أرملة الصحراء ذبول زهرة برية أمام قسوة تابوهات الماضي

أرملة الصحراء  ذبول زهرة برية أمام قسوة تابوهات الماضي

العدد 537 صدر بتاريخ 11ديسمبر2017

ما زالت الموروثات القيمية للبيئة المحلية شديدة الخصوصية تعتبر قيدا كبيرا لتحرر الفكر والنفس من أغلال ماضي عقيم يجد من يعمل على إزاحته لتنصهر معه العادات والتقاليد البالية، التي ليست إلا قهرا للنفس البشرية التي لاحول لها ولا قوة. هكذا كانت (مليكة) تلك الفتاة الضعيفة الحزينة المغلوبة على أمرها حينما حاولت التحرر والانطلاق من داخل ذاتها إلى أفق أرحب ودحض تابوهات عقيمة في بيئتها البدوية بواحة سيوة في الحدود الغربية لمصر.
حول العلاقة بين الشرق والغرب، والصراع بين الحاضر والماضي، والتشابك بين ضيق الأفق في التمسك بالعادات والتقاليد والقيم البالية وبين الرغبة في إثبات الذات وتجاوز حدود الحاضر والخروج من أسر أغلال الآخرين، سطر الكاتب الكبير بهاء طاهر روايته “واحة الغروب” التي حاز بها على الجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر” عام 2008، والتي تدور أحداثها في نهاية القرن التاسع عشر في واحة سيوة بالحدود الغربية لمصر.
عن تلك الرواية قدمت فرقة “الرقص المسرحي الحديث” التابعة لدار الأوبرا المصرية عرض “أرملة الصحراء” على مسرح الجمهورية, وقد استخلصت المخرجة سالي أحمد (المدرس المساعد بقسم تصميم وإخراج بالمعهد العالي للباليه) التيمة الدرامية الخاصة بشخصية “مليكة” تلك الأنثى الجميلة التي تتمتع بالذكاء والجمال وهي فتاة رقيقة حالمة وتتميز شخصيتها بالتمرد منذ صغرها، ترفض الرضوخ للذل ولسطوة العادات الغاشمة, رفضا لخرافات بالية تحكم أهل الواحة، وهي وإن كانت تحتمي في خالها الشيخ (يحيى) الرافض أيضا لتلك الخرافات، إلا أنها تختلف عنه في أنها تعلن عن ذلك جهارا نهارا لأنها وقعت في شرك تلك العادات عندما زوجوها عنوة من شيخ مسن (معبد)، وعندما مات تحولت إلى غولة في عرف ذلك المجتمع وأصبحت بالنسبة لهم نذير شؤم، يحكم عليها بالانعزال عن الناس أربعة أشهر وعشرة أيام، ترتدي ثوبا أبيض واحدا ولا تأكل اللحم ولا تستحم ولا تمشط شعرها وغير ذلك من تقاليد ظالمة لا تعبر سوى عن قهر لأنثى ضعيفة. وتحاول الاحتماء في خالها الشيخ (يحيى) الذي له احترامه وقدره بين أهل الواحة، اعتمادا منها على رفضه هو أيضا لتلك الخرافات والعادات، وهو أيضا رافض للقتل والدماء، لكنه من خلال الصراع بين الطرفين النقيضين داخل الواحة، يرى أنه إن لم يكن هناك طريق للسلام سوى القتل فلتكن حربا تفني طرفا بالكامل ليعيش الطرف الآخر في سلام دائم.
فمنذ بداية العرض نجد أن المخرجة وهي نفسها معدة العرض، اعتمدت على استقاء خطين رئيسيين من الرواية الأصلية قامت ببناء الخط الدرامي للعرض عليهما، وهما قصة (مليكة)، وقصة الصراع الدائر بين طرفين من أهل الواحة بين شرقيين وغربيين، أظهرت من خلالهما نقد ونقض الخرافات التي يعتز بها الشرقيون والتي فقط تزيد من صعوبة الحياة عليهم وخصوصا في أسلوب تعاملهم مع المرأة. والتي لا تؤدي في النهاية إلا إلى الفناء والتلاشي، كما حدث لـ(مليكة) الجميلة التي ضعفت حتى ذبلت وتلاشت.
عرض درامي راقص يقدم رؤية جديدة لتمازج الرقص المسرحي الحديث وفنون الأداء الحركي بالأصول التراثية للمجتمع البدوي، حيث قدم متعة بصرية وحسية نجح في توصيلها العرض بشكل كبير من خلال رقصات رائعة صممتها المخرجة (سالي أحمد)، ورشاقة وإبداع الراقصين وممثلي العرض مع إعداد درامي متقن بحس درامي عال، واستلهام واع للتراث بتناول موروثات بيئة محلية مصرية مهمشة في طرف ناء بعيد من البلاد، اعتمد فيه على الملابس البدوية التي صممتها (هالة محمود) ببراعة أعطت للمتلقي الإيحاء بخصوصية البيئة المحلية لهذا المكان، حيث تضافرت مع ديكور بسيط ومعبر قام بتصميمه (حسام أحمد صلاح) عبارة عن بانوهات متحركة في الخلفية، تفتح يمينا ويسارا بأسلوب جرار صممت باللونين الأبيض والرمادي على شكل بيوت صغيرة برسم تعبيري يوحي ببيئة البدو والصحراء؛ حيث كان في العمق بانوه أبيض كبير ثابت