الحفلة التنكرية التي بدأت قبل أن تبدأ واستمرت بعد النهاية

الحفلة التنكرية   التي بدأت قبل أن تبدأ واستمرت بعد النهاية

العدد 523 صدر بتاريخ 4سبتمبر2017

الديكتاتورية والنفاق وجهان لا ينفصلان, يعبران بقوة عن قذارة لعبة السياسة وشهوة التسلط والحكم, والعلاقة بينهما ترتبط بتناسب مطرد, ومعهما تزداد الوجوه المزيفة والأقنعة الكاذبة والمتملقة وجودا, حيث يزداد الغني غنى ويهبط الفقير والشعب الجائع إلى أسفل السافلين.
 ما نعيشه في حياتنا السياسية بل والعامة أيضا ما هو إلا زيف محمل بالكثير من الأقنعة التي يرتديها الجميع, الكل يبحث له عن دور أو مصلحة أو تجنب البطش به ويحركه الخوف والجبن, أو شدة الظلم, الكل كما لو كان في حفلة تنكرية كبيرة كل يختفي خلف قناع ما, حتى هذا الحاكم المستبد هو أيضا يرتدي قناعا يرعب به رعيته ويخفي به نقاط ضعفه.
هكذا تأخذنا مسرحية (الحفلة التنكرية) نحو عالم من الزيف لدى الجميع, فقط ينسحق تحته الفقراء المطحونون، فعلى مسرح السلام التابع للمسرح الحديث بالبيت الفني للمسرح, تدور أحداث العرض الذي أخرجه الفنان هشام جمعة عن رواية (الحفلة التنكرية) للكاتب الإيطالي العالمي (ألبرتو مورافيا) الحائز على جائزة نوبل, وهي عن رواية كتبت عام 1941 ثم حولها مؤلفها إلى نص مسرحي, وقد ترجمها الراحل الفنان الكبير (سعد أردش) عام 1987، حيث تدور  المسرحية حول حاكم مستبد (تريزو)، يتملقه الجميع خوفا من بطشه وطمعا في إرضائه لقضاء مصالحهم, وحينما يقدم على افتتاح جسر ما, يحل ضيفا على إحدى الأميرات(الدوقة ماريا) في قصرها، التي تقرر إقامة احتفال كبير يتضمن حفلة تنكرية احتفالا بهذه المناسبة, ويتوافد ضيوف الحفل من السادة والأمراء إلى قصر الدوقة للاحتفال, بينما يقرر الحاكم عزل رئيس الشرطة (شينكو) الذي يحميه, يحذره رئيس الشرطة من احتمال وقوع مؤامرة لقتله, ويتفق معه أنه حتى لو لم تكن هناك مؤامرة حقيقية فسوف يعملان على حياكة مؤامرة وهمية كي يزيد وقعها على الناس من شعبيته عند إعلان اكتشافها, ثم يتم ترتيب خيوط المؤامرة الوهمية مع عناصر الشرطة والخدم لكنها تنقلب إلى حقيقة لتدخل  صدفة عناصر من القوى الثورية في البلاد لتنفيذ المؤامرة, حيث يتم استغلال نقطة ضعف الحاكم وولعه بإحدى الأميرات (الماركيزة فاوستا) لتنفيذ الجريمة أثناء وجوده معها في غرفته, لكن يخطئ القاتل (سافيريو) فيقتل الماركيزة فاوستا بدلا من الحاكم الذي أطلق رصاصة على الثوري وقتله في الحال.. لتنتهي الأحداث ولم يبدأ الحفل التنكري بعد.
