة تجديد هامة في مسلسل تحديث المسرح، أو البحث عن شكل تعبيري يجسد فيها جماليات وتصورات حداثية، تعطي للنص الدرامي دلالاته الإبداعية وقيمته الفنية والجمالية، المحملة بالرموز والدلالات والإيحاءات والمجازات.
لقد اتخذ التجريب في المسرح العربي مع هؤلاء، تنويعاته في إبداعاته برؤية متوترة، كان لها امتداداتها المؤثرة في الكتابة الركحية وفي نفسية المتلقي، هذه الرؤية صاغتها الذات المخرجة العربية - وفق تمثلات جديدة في إصرارها على الدخول زمن التجريب، وفتح أبوابه على الاجتهاد الذي - يجتهد في إبداع الأشكال والفضاءات والتقنيات، وعلى الإضافة التي تضيف جديدا وتضيف معنى لهذا الجديد، لإنتاج جماليات مغايرة بعلامات جديدة، وجدناها عند مخرجين تجريبيين من أمثال سعد أردش، وانتصار عبد الفتاح، والمنصف السويسي، وسمير العصفوري، وروجي عساف، ونضال الأشقر، وعوني كرومي، وجواد الأسدي، وصلاح القصب وقاسم محمد، ويوسف العاني، ومحمد تيمد، ومحمد الكغاط... وغيرهم ممن صاروا يبدعون الكلمة بالفضاء، ويبدعون الفضاء بباقي العلامات، بأسلوب يعرف كيف يوظف كل التقنيات المسرحية، لتوليد جمالية العرض بشكل مغاير لما كان سائدا في صناعة الفرجة التي كانت تنتج هذا العرض.
لقد ظلت دينامية المسرح العربي جزءا من دينامية المواضيع المتجددة فيه، وجزءا من تداخل زمن الكتابة بنوعيها النصية والركحية بزمن التجريب في هذا المسرح، وبزمن الأسئلة المتجددة في النقد المسرحي، الذي وسع من دائرة اشتغاله، وصار هو الآخر تجريبا ممهورا بتوجهات جديدة، صرنا نلمس فيها نوعا من التحرر من تلك الأسئلة النقدية التقليدية حول الهوية والتأصيل والتأسيس... وقد بدا هذا واضحا في الخطاب النقدي الحديث، الذي لم يعد حديث سجال يناقش هذه القضايا وفق رؤية واحدة لها بعد واحد في القراءة وفي التحليل وفي التقويم، بل صار الحديث عن هذه القضايا في هذا النقد، محكوما بأسئلة محملة بإلحاحات وإكراهات تاريخية جديدة، قوت إرادة تجديد الهيئة التي يوجد عليها هذا النقد، ليستجيب لكل الدواعي الظرفية والمعرفية العميقة الجديدة، التي حفزت المسرح العربي على تأثيث إبداعه برؤية تجريبية جديدة، تحاور الذات وتنفتح على العالم على أرضية محددة تجمع بين القديم والحديث، بين خصوصيات المحلي ومكتسبات الذات وتقنيات وعطاءات الآخر.
إرادة التجديد هاته، عبرت عنها مجموعة من الكتابات النقدية، التي استطاعت أن تؤثث زمن قراءاتها بالمعرفة، والإحاطة الشاملة بعوالم المسرح، وبرهانات الواقع الكبرى التي ظلت تحكم المسرح العربي في نزوعه نحو التجريب، وفي الاستفادة من تجارب المسرح العالمي، من هذه الكتابات نذكر ما قدمه عبد الله أبو هيف، ورياض عصمت، وفرحان بلبل، وعبد الله إبراهيم غلوم، ومحمد المديوني وعبد بن الرحمن زيدان، وحسن المنيعي، ومصطفى رمضاني وأسماء أخرى ولجت النقد المسرحي، وتفاعلت مع أسئلته، وراجعت أجوبته، بحثا عن تأسيس جديد لهذا النقد بخصوصيات جديدة في فعل القراءة.