عليه تموجات رمادية توحي بتموجات الرمال في الصحراء؛ حيث أتاح كل ذلك توظيف الإضاءة بشكل رائع التي صممها (عمرو عبد الله)، باستخدام مختلف ألوانها وتغييرها باستمرار بالتساقط على اللون الأبيض إلى الخلفية ولبانوهات الديكور حسب اختلاف الحالة الشعورية أو الحدث الدرامي، وكان لاستخدام إسقاط الإضاءة من الكشافات الجانبية لأرضية المسرح بمختلف الألوان أثر كبير في دعم الإشباع البصري للمتلقي وتغذية الحدث الدرامي. كما جاء توظيف الفيديو بروجيكتور ثلاث مرات طوال العرض جيدا بإسقاط الصورة على شاشة خلفية تداخلا مع بانوهات الديكور لتوظيفها كجزء من شاشة العرض، حيث تم ذلك في ثلاثة مشاهد اثنان لـ(مليكة) لانطلاقها في الصحراء، ساعدت في إظهار الحالة الشعورية والرغبة في الانطلاق والحرية والتمرد لها، ومشهد واحد لخالها يحيى معبرا عن رفضه للحرب وغضبه من نتائجها ورغبته في فرض السلام للجميع. وشابها فقط عدم وضوح الصورة بشكل كاف لوجود مصادر إضاءة أخرى على خشبة المسرح فظهرت مشابهة لعلامة مائية خفيفة.
كما أجادت المخرجة في تكوين وتصميم مشهد الحلم الذي تحلم فيه (مليكة) بالرقص مع فتى أحلام في خيالها معبرة عن رغبات الأنثى وأحلامها وطموحها، واحتياجاتها النفسية كفتاة جميلة ورقيقة. ثم نأتي لمشهد رائع قبيل النهاية حيث تتدلى من أعلى المسرح شرائط تتجمع لتتشابك مكونة شبكة عنكبوتية يحيط بها أهل الواحة حول (مليكة) مقيدين إياها بها وكأنها مصيدة حبست فيها تعبيرا عن قسوة قيود تلك العادات البالية التي تحيطها من كل جانب وينصرف الجميع فيتركونها وحيدة على خشبة المسرح تعاني وحدها من أفكارهم المتحجرة. أما الموسيقى المعدة للعرض فكانت جيدة جدا ومعبرة وموحية باستخدام الإيقاعات والآلات الشرقية بكثافة ومع تضفير بعض الآلات الغربية تبعا للحدث الدرامي، فكانت من العوامل المؤثرة في توصيل الحالة الشعورية والدرامية للمتلقي بشكل جيد. وقد صاحبها صوتيا ثلاثة مقاطع صوتية مسجلة ثلاث مرات في بداية العرض ومنتصف ونهايته تصف بشكل موجز الحالة النفسية والدرامية للشخصية على خشبة المسرح. يؤخذ عليه كثرة الأخطاء النحوية والتشكيل للغة العربية الفصحى للمؤدي، مما لا يليق بعرض يمثل دار الأوبرا المصرية.
استطاعت المخرجة إعداد الشخصيات الرئيسية للعمل بشكل متقن استخلاصا من الرواية الأصلية التي تحوي عددا آخر من الشخصيات التي لم تلجأ إليها في هذا العمل, حيث استبعدت الشخصيتان الرئيسيتان في الرواية تماما وهما الضابط (محمود عبد الظاهر) وزوجته الآيرلندية (كاثرين)، وصارت هنا (مليكة) هي بطلة العمل الأولى، وقامت بأداء دورها في العرض إيمان رزيق وهي صغيرة ثم ريم أحمد بعد ذلك في المرحلة التالية، وقامت رشا الوكيل بدور خديجة أم (مليكة)، ومحمد السيد في دور (يحيى) خالها، ومحمد عبد العزيز في دور الشيخ (السنوسي)، ومحمد مصطفى في دور (معبد)، وعمرو البطريق في دور فتى أحلام (مليكة), أما زوجات (معبد) فقام بأدوارهن كل من منت محمود، وإيمان رزيق، ويمنى سعد، وقام بتمثيل مجموعة الشرقيين: محمود مصطفى، منت محمود، باهر أمجد، عمرو البطريق، جاسمين أحمد، سماح مبارك. ومثل مجموعة الغربيين كل من: عبد الرحمن وصلاح ملوخية، يمنى سعد، إيمان رزيق، محمد الهادي، أحمد محمد محمود.
وفي النهاية، نقدم كل التحية والتقدير لفرقة الرقص المسرحي الحديث على هذا الفن الراقي الجميل والمختلف الذي يقدم مفهوما جديدا للإبداع البصري والحسي بأسلوب درامي قوي، وحيث ذكر في بانفليت العرض أنه قد تحول نشاط الفرقة في الفترة الأخيرة إلى الاهتمام أكثر بأنواع الرقص المختلفة للوصول إلى المسارح العالمية بفكر جديد وحديث يواكب حركة الرقص الحديث في المسرح الأوروبي والتحرر من القيود المسرحية التقليدية المتعارف عليه وذلك من خلال فكر جديد ورؤية جديدة للرقص المسرحي الحديث لمخرج ومصمم من جيل الشباب وهو الفنان مناضل عنتر الذي تولى منصب المدير الفني للفرقة في محاولة منه لتقديم عروض متنوعة فنيا وشكليا للرقص المعاصر..


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