«لازلنا هنا» أنشودة بصرية باتساع الحياة

«لازلنا هنا» أنشودة بصرية باتساع الحياة

العدد 607 صدر بتاريخ 15أبريل2019

تكشف الإضاءة الزرقاء الخفيفة، عن إنسان وحيد في قلب العالم، فالأبيض الذي اصطبغ به السوران الخشبيان، و”البانوراما” البيضاء أيضا، جعلا العالم الدرامي لا نهائي الحدود.. وعبر رقصات على موسيقى حالمة لليونانية Eleni Karaindrou  يبدأ عرض «لازلنا هنا».
 حاول رامي محمد مخرج ومؤلف عرض «لازلنا هنا» تقديم العالم كله في ثلاثة لوحات تحكي كفاح الإنسان خلال رحلة التطور القيمي من الحيوانية إلى التحضر، معتمدا على تكامل عناصر السينوغرافيا، مع التعبير الحركي، عبر نص شديد الحساسية، لا يمكن الاستغناء عنه أو إسقاطه.
في البدء كان الإنسان، وحيدًا كان في هذا الوجود شاب، يرتاب نحلة تتنقل بين زهور السياج، يكتشفُ العالمَ لأول مرة، وتدهشه براءة الاكتشافات.
 يعبر التصميم الاستعراضي في اللوحة الأولى عن غاية الوجود الإنساني في تبديد وحشة الوحدة، عبر إيجاد وسيلة للتواصل مع الطبيعة وإيجاد نظير آخر، عبر وردة يرتكز عليها نظر الشاب وتقوده لأن يستطيع استيعاب العالم ببحاره وحدائقه وعصافيره، وطفلًا وشحاذًا بالجوار، وفتاة تلتقط وردته وتدفئ ظله. لكننا منذ اللحظة الأولى أمام أسوار صارمة الحدود بلا أي أمل في إيجاد مخرج، هذا ما يجعل الشخصيات ضحية أمرين، إما أنهم اختاروا الرحيل عن العالم والانعزال عنه كما أراد خوسيه أركاديو بونيديا في «مائة عام من العزلة» فضلوا الطريق ولم يعد رجوعهم أمرا ممكنا، أو أنهم لم يختاروا شيئا بل تم اقتيادهم إلى مصيرهم طوعا دون إفصاح عن سبب ذلك، ثم تخلى عنهم صاحب الإرادة في نفيهم أو نسيهم فضلوا أيضا طريق الرجوع، وأيا كان فمناطق الحوار في هذه اللوحة لا تكشف الكثير عن إرادة الشخصيات في أي شيء يتعلق بهم، هم فقط هائمون خلف إدراكهم الطفولي لوجودهم معا. لكن بعد تفسخ العلاقات وانكسارهم، ينتقلون إلى اللوحة الثانية، وفيها يدور ما يعني أن الوجود «هنا» -هذا الحيز المكاني/ الزماني- كان طوعا لا اختيارا.
 إن الانتقال إلى اللوحة الثانية من المسرحية والذي يقود هذا الانتقال هو الضوء الجانبي خلف السورين الخشبين حيث يعكس ظلالا متداخلة على أرضية المسرح فيصبح المكان عبارة عن سجن، وعندما تفصح الشخصيات عن ماهياتها يصبح السجن معتقلا، ورغم أن كل المكونات الفيزيائية للصورة المسرحية ثابتة تماما للمشاهدين، إلا أن الماهية متغيرة، ولعل ذلك البناء الدرامي يقود إلى الوجودية التي نادت بأسبقية وجود الإنسان على ماهيته، حيث أن ماهية الشخصية تتغير مع كل انتقالة درامية رغم أن وجودهم الفيزيائي ثابت، فالعاشق يصبح ثوريا ثم طبيبا، والضابط يصبح قاتلا ثم رساما، وهكذا دون أن يضاف أي عنصر بصري على ملابس الممثلين أو ماكياجهم، فقط اعتمد “رامي” على ذلك عبر “حربائية” الأداء لدى الممثلين الخمس بالعرض.
