المسرح والحرب في الفكر الإنساني بدايات المسرح في مصر نموذجا (2)

المسرح والحرب في الفكر الإنساني بدايات المسرح في مصر نموذجا (2)

العدد 608 صدر بتاريخ 22أبريل2019

تجسيد الحرب في عرض مُميز
في عام 1911 ألف عبد الله عكاشة فرقة مسرحية مثّل بها في تياترو عباس بالإسكندرية مسرحية (الكابورال سيمون) من ترجمة فؤاد سليم. ويُعدّ هذا العرض من أقوى العروض المسرحية التي جسدت الحرب وأهوالها على خشبة المسرح! وهذا الإتقان في تصوير الحرب، نقلته لنا جريدة (المؤيد) يوم 18/ 6/ 1911، قائلة:
«كانت ليلة الجمعة الماضية في تياترو عباس من أجمل الليالي وأبهاها وأجمعها لصنوف السرور ومظاهر الجمال. فقد مثّل فيها هذا الجوق في ذلك المكان الجميل الذي هو آية الآيات في حُسن منظره وطلاقة هوائه وكمال معداته رواية (الكابورال سيمون)، تمثيلا بديعا لا عهد لنا بمثله في تمثيل هذه الرواية من قبل. مما دلنا على أن الجوق الجديد قد نزع منزعا جديدا في تمثيل رواياته. وأنه بدأ يملأ الفراغ الذي طالما شكونا منه في خلو مصر من جوق عربي يتقن فن تمثيل الحوادث وتصوير الوقائع. فإن من رأى منظر الواقعة الحربية بين الجيشين الفرنساوي والنمساوي، ما كان يشك أنها واقعة حقيقية، تدوي رصاصاتها وتتقاذف قنابلها وتتألق أسلحتها وترن أناشيدها وتزحف صفوفها وتتساقط القتلى والجرحى في ساحتها. وما أظن أن براعة الممثلين الأوروبيين تزيد كثيرا على براعة الممثل العربي عزيز عيد في تمثيل دور الأخرس. فقد كان في تشنج أعضائه، واختلال أعصاب نطقه، عندما أهين في شرفه، وحركاته وإشاراته الناطقة، وانحلال عقدة لسانه حينما فاجأه منظر انتحار ولده مثالا للبراعة الفائقة في التمثيل الطبيعي البعيد عن التكلف والتصنع».
الحرب العالمية الأولى
أثرها على الأوبرا
تم إعلان الحرب العالمية الأولى في أواخر يوليو 1914، أي قبل ابتداء الموسم المسرحي في مصر، وبالأخص موسم الأوبرا الخديوية! وقد قدّم لنا محرر جريدة (مصر) بتاريخ 16/ 9/ 1914 تقريرا عن وضع الأوبرا حيال نشوب الحرب العالمية، تحت عنوان (الأوبرا والحرب.. تقديم الأهم على المهم)، قال فيه:
«كان البعض قد أذاع: إنه نظرا للحالة الحاضرة يُعطل التمثيل في الأوبرا الخديوية هذه السنة. ولكننا لم نلبث طويلا حتى قيل لنا إن الحكومة قد أتمت الاتفاق مع المسيو فانو على إحياء الفصل التمثيلي ابتداء من ليلة 26 نوفمبر القادم، فأعد كل ما يلزم لهذا العمل من المعدات ولكنه حفظ لنفسه حق الامتناع عن تنفيذ ما تعهد به إذا أصدرت الحكومة الإيطالية أوامرها بالتعبئة الحربية العامة. ونحن نخشى أن نقول إن (فصل الأوبرا من الكماليات) فنُرمى بمحاربة الفنون الجميلة، والجهل بواجب الحكومة في تشجيع التمثيل، وإنكار ما يفرض على ولاة الأمر عمله لتنشيط السياحة في مصر، وإلفات السائحين من أوروبيين وأميركيين إلى ولوج وادي النيل شتاء. وهذه الأقوال قد تقبل عفوا، أو بعد بحث إذا لم نكن في الظروف الحاضرة، التي تشكو فيها الحكومة من ضعف دخل المصالح كلها من محاكم وجمارك وسكك حديدية وتلغرافات! ويتألم منه الشعب برمته لتوقف البنوك عن الدفع، وامتناعها