الكاتب يحكم نصه: قراءة في مسرحية «مسرحية في القصر» لفرنتس ملنار

الكاتب يحكم نصه: قراءة في مسرحية «مسرحية في القصر» لفرنتس ملنار

العدد 600 صدر بتاريخ 25فبراير2019

مانسكي: ولكنّ الحياة ليست كلها مسرحا
- توري: بل هي كذلك يا عزيزي إذا كنتَ تكتبُ للمسرح! هل تعرف ما يقول ألفونس دوديه في مذكراتِه؟ عندما وقف ذلك الكاتب الفرنسي إلى جوار أبيه وهو على فِراش الموت، لم يَدُر بخَلَدِه سوى فكرةٍ واحدةٍ ليس غَير، وهي أن ذلك الموقف يَصلُحُ مشهدًا رائعًا للمسرح”.
 حين بدأ برتولد بريخت يكرّسُ فكرة التغريب ويدعو إليها Verfremdungeffekt - والتي يُقالُ إنه استقاها من الشكليِّين الروس وتحديدًا شْكْلُو?سْكِي Shklovsky، كان رائدُهُ في هذه الدعوة هو إحداثُ انفصالٍ عاطفي بين الجمهور وما يشاهدُه على المسرح، فيصبح الحُكم النقدي الذي يُصدِرُه المتلقّي على أفعال أشخاص المسرحية صادرًا عن العقل الواعي للمتلقّي، لا عن عاطفتِه وتوحُّدِه الانفعالي مع هؤلاء الأشخاص. وكانت الآلية التي اعتمدَها لإحداثِ هذا الأثَر التغريبي/ التحييدي هي تجاهُل ما يُسَمَّى في العُرف المسرحي (الحائطَ الرابعَ)، - وهو الحائط الافتراضي الذي يفصل الممثلين عن الجمهور، فيَسمح للجمهور بمشاهدة الممثلين ويمنع الممثلين من التفاعل مع الجمهور - ويكونُ ذلك بمخاطبة الجمهور مباشرةً أو لفت نظَرِه إلى الطبيعة التخييلية لما يُمثَّلُ أمامَه، أو باختصارٍ، يكونُ بتذكير الجمهور طيلةَ الوقت أنَّ ما يشاهدونه مسرحيةٌ، لا حقيقة. ولَمّا كانت النقطة الأبرز في مقارنة التراجيديا بالكوميديا هي أنّ الأولى تعملُ على تجنيد عاطفة المشاهِد، بينما تتسلل الكوميديا إلى عقلِه الواعي عاريًا من العواطف، فإنّ الكوميديا في أي زمانٍ ومكانٍ تنطوي بالضرورة على قَدرٍ من الأثَر التغريبيّ، هذا إذا سلَّمنا بصحّة تلك النقطة في مقارنة المأساة بالملهاة.