 وتطرح اللوحة الثانية حياة خمس مناضلين لقوا مصيرهم في معتقل ما، شابان وعجوز وفتاة وأخوها الصغير، عندما يتنصل الطفل من مسؤوليته عن المصير الذي جاء به بين الأسوار، ويفصح عن عزمه على البوح بأسرار التنظيم والاعتراف على زملائه، هنا تبرز فكرة واحدة لدى باقي الشخصيات.. أي نظام أخلاقي سيصون حياتنا القادمة المحتملة؟ هل الأخلاق يمكنها أن تحكم في هذه الحالة، فالمحدد الأخلاقي أصم بلا استثناءات، إن الأخلاق إذا اتفقت على أن الكذب خطأ صنفته من الشرور المطلق بغض النظر عن اختلاف حالات الكذب، حينها يتحول الفعل إلى مثال ويصير النظام الحاكم هو المثل.
 لكن ثمة نظام أخلاقي آخر يحكم الدراما في هذا العرض منذ بدايته، وهو أن عواقب الفعل أهم من الفعل نفسه، وظهر ذلك في اللوحة الأولى عندما اعترض الضابط على العاشقين والعجوز والطفل الذين يلهون بالبالونات ويغنون ويرقصون في صخب بالغ، ليس لمحاكمة السلوكيات في ذاتها، بل لأن السلوك هذا أدى إلى تهديد النظام وانتهاك القوانين، ولنشدد على “أدى إلى” فهي ما صاغه جيرمي بنتام بمصطلح النفعية وهي أعظم سعادة ممكنة لأكبر عدد ممكن. وهذا ما فكر فيه العجوز والضابط في اللوحة الثانية عندما وجدوا أن طفلا واحدا سيكلف أربعة أشخاص حياتهم، فيقررون التخلص منه للحفاظ على أكبر عدد ممكن.. هنا يكون القتل مبررا أخلاقيا فقط لأنه يقلل الحد الأدنى من الألم ويضيف إلى مجموع السعادة التي ستحل على باقي الأفراد.
 تنسحب الأضواء في نعومة ويسيطر اللون الأزراق الداكن على العرض، ومنذ الكلمات الأولى على لسان الضابط (سابقا)، نعلم أنه رسام وأننا صرنا في مقبرة، ينضم إليها باقي الشخصيات في ماهيات جديدة، فالثوري صار طبيبا والعجوز “تربيا” والطفل لص مقابر.
 وهنا تنمو الأسئلة من جديد أي نظام أخلاقي سيجمعنا معا؟ تدور القصة حول لص اتفق مع رسام وطبيب على بيع جثة، لنضبط الغايات هنا، اللص الصغير لا يهمه في ماذا سيتم استخدام الجثة، كان الهدف فقط هو المقابل المادي الذي سيعود عليه، والطبيب وضع نصب عينيه الدرجة العلمية التي سينالها، والرسام يرى الشهرة والأضواء عندما يرسم جثة امرأة عارية، بغض النظر إن كان ذلك يخضع لأي معيار أخلاقي أو اجتماعي.
 إن تحول الغايات الأخلاقية في هذه اللوحة من المسرحية بقدر ما هو ناعم وبسيط وغير مركب، إلا إنه صادم، وشديد الرعب، فالعالم لا تحكمه النفعية لأكبر عدد، بل في هذا المكان المُقفر تتوحش الذوات، ويسود قانون الحاجة وتطغى الفردية، الفرد وحده هو مصدر الفعل دون أي قيود دونتولوجية أو عقائدية، حيث يسقط القانون عندما يقبض العجوز على عنق الطبيب في المشهد الأخير ويطعنه: “أنا أقتل خوفي بداخلي”. هكذا تكوّن اللوحات الثلاثة معا، رحلة الإنسان عبر الحياة.. من المثالية إلى النفعية وحتى الفناء.