عن المعاملة، وفصل ألوف مؤلفة من العمال عن أعمالهم. فإذا طالبنا بمنع التمثيل في الأوبرا هذه السنة لا نكون أعداء للفنون الجميلة، ولا محاربين للسياحة والسائحين، بل عاملون لخدمة المصلحة العامة من كل وجه. ولا يخفى أن السائحين الذين يفدون إلينا؛ كلهم من سراة أوروبا وأخصها إنكلترا وأغنياء أمريكا. فالأوروبيون عامة مشغولون بالحرب، وإذا قلنا إن هناك أمما على الحياد مثل السويد وإسبانيا والبورتغال وإيطاليا والبلقان، فإن هذه الأمم لا يأتينا منها عشرة سياح أو عشرون في سنوات الهدوء، ولا بد أنهم قد تأثروا بالحرب العامة فلا يفد علينا منهم في هذه السنة المشؤمة أفراد يعدون على أصابع اليد الواحدة. أما الأمريكان الذين ينتظر أن تمتلئ بهم فنادق مصر في هذه السنة لتحولهم عن مشاتي أوروبا مثل شطوط إسبانيا وجنوب فرنسا؛ فإنهم ليسوا ممن يعشقون الأوبرا الإيطالية ولا يفهمونها. ومتى أبطل الفصل التمثيلي يتوفر للحكومة مبالغ لا يستهان بها، منها إعانة الجوق، وترميم المرسح، والقاعة وإصلاح الملابس وأجور النور ونفقات المطافئ ومرتبات أعضاء اللجنة الفنية، وغير ذلك من النفقات الكثيرة. هذه المبالغ إذا كانت الحكومة في غير حاجة إليها يمكنها أن تقدمها إلى لجان إعانة العمال. أو تخصص جزأ منها لإقامة حفلات خيرية أدبية، تدعوا إليها الأعيان وكبار السائحين، ويخصص دخلها للبائسين ممن أخنت عليهم الأيام بحكم الحرب الحاضرة. وإذا لم يكن في وسع الحكومة القيام بهذه المهمة فإن لجنة الإعانة المؤلفة تحت رعاية دولة الأمير محمد علي باشا خير من يعهد إليه في العمل خدمة للبلاد وأهلها، التي لا يوافقها بأي حال موت العمال جوعا ورمي ألوف الدنانير لإعانة الجوق الإيطالي على تمثيل: فوست وهملت وعايدة».
أما موقف المسيو فانو – صاحب امتياز حق استغلال الأوبرا في هذا الوقت – فقد طالب الحكومة بفسخ العقد المبرم بينه وبينها بسبب اندلاع الحرب العالمية، لاستحالة قدوم السياح إلى مصر ومشاهدة الأوبرا الإيطالية! ولكن الحكومة رفضت فسخ العقد، وحاولت إقناعه بأن الحرب لن تؤثر على الحياة الفنية والسياحية في مصر!! ومع مرور الأيام واشتداد وطأة الحرب، وأثرها السلبي على الجميع، اضطر مسيو فانو – بالاتفاق مع الحكومة – على إيقاف الموسم التمثيلي في الأوبرا الخديوية، هكذا قالت جريدتا مصر والأفكار في أكتوبر 1914.
أثرها على العروض الخيرية
أما موقف الفرق والجميعات المسرحية – بعيدة عن الأوبرا – فكان مخالفا لموقف الأوبرا الخديوية بالنسبة لاندلاع الحرب العالمية الأولى! فبعض الفرق والجمعيات استغلت أحداث الحرب العالمية الأولى ووظفتها من أجل جمع تبرعات لمنكوبي الحرب في حفلات العروض المسرحية، ومنها لجنة الشبيبة الإسرائيلية، التي أحيت في أكتوبر 1914 ليلة فنية مسرحية لإعانة منكوبي الحرب في تياترو عباس، تحت رعاية الخديوي، وحضرها الوزراء والسفراء والقناصل. وبجانب العرض المسرحي، أطرب الجمهور الشيخ سلامة حجازي، وألقى حافظ إبراهيم وخليل مطران قصيدتين، بالإضافة إلى قيام سعادة باتا باشا بإلقاء خطبة بليغة، هكذا قالت جريدة مصر في أكتوبر 1914.