 في هذا النصّ المسرحي الذي أبدعَه الكاتب المجري مُلنار Ferenc Molnár (1878 – 1952) وترجمَه (محمد فتحي) إلى العربية عام 1961، يعمَد المؤلّف إلى كَسر إيهامِنا وتغريبِنا منذ السطور الأولى في الحِوار. الحكاية باختصارٍ تدورُ حول كاتبَين مسرحيين شريكين في الكتابة (شاندور توري ومانسكي) يذهبان إلى قصرٍ على شاطئ الريفييرا الإيطالية بعد الانتهاء من تأليف مسرحيتهما الغنائية، بصحبة موسيقار فرقتهما المسرحية (ألبرت آدم) خطيب الممثلة الأولى للفرقة (إيلونا سابو) التي نزلت إحدى غرف القصر قبلهم. وبطريقةٍ ما، يعرف الممثل الكبير (ألمادي) بوجود (إيلونا) فينجح في الحصول على دعوة لحضور الحفل الكبير الذي يعتزم الكونت صاحبُ القصر إقامتَه وتشترك (إيلونا) في إحيائه بغناء أغنيتين. ونعرفُ أنّ (ألمادي) كان يُعطي (إيلونا) دروسًا في الإلقاء في بداية مشوارها المسرحي، وأنّ علاقةً حميمةً كانت تجمعُهما، رغم فارق السّنّ بينهما، ورغم أنه متزوّجٌ وأبٌ لأربعة أطفال. يتطفّل (ألمادي) على (إيلونا) التي تصُدُّه في البداية لأنها أصبحت خطيبة الموسيقي الشاب (آدم)، لكنها سرعان ما تنصاعُ جزئيًّا لرغبتِه في إعادة علاقتهما القديمة، ولسوء الحظّ يسمعُ ما يدورُ بغرفةِ (إيلونا) من حوارٍ غزَلِي كلٌّ من توري ومانسكي وآدم، حيثُ يكتئب هذا الأخير ويسهرُ ليلتَه مفكرًا فيما عسى أن يكون التصرف الأمثل تجاه خطيبتِه الخائنة. (توري) يعتقد أنّ ما حدثَ يشكّل أزمة كبيرةً للفرقة، ف(آدم) المح إلى تفكيرِه في تمزيق المدونة الموسيقية التي أنجزَها للأوپريت، كما أن حالتَه النفسية المحطمة تهدد بنضوب مَعِين إلهامِه، وهو ما يعني عُطلاً في الفِرقة. يفاجئنا (توري) باهتدائه إلى حلٍّ بالِغِ الغرابة لهذه الأزمة، يَعرِضُه على (إيلونا) و(ألمادي) الذي يستدعيه (توري) مهددًا إياه بإرسال برقيةٍ إلى زوجتِه يكشفُ لها فيها ما اطّلَع عليه من مسلك الزوج الخائن. يهاتِف (توري) (مِل) كبير تشريفاتيّة الكونت ومنسَق الحفل ليغيّر برنامج الحفل، فبدلاً من أن تغنّي (إيلونا)، ستمثل مع (ألمادي) مسرحيةً قصيرةً من تأليفِه، حيث يأتي ما سمعَه (آدم) من حوارٍ بينَ إيلونا وألمادي ضمن حوار المسرحية، وبالتالي يقتنع (آدم) بأنّ ما سمعه بأذنيه كان مجرد پرو?ة في غرفة إيلونا لهذه المسرحية. يعكف ألمادي وإيلونا على حفظ دورَيهما وتنجح خطّة (توري) العبقري، وتنتهي المسرحية و(ألمادي) قد انسحب من حياة إيلونا، وتزول زوبعة الفنجان التي عكّرَت صفو علاقتِها بآدم.