تدور الأحداث في عصر تاريخي بأوروبا, وقد تناول المخرج تلك الفكرة بشكل غنائي استعراضي, مع الجلوس في صالة العرض نشاهد على خشبة المسرح ستارة شفافة من التل تنهدل من السوفيتا وكأنها تخفي ما ورائها من أحداث وشخصيات وقد كتب عليها جملة (الحفلة التنكرية) بالعربية والإنجليزية, والحقيقة أننا نرى كل شيء, حيث يبدأ العرض براقصين يخرجون من بين المتفرجين في صالة العرض ويرقصون بين المتفرجين ثم يصعدون إلى خشبة المسرح مؤدين رقصات (البريك دانس) الحديثة مرتدين ملابس عصرية, وهكذا منذ البداية يخبرنا المخرج برؤيته في إسقاط الأحداث السياسية ومدلولاتها على العصر الحالي الذي نعيشه بكسر الحاجز الرابع لخشبة المسرح قبل افتتاح العرض, والذي أكده مرة أخرى بدخول الحاكم بطل العرض من داخل الصالة مخترقا المتفرجين للوصول لأعلى المسرح. يفتتح العرض باستعراض احتفالي يحيطه ديكور شبه واقعي يعبر عن مكان الاحتفال داخل القصر, ويستعرض فيه ضيوف الحفل من الأمراء وكبراء  البلاد من الطبقة الإقطاعية, وعندما يرغب في الانتقال إلى حجرة المكتب الخاصة بالحاكم, يخبر رئيس الشرطة الحاكم (بمزيد من التملق والنفاق) ببقائه داخل القصر وأنه سيحضر إليه مكتبه الخاص في مكانه, هنا يكسر المخرج الإيهام مرة أخرى ليطلب الممثل من عمال المسرح بالدخول لإجراء عملية تغيير الديكور صراحة أمام الجمهور, مما يدفعنا للبريختية في التناول نحو مزيد من التفكير والتأمل للمتلقي وعدم الاندماج التام في الحدث الدرامي, لتأكيد الإسقاط السياسي على الأحداث الجارية في العصر الحالي, ولم يلجأ المخرج إلى هذه الحيلة أو التقنية مرة أخرى حيث تم تغيير الديكور بعد ذلك بشكل تقليدي أثناء الإظلام عدة مرات حتى نهاية العرض. انتقل الديكور الذي صممه (محمد هاشم) بين عدة مشاهد بين صالة الحفل وغرفة مكتب الحاكم وغرفة نوم الأميرة ثم غرفة نوم الحاكم في النهاية، حيث كان الديكور واقعيا يعبر عن إحداثيات الأماكن للمشاهد معبرا عن فخامة وثراء جوانب القصر بما يحوي من زخارف وتماثيل وصور وأثاث وإكسسوارات فكان جيدا وموحيا وله تأثير خاص على تلقي الصورة البصرية للمتفرج.
كما لجأ المخرج لكسر الإيهام مرة أخرى وبشكل صريح جدا في نهاية العرض حيث استلقت الأميرة متوفية على السرير, ويجلس بجوارها الحاكم منكفئا حزينا صامتًا للحظات, حتى نفاجأ بأحد الممثلين يخبره بنهاية العرض منبها عليه بعدم الاندماج أمام  المتفرجين مخاطبا له باسمه (محمد رياض) ثم تقوم الماركيزة (لقاء سويدان) من موتها حيث إنها تمثل وكذلك الممثل الثوري سافيريوض11(أحمد يوسف) الذي قضى عليه الحاكم ليظهر الجميع وكأنهم يلعبون لعبة أمام  المتفرجين الذين كان عليهم مشاركتهم فيها, للدلالة على أن الحفل لم يكن على خشبة المسرح وإنما هو في الصالة مع المشاهدين وعلى الجميع أن يكتشفوا أقنعتهم التي يعيشون داخلها, ثم يختتم العرض بنفس بدايته بالرقصات العصرية من الصالة صاعدة لخشبة المسرح مع رقصة احتفال النهاية, لتنزل ببطء الستارة الشفافة التي تحمل اسم حفلة تنكرية التي يعتقدون أنهم يختبئون خلفها لكنهم في الحقيقة وأمام أعين المتفرجين مكشوفون أو بمعنى أدق مفضوحون. يحسب للمخرج التنوع في الحيل البريختية وعدم التكرار فيها, كما كان تعمد إلقاء الإفيهات العصرية له مدلوله الدرامي والرمزي تواصلا مع حيل كسر الإيهام لتنشيط ذهن المتلقي, أما النهاية المحتومة بموت الشاب الثوري وليس الحاكم, تعبر عن استمرار الظلم والديكتاتورية في كل العصور واستبداد الطبقات الأرستقراطية ضد الشعوب الفقيرة, والتأكيد أن تلك المنظومة لن تنتهي أبدا, ولن يكتب النجاح لأي ثورة أو تغيير.