وفي فبراير عام 1916، أقام مدير – محافظ – الزقازيق علي جمال الدين باشا حفلتين مسرحيتين لمساعدة جرحى الحرب في الزقازيق! حيث دعي إليهما كبار القواد. وفي الحفلة الأولى، مثل جوق أبيض وحجازي مسرحية (صلاح الدين الأيوبي)، وحضرها المستر هيزل مفتش الداخلية، والمستر ديكمن مفتش الزراعة، كما ذكرت جريدة الأهرام في فبراير 1916.
أثرها السينمائي المسرحي
وهناك فريق ثان من المسرحيين فضلوا استغلال الحرب العالمية الأولى مسرحيا بعرض الأشرطة السينمائية التي صُوّرت، لتكون مادة دعائية تشويقية للعروض المسرحية!! ففي أكتوبر 1914 – كما جاء في جريدة الأفكار - عرض تياترو فيوليت بشارع عماد الدين أشرطة سينماتوغرافية لأهم الوقائع الحربية بين فصول المسرحيات الكوميدية، التي قدّمها محمد ناجي وعلي الكسار. وفي نوفمبر 1915 أقيمت حفلة تمثيلية نهارية في تياترو عباس، حيث مثّل فيها جوق أبيض وحجازي مسرحية (شهداء الغرام) مع عرض لمناظر حربية سينما فوتوغرافية، هكذا قالت جريدة الأخبار في نوفمبر 1915.
وفي يوم 5/ 1/ 1917 نشرت جريدة (مصر) إعلانا، تحت عنوان (حفلة أدبية نهارية تجمع أمراء المغنى والطرب)، قالت فيه: «يقام في سينما بالاس بالظاهر في عصر يوم الخميس 11 الحالي في الساعة الخامسة بعد الظهر حفلة أدبية، يعرض فيها مناظر سينماتوغرافية وهي وقائع الحرب الحالية، ورواية درام كاملة سيتوج الحفلة حلة من البهاء والجمال حضرة الشيخ سلامة حجازى وسامى الشوا أمير الكمنجة والست نظلى مزراحي وغيرهم فنحث الجمهور للإقبال عليها.
أثرها على العروض المسرحية
أما الفريق الثالث فآثر أن يوظف عروضه المسرحية بصورة مباشرة تتعلق بأحداث الحرب العالمية، ونقلها إلى الجمهور في صورة تمثيل مسرحي. ففي أبريل 1916 – كما أخبرتنا جريدة الوطن - عرضت فرقة جورج أبيض في الأوبرا السلطانية مسرحية (في سبيل الوطن) تعريب إسماعيل وهبي، وهي كما جاء في الإعلان عنها: «مأساة حماسية اهتزت لها فرنسا قبل نشوب الحرب العظمى. فقد تجلت فيها آيات الوطنية وجاءت نبوءة اشتعال سعير هذه الحرب الطاحنة».
كما ألف حسن شريف مسرحية (إلى القتال.. إلى القتال)، وقام بتمثيلها وإخراجها بوصفه رئيس جمعية إحياء فن التمثيل، التي مثلتها في كازينو حلوان يوم 15/ 4/ 1917. وإعلان المسرحية، وصف الموضوع كالآتي: «... حربية وطنية حماسية وقعت حوادثها يوم أن أعلنت الحرب الأوروبية الحالية. وقد صادفت إقبالا عظيما من الجمهور بحوادثها المشوقة وأسلوبها الراقي ومواقفها الرهيبة ومناظرها التي تأخذ بمجامع القلوب، فترى بعينيك ساحة القتال وكيف يكون الدفاع عن الوطن ولا غرو في ذلك فهي الرواية التي تفتخر بها المسارح العربية».
أثرها على الفكر الإنساني مسرحيا
هناك بعض العروض المسرحية، التي تناولت موضوعات حربية – أثناء نشوب الحرب العالمية الأولى - تحمل أفكارا إنسانية، مثل مسرحية (القضية المشهورة)، التي عرضتها فرقة جورج أبيض في فبراير 1915 – كما أخبرتنا جريدة المؤيد - بقاعة سينما إيديال بشارع عماد الدين، والتي تدور أحداثها حول محاكمة ضابط عظيم بالأشغال الشاقة المؤبدة، بعد أن شارك في حرب عام 1746 بين فرنسا والبلجيك في عهد لويس الخامس عشر. وقد حكم عليه بالأشغال الشاقة، لأن ابنته شهدت خطأ بأنه قتل أمها أي زوجته. فأخذت المحكمة بأقوالها خطأ، فذاق الضابط البريء صنوفا من العذاب، حتى ظهرت الحقيقة بعد سنوات طويلة.
