مذكرات المفتش چافير معالجة للتعسف الاجتماعي وغياب العدالة الإنسانية

مذكرات المفتش چافير معالجة للتعسف الاجتماعي وغياب العدالة الإنسانية

العدد 567 صدر بتاريخ 9يوليو2018

اضطراب مراكز الحس وتصوير الصراع الداخلي واحدة من أصعب الأمور نقلا من حيث التجسيد والإقناع على خشبة المسرح، فلا يحدث تصديق لتلك الحالة النفسية الممسرحة إلا إذا غاص المتلقي في اضطرابتها ومكنونتها؛ لذا يتوجب أن تكون حالة نفسية صادقة ليتلقاها الآخر عن اقتناع، وهذا ما عمل عليه محمود القاضي أثناء إعداده وإخراجه لرواية “البؤساء” للكاتب الفرنسي فيكتور هوجو(1802م - 1885م) في عرض «مذكرات المفتش چافير» لفريق تمثيل المحلة المقدم ضمن فعاليات المهرجان الختامي لنوادي المسرح السابع والعشرين.
وأول ما يثير انتباه المتلقي للعرض هو اسمه، الذي بلور شخصية المفتش چافير، وتعتبر هذه البلورة هي أولى الاختلافات الواضحة بين الوسيط الروائي وهذا الوسيط المسرحي، فرواية هوجو تقدم شخصية «جان فالجان» كبطل رئيسي للحدث ولكن أثناء تناول محمود القاضي لها وضع يده على نقاط بعينها في شخصية المفتش واستهواه في الشخصية أزمتها النفسية؛ مما يجعله يعالج مواضع الشخصيات ويحولها للشخصية الأساسية بدلا من كونها محورية مؤثرة في الحدث، وتقديم العرض في زمن الفلاش باك على شكل خيالات ذهنية داخل عقل چافير بعد معاناته من عدة اضطرابات نفسية ومطاردة الأشباح له، تلك الأشباح من أصول إنسانية عانت من قهره الذي مارسه طيلة حياته، فجافير هو السلطة الكابحة لجماح ونفوس الشعوب. 
تلك هي الصورة التي أراد مخرج العرض نقلها منذ اللحظة الأولى، وعلى الرغم من تبديله لمواضع الشخصيات فإنه لم يحذف من الشخصيات الأساسية للرواية شيئا ولكنه قام بتغيير زمن السرد، فجاء بحياة جافير بشكل مفصل وجعل جميع الأحداث تدور في ذهنه بعد دخوله مصحة للأمراض النفسية والعصبية وسرد الأحداث من وجهتي نظر لشخص واحد، وهو «چافير»، فصراعه الداخلي أشبه بوجود شخصين متنافرين: واحد ما زال مصدقا ومفتخرا بالبطش والافتراء تأكيدا منه على أنه يمارس القانون مؤديا واجبه الذي تمليه عليه مهنته، والآخر يعي قيمة العدالة الإنسانية وحتمية وجودها، لكن هذا الآخر جاء متأخرا، مما يسبب اضطرابا نفسيا عاكسا للرأي والرأي الآخر حاملا في معانيه مدى ظلم السلطة ومدى معاناة الشعب من خلالها وفي أثناء تبادل مواضع الشخصيات قام العرض بتحويل «چان فالجان» بطل الرواية إلى شبح يظهر في ذهن چافير مطاردا له حتى في أحلامه لما وقع عليه من ظلم على يد المفتش، فهو لم يرتكب من الجرائم سوى سرقة رغيف الخبز من أجل إطعام أطفال أخته الجياع، وحذف المخرج حدث سرقته لشمعدان «الأسقف شارل ميلر» الموجود في الرواية تطهيرا لشخصه من أي حدث يدينه في عين المتلقي، ليسقط العرض عن عاتقه أي جرم، ويؤكد أن المجرم الوحيد هو من تسبب لتحويله إلى لص، أي تأكيدا على أن المخطئ الوحيد السلطة وارتكبت من الخطأ ما تسبب في تحويل مواطنيها للصوص. 
لم يركز العرض على نهاية چان وموته ومعاناته، بقدر ما ركز جميع آلياته لمعرفة تأثير ممارسة فعل الظلم عليه من قبل السلطة، ليوظف «جان» كمرآة عاكسة لمدى الظلم الاجتماعي الذي عانت منه فرنسا، وتم استخدام علم فرنسا كإكسسوار ملازم لمعظم أحداث العرض يسقط مرات ويعلو ملحقا مرات أخرى.
وتعتبر فرنسا ما هي إلا التزاما بمكان الحدث الروائي، وجافير رمزا لكل سلطة باطشة في كل زمان ومكان لذا تكون فرنسا أيضا هي كل مجتمع عانى من العنف السلطوي. فـ”البؤساء” تشبه في ذاتها المادة الخام المؤهلة طوال الوقت لخدمة نقل أي معاناة اجتماعية حاملة من الأحداث ما يكفي أن تنقل حال كثير من المجتمعات في أي مكان وأي عصر.
فالعرض يطرح إشكالية قائمة بذاتها حول حال السلطة من غياب وانعدام الضمير الإنساني، ويؤكد على وجوب وجود الحب وبقائه بشخصيتي «ماريوس وكوزيت» رغم وجود الحرب، فالحرب المقدمة في العرض تعتبر عملة واحدة ذات وجهين، حرب شعب وثروته على الظلم، وحرب نفسية قائمة داخل السلطة نفسها، وعلى الرغم من كونها حربا داخلية فإنها هي الصحوة في ذاتها التي تنير تلك الظلمة وتحمل أمل عودة العدالة الإنسانية.
فالسلطة داخل العرض عانت من الاضطراب النفسي على الرغم من قمة البطش الذي مارسته على الشخصيات، إلا أن عن قصدية جعل چافير بطلا تراجيديا كأبطال سوفوكليس تنتهي حياته نهاية مأسوية، تثير في نفس المتلقي نوعا من الشفقة التي تؤدي إلى التطهير.
فلم يغير المخرج من مصير چافير وهو الانتحار بل بلور معاناته النفسية وصراعه الداخلي وتأثير دخول الشعور الحسي داخل قلب الإنسان المستعصي غابت العدالة الإنسانية عنه طوال حياته وعندما أتت كانت أداة لملاقاة حتفه.
فجافير لم يقر حتى النهاية أنه كان على خطأ إصرارا منه أنه ينفذ القانون وأنه يد الله على الأرض. لكن مكنونه كان يعكس غير ذلك، الذي عبر عنه بحركات جسده وتعابير وجهه نقلا عن لقطات سينمائية تجذب العين لها دون وجود كاميرا تصوير.
فالقاتل الحقيقي لچافير ليس ذاته بل الأفكار المحملة داخله والشعور بالندم غير المصرح وتفهم معنى الإنسانية، جميعها مشاعر ظهرت داخله بعد سنوات من ترسخ الظلم والتعسف، لتكون هي القاتل الحقيقي الذي انقلب على صاحبه؛ أي هي أداة الجريمة الفعلية لشخص غير قادر على تحمل الرياء بعد اكتشافه لحقيقة غابت عنه عمرا.
فالعرض حالة نفسية دقيقة باستخدام الممثلين جميعهم لأدواتهم الجسدية نقلا للشعور الداخلي لرسم صورة بصرية غير متبرئه من البؤس الواقع في الرواية بل مؤكدة عليه ومهيمنة على حدثيته.
 


منار خالد