الحساسيات المسرحية الجديدة وإتلاف تأكدات المسرح
ضمن هذا الكل المتغير أي التجريب في النص وفي العرض وفي النقد تكونت صورة التجريب بكل أبعادها ودلالاتها، في وعي العملية المسرحية الع ربية، وهي تسير في اتجاهات مختلفة باختيارات متعددة، تعيد النظر في مجموع المكونات التي تحكمت في الرؤية للمسرح، من مارون النقاش إلى بداية طرح السؤال عن هذه الرؤية، والبحث لها عن بنيات جديدة تقدم الخطاب المسرحي العربي بتأسيس جديد، ساهمت فيه جل الأسماء الوازنة في التجريب المسرحي العربي بعطاءات أدبية وفنية، وجدنا امتداداتها عند أغلب الفرق والورش التجريبية، وكل الحساسيات المسرحية لجيل مسرحي جديد هو جيل الألفية الثالثة، الذي ساهم وبرؤى مختلفة ومغايرة في خلق انزياحات جديدة في مسار المسرح العربي، ومساءلة هويته الفنية التي صارت - قديمة بفعل التقادم وتكرار التجارب الدرامية نفسها منذ عقود من الزمن والبحث عن أجوبة تقدم بدائل - جديدة، تعيد التفكير فما هو موجود من صيغ متداولة لإيجاد صيغ حديثة تخلخل المفاهيم المؤسسة للمسرح، وتطور أشكاله وأساليبه بالشكل الذي يتناسب مع اختيارات هذا الجيل الجديد الفنية والجمالية، وكذا مؤهلاته الخاصة التي هي حصيلة معرفته الجديدة بمكونات العمليات الإنتاجية الحديثة التي تلقاها في المعاهد العليا للفنون الدرامية، أو من التكوين الجامعي، أو في التأثر بالنظريات والمدارس المسرحية الإخراجية الغربية، مما أهله بأن يمارس تجريبه بتوجهات، واهتمامات مختلفة، بكثير من الإصرار الذي يتوافق مع أسئلته والمسرح الذي يريد هو مع ما يتلاءم طبعا وطبيعة السياقات الجديدة المحيطة بإنتاج المسرح وتلقيه في آن واحد.
وبالرجوع إلى الصيغ الجمالية والإبداعية، المستحدثة في العطاءات الفنية والجمالية لهذا الجيل، سيتبين وبقوة نية هذا الإصرار في إخراج المسرح العربي أو بعض تجاربه يقول د.عبد الرحمن بن زيدان «من الثبات في اللغة وفي التقنية وفي الرؤية وشكل التلقي الذي يحكم هذا الثبات، والدخول بهذا المسرح مرحلة التمرد على الذات من أجل تجاوزها، وهدم الصياغات والقوالب الصنمية لبناء المغايرة، والتحول المسكون بسؤال التحرر من التماهي والمماثلة أو المطابقة أحيانا مع النماذج الجاهزة، إنها الدعوة إلى المشكلاتة والاختلاف في خطاب مسرحي متعدد الخطابات، ومتعدد الثقافات والمعارف التي بدونها لا يتحقق الحوار الثقافي العربي» مع الثقافات الأخرى ولا تتحقق وحدة هذا المسرح في تنوعه(1).
بهذا الأفق، الذي ينطوي على رغبة ملحة في تحقيق الوجود والتطلع إلى التغيير، تقوت إرادة هذه التجارب المجددة في تجديد الهيئة التي يوجد عليها المسرح، ورسم حدود مختلفة له، وكثيرون هم الذين مثلوا هذا التجديد في تجريب كل الصيغ الممكنة، وانخرطوا فيه بمغامرات لا تعرف حدودا إلا حدود الوفاء لهذا التجريب الذي اختزل د.حسن المنيعي علاماته في استثمار الخشبة بطرق جديدة، وتطور كتابة النص المسرحي واعتماد كتابة نصوص ذات روافد مختلفة، ومسرحة أعمال روائية، وظهور المخرج المحترف (*)، وهو ردم «ما ساهم في الأخير في ظهور مسرح عربي بخصائص ما بعد درامية يؤسس هويته عبر الحدود بين الفنون وتوظيف جماليات خاصة تنعكس في الاهتمام بالسينوغرافيا والموسيقى، واستثمار الجسد في الأداء» المسرحي، والتعامل مع الإنارة باعتبارها لغة فنية(2).