 في تقديري، تجسّد الحكاية التي أبدعَها (مُلنار) ذلك التوتُّر الحتمي بين كاتب النص ّالمسرحي من جِهةٍ، والممثلين من جهةٍ أخرى. طبيعةُ الأمور تقتضي أنّ الممثلين حين يقومون بأدوارِهم في مسرحيةٍ ما، يحاولون - بوعي أو دون وعي - الإفلاتَ من قبضةِ النّصّ، ويكونُ هذا بالارتجال والخروج عن النصّ، ويَصِلُ في أقصى مداهُ إلى كَسر الحائط الخامس، بمعنى إحالة الجمهور إلى الأعمال التمثيليّة السابقة للممثلين إن كانوا يَحظَون بشعبيةٍ جارفةٍ أو على الأقل معروفين لدى جمهورهم جيّدا. لن نعدم أمثلة على هذا التصرُّف في المسرح والسينما، وكلُّنا يتذكّرُ الفنان (عادل إمام) في (الواد سيد الشغال) وهو يُحيلُ الجمهورَ إلى فوازير ألف ليلة وليلة التي اشترك في بطولتها الفنان (عمر الحريري)! المهمُّ أنّ هذا التوتُّر يُعَبِّرُ في جوهرِه عن صراعٍ بين حُرّيّتَين: حريّة الكاتب من جهة، وحرية الممثل من الأخرى، ومن وجهة نظرٍ وجوديّة، يحاولُ كلٌّ من الطرفَين تحقيقَ وجودِه بفرضِ كلمتِه – ومِن ثَمَّ حُرّيّته على أرض الواقع، وعلى حساب الآخَر بالضرورة. ما يفعلُه البطل (توري) بالضبط هو أنه يستعيدُ زمامَ الأمور من الممثلين، فهو لا يُدرِج ما ارتجلوه على خشبة المسرح في نَصّه المسرحي، وإنما يتعدى ذلك إلى مُصادَرَة ما قِيلَ داخل غرفة نوم الممثلة، في قلب خُصوصِيَّتِها الشخصيّة، ليُصبِحَ جزءًا من نصٍّ مسرحي يُبدِعه، وكأن ما تفوّه به ألمادي وإيلونا إن هُو إلاّ جزءٌ من حِوارٍ كتبَه هو أزَلا! ألا يُحيلُنا هذا إلى إشارة قرآنيةٍ طالما أثارت الجَدَل بين منتقدي الإسلام والمُدافعين عنه، وهي الآية 52 من سورة الحَجّ وما يرتبط بها من حادث الغرانيق: «وما أرسلنا من قَبلِك من رسولٍ ولا نبي إلاّ إذا تمنَّى ألقى الشيطانُ في أُمنِيَّتِه فيَنسَخُ اللهُ ما يُلقِي الشَّيطانُ ثُمَّ يُحكِمُ اللهُ آياتِه، واللهُ عليمٌ حَكيمٌ»؟! تبعًا لوجهة نظرِ قراءتنا في أحداث هذه المسرحية، يبدو المخلوقُ - سواءٌ أكان النبي أم الشيطانَ - ممثّلاً لا يدري من أمر نفسه إلا قليلاً، قاصِرَ العلم تمامًا ولا يرى أبعدَ من أنفِه، بينما الأمر كلُّه بيَد الله. ولنَعُدْ سريعًا من استطرادتِنا!
 ثَمَّة إشاراتٌ في حوار (توري) مع الممثِّلَين إلى هذا القَهر الذي يُمارِسُه عليهما بصفتِه كاتبَ النص المُنقِذ لسمعتِهما ولعلاقة الخطيبَين، فإيلونا مثَلاً تُشيرُ إلى سطرٍ في النصّ تقولُ فيه لألمادي: «إنّ قُبلتَك تدعو إلى الاشمئزاز» بينما الحقيقةُ أنها قالت في غرفة نومها: «إنها تذكّرُني بقبلاتِك الأولى، حلوةٌ حارّةٌ كالنبيذ الساخن»، ويعقّبُ ألمادي: «أنت تصفُ قُبلَتي بأنها تدعو إلى الاشمئزاز. أحبُّ أن أعرفَ لماذا»، فيرُدّ (توري): «هكذا أراها، فأنا مؤلّف المسرحية، وهذا هو رأيي في قُبلتِك». هو يَنسخُ ما قِيلَ داخل غرفة النوم ليُحكِمَ نَصَّه كما يليقُ بإرادة الكاتب!