وفي يناير 1916 – كما أخبرتنا جريدة الأخبار - مثّل جوق أبيض وحجازي مسرحية (زهراب ورستم) تأليف كل من: ماتيو أرنولد، والفريد لورد تنبسون، وترجمها محمود مراد. وتدور أحداثها حول أب وابنه فرقتهما الأيام، دون أن يعرف أحدهما الآخر، وفي النهاية يلتقيان في مهمة حرب الملك أرثر!
وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى في أواخر عام 1918، ظل المسرح مرتبطا بآثار هذه الحرب ونتائجها، لا سيما توظيفها في الموضوعات ذات الأفكار الإنسانية؛ بغية الوعظ والإرشاد واتخاذ العبر من هذه الحرب!! ففي ديسمبر 1923 عرض نادي المعارف مسرحية (غادة ليون) تأليف لورد ليتون. والمسرحية تدور أحداثها حول أجمل فتاة في ليون، والتي ترفض الاقتران إلا بأمير! فأراد أحد التجار – ممن رفضت الاقتران به – أن ينتقم منها. فاتفق مع شاب فقير – ابن مزارع في قصرها – أن يتنكر في زي أمير، ويطلب يدها مقابل مبلغ كبير من المال. وبالفعل تنجح الخطة، ويعقد الشاب قرانه على الفتاة، وفي ليلة الزفاف تكتشف العروس الخدعة. وهنا يأتي التاجر ليتشفى فيمن رفضته ويسلم المال للشاب، ويحاول أن يُقبل الفتاة عنوة؛ ولكن الشاب يمنعه ويلقي بماله أرضا ويطرده. ثم يحاول التكفير عن جريمته فكتب ورقة يعترف فيها بطلاق زوجته دون أن يمسها، ويرسلها إلى أهلها عذراء. هذا الموقف تسبب في نمو الحب بينه وبين زوجته أو طليقته. أما التاجر فانتقم منه بأنه أبلغ عنه المسئولين بأنه أمير هارب من الحرب، فيتم القبض عليه وإرساله إلى الصفوف الأمامية مع الجنود كي يلقى حتفه. ولكنه يبدي بسالة وشجاعة كبيرتين، ويعود بعد أعوام مكللا بالأوسمة والنياشين وبلقلب أمير حقيقي! ويصل إلى البلدة يوم زواج طليقته مجبرة من التاجر الذي كان السبب في إفلاس أبيها، وساومها إما الزواج منه أو وضع أبيها في السجن. وهنا يظهر الفارس الأمير وينقذ طليقته وأباها، ويعقد عليها القران مرة أخرى، وتنتهي المسرحية، التي تم عرضها على مسرح رمسيس، وعرّبها أحد مدرسي مدرسة الطب – اسمه حسين – وقام بتمثيلها كل من: حنا وهبه، ونعمت كمال، وفاطمة رشدي، وإسكندر مسيحة، وحسن البارودي، هكذا قالت جريدة البلاغ في عددها يوم 18/ 12/ 1923.
وفي عام 1925 – كما أخبرتنا جريدة مصر - عرضت فرقة جورج أبيض مسرحية (ميشيل استروجوف) تعريب عبد الحليم دلاور، وتدور أحداثها أثناء الحرب بما فيها من معاني إنسانية وتضحيات، وذلك من خلال تضحية الجندي بأمه مقابل وطنه، وكيف أن الأم تضحي بنفسها مقابل ابنها. ناهيك بمعاني الحب والوفاء مقابل الخيانة والغدر، بالإضافة إلى الصراع بين المتحاربين.. إلخ الصراع الواضح بين القيم الإنسانية وأفكارها. وهذه المسرحية كانت من تمثيل: جورج أبيض، فردوس حسن، دولت أبيض، فاطمة رشدي، عباس فارس، حسين رياض.


سيد علي إسماعيل