منطوق هذا الكلام، يفيد أننا اليوم إزاء صيغ تجريبة جديدة لممارسة المسرح، صارت معها العملية المسرحية في توجهاتها الجديدة، مبنية على كل العناصر والأدوات والعلامات والتقنيات والوسائط، واللغات المسرحية الممكنة، التي تدخل في إبداعيتها وتشكيلها، تخصصات ومعارف أخرى ومتدخلون متعددون، بما يناسب استراتيجية البناء الجمالي للعرض المسرحي الجديد، الذي يصير في الأخير الناطق بكل التقنيات واللغات والتخصصات والمهارات، التي كانت وراء إنتاجه، ولنا أمثلة كثيرة تمثل الذين شقوا الجديد في طرق الإنتاج المسرحي السائدة بتجريب واعد، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، محمد الحر، عبد المجيد الهواس، وأسماء هوري من المغرب، وروان محمد، ومحمد علام، وحسام عطا من مصر وربيع مروة، ولينا صانع من لبنان، ومحمد ادريس، ونور الدين الورغي من تونس، وعبد الله التركماني، وفهد الهاجري من الكويت، وأحمدمحمد الأحمدي، ورجا العتيبي من السعودية، ومحمد العامري من الإمارات العربية المتحدة، ويوسف البلوشي من عمان... وغيرهم كثيرون خصوصا من خريجي معاهد الفنون الدرامية، الذين نفثوا في جسد المسرح العربي يقول د. حسن المنيعي «حيوية فائقة أنتجت مسرحا يقوم على البحث والتجريب من خلال )تجويد( شكله، وتطعيم نصوصه بفرجات صغيرة مرتجلة أو جاهزة تعكس نبوغ المسرحيين الجدد وقدرتهم على الابتكار» (3) . وهذا ما جعل المسرح العربي بعد الألفية الثالثة - يضيف د. حسن المنيعي قائلا – «يوسع آفاقه ويناقش بشجاعة كل القضايا التي يعيشها العالم العربي...الشيء الذي خول للمتفرج الاطلاع على عوالم لا حصر لها، تعمل العروض على رصدها عبر كتابة «درامية أو ما بعد درامية» تؤكد لنا تجدر المسرح العربي في فضاء الإبداع الكوني» (4).

تجارب المسرح العربي أعمار متجاورة
هذا التجدر الحاصل اليوم هو في حقيقة الأمر، هو حصيلة ممارسة جماعية، فيها التفاعل والتجاور، والتناسج، والتأثير والتأثر، بين كل التجارب المسرحية من كل الحساسيات والأعمار والأزمنة والأجيال قديمها وجديدها، فالقديم هو الذي يخرج من رحمه كل جديد، والجديد هو الذي يتشكل بتوالد مستمر يوما بعد يوم، ولحظة بعد لحظة، وتواصل واتصال وتأثير بعد ثأثر، يقول د,خالد أمين متحدثا عن حالة المسرح - الممارسات المسرحية الجديدة/ البديلة في مغرب اليوم لا تشكل بالضرورة قطيعة مع ما هو سائد - المغربي، بل العكس من دلك، «فهي تلك الممارسة الدراماتورجية المختلفة والمغايرة التي لا يمكنها أن توجد إلا في حدود علاقتها مع آخرها، وهي بذلك استيعاب وتجاوز للدراماتورجيا السائدة في نفس الآن دونما إلغائها بالكامل، لذلك يمكن التأكيد ها هنا بأن الحساسيات المسرحية البديلة لاتعني بالضرورة الانفصال والقطيعة، لأنها لا تلغي ما سبقها، فكل الأساليب الدراماتورجية لاتزال تتجاور وتتعايش وتقتبس من بعضها البعض) «..وما يميزها عن بعضها هو نقل التشديد من أحد مكوناتها إلى آخر دونما التخلي عنها كلية(5).
ويكفي أن نستدل على هذا التواصل والتجاور، الذي تحدث عنه د.خالد أمين والذي لا يعني النقل - والتقليد بتاتا أن معظم الحساسيات الجديدة التي تعتبر نفسها اليوم بديلة من خلال مطالبها التي تدعو إلى - تجاوز كل الدعوات والمفاهيم، التي كان يؤسس ويؤصل بها المسرحيون العرب البدايات الأولى للمسرح، من قبيل مفاهيم ودعوات التأصيل، وإعادة التأسيس، والهوية، وغيرها من المفاهيم التي لم تعد في نظرها محركة للفعل المسرحي، وصارت متجاوزة لصالح توجهات فنية جديدة، سقطت في منزلق الاتباعية المرتدة إلى الخلف في كتاباتها كما في عروضها وكأنها تنزع البداهة عن الأشياء، «بشكل مخجل، إذ تبدو كما يقول د .يوسف الريحاني ولكن لترمي بها من جديد في نزعة تأصيلية لا تنتج أي خبرة بالعصر. هذا نزوع مألوف يسم المواسم معظم المهرجانات المسرحية»  (6).