كذلك هناك تبرُّم (ألمادي) أثناء الپرو?ة بطُول الأسماء الفرنسية في النّصّ الذي يمثلانِه، والذي نَحَلَه (توري) للكاتب الفرنسي (ساردو Victorien Sardou) مستغِلاً عدم إلمام (مِل) منسّق الحفلة بأعمال هذا الأخير، وليُبعِد عن نفسِه أمامَ (مانسكي) و(آدم) شُبهةَ تلفيق النّصّ لإنقاذ الموقف. يَخلع ألمادي قبعتَه وقفّازَيه ويضع السَّوط (وكلُّها من لوازم الدور) ويقول: «هذا شيءٌ مُخجِل. أن اضطر إلى أن أردد هذه الأسماء اللعينة من البداية للنهاية، بينما هي لا تقولُ إلا (اسمك)»، مُشيرًا إلى أسماء مثل (المركيز چان فرنسوا جيليت دي لاتور دارجان، سيّد بيريچود دي شابينيون وسانت سوبليس دي لاجراند بارمنتيير)! هكذا يُلقِي الكاتبُ ممثِّلَه في أَتُون التجربة المسرحية بكل ما تتسِم به من مبالَغَةٍ وإسرافٍ في التمثيل إذا جاز التعبير، فيتقزّم وجودُه الحقيقي ويتحول إلى شيءٍ أقربَ إلى الدُّمية في يد الكاتب الذي يملك الخيوطَ كُلَّها. المُلاحَظ أنّ (توري) يشيرُ في موضعٍ من حديثِه إلى أنه للمرة الأولى في حياتِه يكتبُ لغرضٍ غير أنانيٍّ، فهو يبتغي إنقاذ قلب الموسيقي (آدم) وسُمعة (إيلونا) وأُسرة (ألمادي)، لكنّا نعرفُ أنه إن لم يكُن ذهنه قد تفتّق عن هذا الحلّ العبقري لكان مجهودُ الأيام الفائتة على زمن المسرحية - والذي بَذَلَه مع شريكه (مانسكي) و(آدم) - قد ضاع سُدى، فهو في التحليل الأخير مُخلِصٌ للحالة المسرحية إجمالاً، ومُخلِصٌ لمكانته ككاتبٍ مسرحي بالتحديد.
 إشارة أخرى لطيفةٌ إلى هذا الإخلاص للحالة المسرحية تأتي مع تكرار نسيان (توري) اسمَ خادم القصر (يوهان دْفُورِنتْشِكْ). هنا الكاتب المسرحي الذي تذكَّرَ بالحَرف الواحدِ الحِوارَ الذي سمعَه عبر حوائط الغرفة الرقيقة لممثلتِه يفشلُ أو يتظاهرُ بالفشل في تذكُّر اسمِ الخادم. في رأيي أنَّ هذه إشارة إلى أن وعيَه مُنصَبٌّ بالكاملِ على ما يَخدُمُ نَصَّه، وكلُّ ما عدا ذلك لا يَعنيه، ونتفهّم صنعةَ اللطافة التي خلق بها (مُلنار) هذا الأثَر حين نعرف أن أسماء أبطال هذه المسرحية كلَّها أسماء مجَريةٌ خالصة (شاندور - إيلونا سابو - ألبرت آدم - ألمادي)، إلا في ما يتعلق ب(مانسكي) المُوحي بأصلٍ سلافيٍّ، واسم الخادم الغريب (دْفُورِنتْشِكْ) الآتي من إقليم السلاف الشمالي (التشيك وپولندا تحديدا)، فكأن غُربةَ الاسمَين معادلٌ سياقِي لطيفٌ لغربة الشخصَين عن الحالة المسرحية، لا سيما أنّ (مُلنار) يجعلُ (مانسكي) أخَفَّ وزنا وأميَلَ إلى الكسل العقلي من شريكِه بطل المسرحية (شاندور توري).
 نحنُ في حضرة نصٍّ مسرحي كوميدي يُعَدُّ مثالاً صارخًا على الميتا - مسرح، ويطرح ما يطرحُه الميتا - مسرح من أسئلة حول الحقيقة وأصالةِ الإبداع وطبيعة الحُرّيّةِ والوجود. باختصارٍ، هو نَصٌّ مُنفَتحٌ على مستوياتٍ مختلفةٍ للتَّلقِّي، جديرٌ بالبقاء والتمثُّل وإعادة القراءة ما بَقِيَت الإنسانية بأسئلتِها الأبديةِ الشائكة.

 


محمد سالم عبادة