لا يشمل التطور في رحلة الإنسان المستوى الدرامي فقط، بل انعكس ذلك على اللغة أيضًا، بمفهوميها الشفاهي والبصري، ولنلاحظ أن الإضاءة هي التي بدأت العرض، وهي التي حولت سور الحديقة لسجن، وعندما تنسحب الإضاءة الجانبية، في اللوحة الثالثة ليعود السوران إلى وضعهما المُحايد، يعمل الحوار الدائر بين الشخوص منذ الجمل الأولى على توصيفه بالمقبرة، وهنا تتراجع الإضاءة عن دورها الألوهي في العرض، ليصبح الإنسان وحده هو القادر على تحديد موقعه وصياغته. ما يتناسب تماما مع الدراما التي يبرز فيها الفرد، وتدور اللغة في اللوحة الثالثة فقط باللهجة العامية، أي المستوى الأرضي من اللغة، الذي يعبر بشكل مباشر عن الرغبات والاحتياجات، ويتخلى العرض في هذه اللوحة عن التعبيرية التي حرص عليها طوال اللوحتين السابقتين، حيث تداخل الزمن وتخففت الشخصيات من تاريخها الخاص، فصار لدينا نمطًا عامًا يُمكن أن يحاكي أي نمط في أي مكان وزمان.
لا يوجد في «لازلنا هنا» شخصية واحدة بالبناء الدرامي المُعتاد، يستبدل «رامي» الشخصية بالنمط الإنساني العام في اللوحتين الثانية والثالثة، فالثوري يمكن أن يكون أي ثوري في العالم، والطبيب كذلك وباقي الأدوار، دون أن يحكمها تاريخ شخصي، ولا محدد اجتماعي معين، هذا ما يجعل المشاهد في هذا العرض يقرر منذ اللحظة الأولى التجرد من تعاطفه مع معاناة الشخصيات، ليتوحد مع جماليات تكامل السينوغرافي والأدائي.
 لكن اللوحة الأولى من العرض يرتبك فيها هذا النمط، حيث يسقط التمايز بين الشخصيات، فالطفل والفتاة والشاب يشكلون ظلالا لبعضهما، ويتحركون في خطوط متوازية لدعوة العجوز للانضمام إليهم والرقص معهم متجاهلين أي تمايز بينه وبينهم، الجميع يقوم بنفس الأفعال، نفس الرقصات، نفس الرغبات. هذه المرحلة التي أشبه بمرحلة “الفتش” لدى الإنسان البدائي، عندما كانت علاقة مختلف الأفراد بالكل هي علاقة من نوع واحد، بلا مضمون متميز أو سمات مستقلة، لقد غدا الكل جوهرا لكل واحد من أولئك الأفراد، إلا أنه ليس للواحد منهم مضمون خاص، ويقول «ليف لوسيف»:
“كان الإنسان البدائي يعتقد دون أن يعزل نفسه عن جماعته، أنه هو بالذات، وكل فرد بشكل عام، يمكن أن يحمل أي صفات وميزات يتحلى بها الآخرون”.
 هذه التصورات الفتشية ولّدت تشابها بين جميع الشخصيات، وربما تماثلا في وعيهم وإدراكهم للعالم المحيط.
 عندما نفكر مع «لازلنا هنا» عن المقصود بـ “هنا”، تلمع في الذهن اكتشافات صغيرة، في أقصى الأهمية بالنسبة لنظرية الدراما، أن النشاط الفني دائما هو أن تلتفت العناصر “البشرية وغير البشرية” بعضها إلى بعض، كاشفة عن جوانب جديدة ومفاجئة. ذلك هو الأساس الجمالي لعمل لا ينقطع عن إثارة المخيلة وإشباعها بألوان لا محدودة، وتحرير الأشياء والظواهر من ثباتها الظاهري، ويكشف جوهر العلاقات الإنسانية عبر التاريخ، ويجلو الزيف عن الحضارة التي قامت كي يستظهر البشر ما بينهم من إخاء، وترابط، وجعلهم يتألمون ويفرحون لا من أجل القريب ولا من أجل البعيد فقط، بل من أجلنا نحن. إن الفن يقدم مرآة نستطيع عبرها أن نرى الآخرين في أنفسنا، ونرى أنفسنا في الآخرين. “هنا” تتجذر من جوهر الدراما والصورة والذي لا تستوعبه أشكال القياس المنطقي إطلاقا، بل يعبر الجزء عن الكل، ويقفز الثانوي إلى الصدارة، وتسقط الكلمات ويختل الشكل، وتُقدم النتيجة بكل قسوتها بعد تشويه العلاقة الواقعية بين الأشياء.


محمد علام