تجارب المسرح العربي والمعنى الحقيقي للمجايلة التي ينبغي أن تكون
عموما وفي ضوء ما سبق، نقر أننا بالفعل نعيش اليوم منعطفا آخر في تطور المسرح العربي، ولا يحق لأي تجربة أن تنسب لنفسها أو تدعي السبق والتميز، لأن كل تجربة حين تقدم نفسها أنها الفتح المبين، وتلمع نفسها أنها أول وآخر تجربة تصبح ملغاة ومنهزمة بعوامل من داخلها وليس من خارجها (7). إن المسرح العربي اليوم موجود؛ موجود بتاريخه وبكل الأسماء والأعلام والخطابات، وكل التجارب من البدايات إلى الآن، والتي أسستها حاجة هذا المسرح إلى تأصيل وجوده أولا، والرغبة ثانيا في التحرر والانخراط في مدارات الحداثة والتجديد والتطور، وهي كلها عوامل أدت بالضرورة إلى ممارسة فعل التجريب الذي لن يكتمل مشروعه في المسرح العربي إلا بالحاجة إلى:
أولا: الحاجة إلى الحوار الفاعل والبناء بين الأجيال المسرحية من مختلف الأعمار، للحد من ظاهرة الاحتراب الجيلي وتبادل القصف الشنيع، الذي وصل إلى حد الصراع بين جيل قذفت إلى الوجود في البلاد العربية من «سابق ينظر إلى التجارب الجديدة بتوجس كبير، وكأنها حيث هي تأثيرات غربية يجب محاربتها... و]أنها[ درب من دروب (التأورب المطلق) الذي ينبغي نبذها»(8) وبين جيل لاحق مصاب بعنفوان تجريبي زائد أحيانا يرغب في حرق المراحل السابقة، ويسيء إلى الجيل السابق بمواقفه المتنطعة، وبتحديه لكل ما راكمه الجيل السابق عليه.
ثانيا: وعطفا على ضرورة الحاجة إلى حوار الأجيال، لا بد من ضرورة سيادة قانون الاعتراف المتبادل بين الأجيال المسرحية، وعدم الانتصار لهذا الجيل أو ذاك، بل الانتصار للنيات الحسنة الخالصة أثناء الإبداع خارج المنظورات التصنفوية التحقيبة الضيقة  (من قبيل مقولات «الجيل»، «العقد» ..(التي لا تفيد قضايا المسرح ورسالته في شئ، بل تخضع نسيجه لصفوف أو طبقات من المبدعين، يتبوأ فيها الجيل الأخير الترتيب الأخير، أخذا بمعيار نقدي اختزالي ما زال سائدا للأسف في وعينا النقدي هو معيار السبق التاريخي والتفوق الجيلي، وكأن ما يتحكم في مسير المسرح العربي هو مبدأ التطورية الداروينية معكوسا؛ ولأن أرض المسرح شاسعة لا مالك لها، تتسع لكل أشكال التخييل والحلم واللعب، ولأنه لا يوجد أي قانون غير قانون الصدق في الإبداع يحظر على المبدع حرية التجول في ممالكه، فإنه لن يكون من المفيد أبدا القول بصواب جيل وخطأ وضلال جيل آخر، فالأمر متروك لما سميناه بالنيات الصادقة في إلابداع.
ثالثا: ضرورة الحاجة إلى البحث عن آفاق جديدة للمسرح العربي، بعيدا عن أوهام الرسولية والأنانيات الضيقة الزائدة، التي تشتغل بمطنق «أن من ليس مع نظريتي فهو ضد المسرح»، فلا رسالة للمسرح إلا اختياراته الفنية والجمالية، خارج الأشكال والمقاسات الموجودة التي وصلت درجات التشبع، فاستنفذت مهمتها وتحولت بفعل التقادم إلى عوائق وارتكاسات تقف اليوم في وجه تطور المسرح العربي، وفي وجه الإسهامات والأصوات والتجارب الجديدة المؤهلة لضخ دماء جديدة في جسده، وقادرة على مقاومة وتجاوز السائد سلفا، والتجاوز هنا، ليس بمعنى الهدم السلبي أو القتل الوهمي لأب وهمي، وإنما فتح مسالك جديدة في الطرق المؤدية إلى ممارسة المسرح، وللتاريخ بعد ذلك أن يحكم أي التجارب أصلح للبقاء.