استطاعت السنيوغرافيا بشكل عام أن تهيئ التناسق الجمالي لكل عناصرها, بدءا من تكوينات الديكور بأحجامها ونقوشها لكل مشهد وكذلك ألوانها التي تراوحت ما بين الألوان الباردة والهادئة لمشاهد البهو بالقصر ثم الألوان الساخنة لغرفة الحاكم لدلالة طبيعة شخصيته القاسية الظالمة المتسلطة, والألوان ذات الطبيعة الرومانسية لغرف النوم, وتكاملت معها الرؤية الفنية للملابس التي صممتها (مها عبد الرحمن) حيث كانت جيدة ومعبرة وامتازت بالفخامة لاسيما ملابس الأميرات, أما الإضاءة من تصميم (إبراهيم الفرن) فكانت أحد عناصر التميز بالعرض خصوصا في اللحظات الخاصة التي حاول المخرج إسقاطها مثلما وهو يحكي مذكراته وبطولاته. ثم لحظة إطلاق النار في النهاية على الثوري القاتل, فكانت مؤثرة وبالغة الدلالة لدرامية المشهد. يحتوي العرض على كثير من التفاصيل التي يمكن الاستغناء عنها, كما ينجذب بعض الممثلين لإفيهات وقفشات قديمة أو مملة لا طائل منها ولا داعي لها يفضل حذفها.
الرؤية الموسيقية للفنان وليد الشهاوي, تميزت بالانسيابية وصدق التعبير, فتأخذ عقلك وقلبك نحو عالم خاص, حيث استخدم اللون الغربي في التناول, معبرا عن طبيعة البيئة المحيطة بالحدث, وأضافت جوا من البهجة والمتعة السمعية لدى المتلقي, كما عبرت الجمل اللحنية عن كلمات الأشعار التي كتبها (فرغلي مهران) بتوهج تلقائي, وإن كانت بحاجة لقليل من التأني ليستوعب المتلقي بعض الكلمات التي قد يفوته سماعها لسرعة الإيقاع, كما كانت بحاجة للتكامل مع رؤية المخرج بكسر الإيهام بإضافة بعض اللازمات الشرقية لتحقيق رؤية الإسقاط المكاني مع الإسقاط الزماني. وأجاد (فاروق جعفر) في تصميم الرقصات فكانت معبرة ومتضافرة مع باقي عناصر  العرض بشكل فني متمازج.
كان النجم محمد رياض رائعا ومتوهجا في دور الحاكم (تريزو) وتنوع أداؤه في مختلف انفعالات الشخصية, فكان اختياره من قبل  المخرج مناسبا للدور, أما الفنان القدير الكوميديان محمد محمود في دور رئيس الشرطة (شينكو) فانتزع الضحكات بتلقائيته المعهودة وجذب قلوب المشاهدين بخبرته وأدائه السهل الممتنع, تميزت لقاء سويدان وتألقت في أدائها لدور الماركيزة (فاوستا), وكذلك كانت جيهان سلامة رائعة في دور الدوقة (ماريا), أما خالد محمود فله حضوره القوي وأداؤه الرصين لدور (سيفريو)، وتمتع جميل عزيز بخفة الظل في دور (كونتيريراس), وكذلك الأداء المتميز للقدير همام عبد المطلب, كما تميز أحمد يوسف بإجادة دور الثوري المتحمس (سافيريو), وكان لأشرف عبد الفضيل أداءٌ خاص لشخصية رئيس الخدم (برو), كما لفتت نجاح حسن الأنظار بأدائها لشخصية خادمة الدوقة (جوستينل), ولم تغب الإجادة عن الجميع بلا استثناء, مصطفى جابر, هشام عصمت, بلال مجدي, وليد أبو ستيت, محمد سعيد عبودة , صلاح المصري, محمد سمير.
الحفلة التنكرية عرض جيد رصين ومتوازن ومحسوب بدقة, رغم تاريخية الأحداث إلا أنه عصري الملامح والترميز, فقط بحاجة لقليل من التقليص الزمني, وقد أجادت كل عناصره بقيادة مخرجه هشام جمعة, ويستحق الإشادة والتقدير الفنان أشرف طلبة بصفته مدير المسرح الحديث منتج العرض, والفنان إسماعيل مختار رئيس البيت الفني للمسرح, لإتاحة الفرصة لهذا العمل في الخروج  للنور..


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