رابعا: الحاجة إلى عيون جديدة في النقد ننظر بها إلى منجزنا المسرحي بكل تجاربه بعيدا عن منطق الإدانة القبلية، التي تلم بالكثير من الدراسات النقدية المسرحية التي ينبغي أن يكون من مهامها اليوم، إعادة ربط المنجز المسرحي العربي بتاريخه وبسياقه الثقافي، وتفكيك مقومات إبداعيته، بل والتجرؤ بموضوعية على مراجعتها وإصدار الأحكام حولها، ونقد الكثير من البديهيات، والصور المسكوكة النمطية، التي ترسخت عبر الأجيال عن تجاربنا المسرحية العربية، فالنقد غائب أو مغيب بكل معانيه التي من شأنها أن تنسب الاحكام والاحجام والأشكال والقامات، وهذا لن يتأتى طبعا إلا إذا كان هذا النقد بكلام النقاد بالمعرفة، وبالذوق الجمالي، وبروح المغامرة العلمية، وكان واضحا مسلحا وصريحا وكان يمارس التفكير بصوت مرتفع، يقول د.عبد الكريم برشيد «واختار أن يسير في الطليعة المسرحية الجديدة وليس في ذيلها، وألا يساير الرأي العام، وأن يكون صداميا في طروحاته ومواقفه» (9).
إن الحاجة إلى هذا النوع من النقد اليوم، رهان معرفي وتحد كبير أمام نقدنا المسرحي المطالب بصقل مراياه، بما يكفي من الحمولات النقدية المؤهلة بالإمكانات المعرفية والفنية والثقافية، والمسلحة بمفاهيم ومناهج وأدوات القراءة التي يستطيع بموجبها هذا النقد مسايرة إيقاع التطور الذي مس الممارسة المسرحية العربية بوتيرة تجريبية متتالية، فإذا كان من المفروض على المسرح العربي لكي يتجدد عليه أن يتغير باستمرار، فإن النقد بدوره مطالب بذلك، وهنا تكمن المفارقة الجميلة، إذ إن النقد ليس هو الذي يطور المسرح فقط، ولكن المسرح بتج ريبية تجاربه يصبح بدوره محفزا لتطوير النقد.

الهوامش:
قدم ضمن أبحاث ملتقى الشارقة السادس عشر للمسرح العربي، بمهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائي.
1 - د.عبد الرحمن بن زيدان: «خطاب التجريب في المسرح العربي»، مطبعة سندي، مكناس، ط 1، 1997، ص 45 -  46.
(*، انظر د. حسن المنيعي: «حركية الفرجة في المسرح الواقعي والتطلعات» منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، ط 1، السنة  2014، انظر من الصفحة  34 إلى الصفحة  39.
2 - المرجع نفسه: ص 25
3 - المرجع نفسه: ص 25
4 - المرجع نفسه: ص 25
5 - د. خالد أمين: تقديم كتاب «الدراماتورجيا الجديدة، الأشكال الخاصة بطلائع الألفية الثاثة» كتاب جماعي
منشورات المركز الدولي للفرجة، ص: 14
6 – د.يوسف الريحاني: «نهاية مجتمعات الفرجة الإجابة على سؤال: ما هي الدراماتورجيا البديلة» ضمن كتاب
«الدراماتورجيا الجديدة، الأشكال الخاصة بطلائع الألفية الثاثة» كتاب جماعي منشورات المركز الدولي للفرجة، ص:227
7 – د. عبد الرحمن بن زيدان: «التجريب في المسرح العربي فعل ثقافي في عالم مختل» حوار أجراه عبد العالي السراج، المنعطف الثقافي لجريدة المنعطف، ع 55، س 2005.
8 - د. خالد أمين: مقدمة كتاب «المسرح والوسائط» منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة لدراسات الفرجة، ط1، السنة 2012، ص: 12
9 - عبد الكريم برشيد «تيارات المسرح العربيمن النشأة إلى الارتقاء» أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه تحت إشراف د. عبد الرحمن بن زيدان كلية الآداب مكناس س 2003.__


عبد العالي السراج