كارمن - أدرنالين.. صوت مقاومة الخوف

كارمن - أدرنالين..  صوت مقاومة الخوف

العدد 600 صدر بتاريخ 25فبراير2019

أعرف ممثلات كثيرات يرفضن تمثيل مسرحية من نوع المونودراما، أي مسرحية الممثل الواحد، لأسباب كثيرة جدا أهمها الوجود الفردي في مواجهة الجمهور لوحدها فوق خشبة المسرح. والبعض يقلن سببا مهما وهو أن المسرح عمل جماعي تتضافر فيه جهود فنية متعددة منها مبارة التمثيل لأكثر من شخصية درامية على المسرح.
في المقابل هناك فنانات وفنانون يجدون في أداء المونودراما متعة تكمن في المواجة الفردية للجمهور، ومتعة عرض حالة إنسانية تستنفر قدراتهم في التنقل بين حالات ومشاعر إنسانية متسقة أو متنافرة. والحقيقة أن كلا الموقفين من الصعب رفضه أو قبوله فلكل فنان رؤية وموقف يحدد من خلاله اختياراته.
وفن المونودراما أحد أشكال الدراما الذي تطور حديثا من قرن مضى، يعد أحد تجليات الدراما الحديثة حيث تبلور منذ القرن التاسع عشر، لكنه ولا شك فن تعود جذوره كما تعلمنا إلى بداية المسرح الإغريقي حين انفصل أحد رجال الكورس الإغريقي عن المجموع ليقف ويردد غير ما يرددون، ثم انضم للواحد آخر ثم ثالث.. إلخ، حتى تبلورت الشخصيات الدرامية بسمات مختلفة عن مجموع الكورس ذي الصوت الواحد. وما كان خروج الفرد عن جماعة الكورس لتحقق تطور أداء الصوت الفردي فقط ولكن لإيضاح وتأجيج الصراع الدرامي في القصة أو الملحمة أو الأسطورة المؤداة.
وإنني حين أنظر لفن المونوداما في وقتنا يصل بي التحليل إلى التأكيد على احتفاظ المونودراما بنفس فلسفة بدايتها، فهي تتضمن نقل فكر ومشاعر صوت متفرد له حساسيته وفكره الخاص المختلف عن المجموع والمصطدم به أحيانا أو غالبا، ومن هنا في تقديري يكون النظر لفن المونودراما كتابة وأداء. ولست أدري هل لهذا السبب ارتبط هذا النوع الدرامي في المسرح المصري بالمرأة كمؤدية وكاتبة؟ أم هناك أسباب أخرى؟ فذاكرة مسرحنا تحتفظ بصورة القديرة سناء جميل في مونودراما “الحصان” إخراج أحمد ذكي. والقديرة نعيمة وصفي في مسرحية “عديلة” للكاتبة الراحلة نهاد جاد ومسرحية “مقالب عطيات” تمثيل وإخراج القديرة سميحة أيوب وهناك أيضا أداءات لممثلات أخريات من أجيال تالية لنفس تلك النصوص ولغيرها. وهناك ممثلات وتجارب عالمية لإعداد نصوص كبيرة لم تكتب كمونودراما مثل “بيت الدمية” و”مس جوليا” وغيرها.
والحقيقة، إن الاهتمام بفن المونودراما في المسرح العربي زاد من سنوات قليلة فشاهدنا إقامة مهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما، الذي يستقطب فنانين من العالم شرقا وغربا. وهناك في تونس والمغرب والعراق تقام أيضا مهرجانات لنفس الفن. ومنذ العام الماضي بدأ مهرجان “أيام القاهرة للمونودراما” كمهرجان تخصصي لهذا النوع الفني وهو أمر محمود ويجب العناية بالمهرجان ليتطور هذا الفن ويساعد الفنانين المهتمين به على تطوير عملهم. عن نفسي أحب هذا النوع المسرحي وأراه فريدا ويمكن تطوره لآفاق رحبة هائلة بجهد ودأب الإبداع.
في دورة مهرجان أيام القاهرة للمونودراما الثانية التي انتهت منذ أيام، شاهدت مسرحيتين تبشران بهذا الجهد وإمكانيات تطوره، الأولى “أنا كارمن” للفنانة سما إبراهيم والثانية “أدرنالين” للفنانة أسما مصطفى. فما يجمع بين العرضين كثير فكلاهما قامت بهما فنانة واحدة هي الممثلة والكاتبة والمخرجة والكوريوجرافر، أي أنهما سيداتا مسرح بكل معنى الكلمة.
لم تكن المرة الأولى التي أشاهد فيها مونودراما “أنا كارمن”، فقد شاهدت العرض سابقا على المسرح وعبر الإنترنت ثم شاهدته مؤخرا فوق المسرح مرة ثالثة في مسرح الهناجر الودود الذي تشعر بالحميمية مع كل عرض تشاهده به وتلك مشاعر غير خاصة بي.. أكيد.
وعبر تجربة مشاهدتي تلك، يتأكد دأب الفنانة سما إبراهيم في تقديم العرض/ الحالة الإنسانية لسيدة في منتصف العمر تعمل عاملة نظافة بسيطة في مسرح ما، تتفاعل مع بطلات المسرحيات وخصوصا شخصية كارمن وهي كما يعلم بعض المتفرجين الفتاة الجميلة الغجرية الأصل التي تمارس الرقص والغناء في الساحات الشعبية مع عشيرتها ثم تقابل الضابط الوسيم وتقع في حبه بينما يرفض الجميع هذا الحب بحجج اجتماعية طبقية. حين تسحب العاملة البسيطة هذا على نفسها فموقفها مختلف فليس الأمر لديها مشاعر الحب بين حبيب ما، لكن هناك نقاط اتفاق بينها وكارمن، منها النظرة الدونية لها ولعملها فالاضطهاد عامل مشترك، منها التفرقة بينها وزملائها الرجال وغيرها من مواقف اجتماعية تمثلها السلطة بكل صورها بالنسبة لها المدير المتحكم في مصيرها بالخصم من المرتب وربما بالفصل من العمل نهائيا. ومن ذكاء كتابة النص هذا الربط بين شخصيات النساء منذ زمن وإلى اليوم، ثم تمد البطلة رابط المشاركة بين نساء البلاد المحاربة من أعداء صلاف مثل المرأة الفلسطينية والعراقية والسورية وغيرهن ممن يقع عليهن مأسي بلادهن وهن يقاومن بالعمل المضني ومواجهة الصعاب مثل فقد الزوج والابن وحقيقة أن هذا الربط بينهن جميعا العاملة البسيطة والمرأة البسيطة في كل بقعة حرب، وإن بدا مفاجئا للمتفرج لكنه كان صادقا في أداء “سما” صدقا وصل إلى حد الوجع.
في حين انتقلت بنا الفنانة الأردنية أسما إبراهيم إلى حالة إنسانية أخرى لكنها قدمت لنا نفس الوجع ولكن في حالة إنسانية أخرى لمرأة مريضة بمرض السرطان لكنه سرطان نسائي حيث أصابها في الثدي وتلك خصوصية نسائية أكدت عليها الممثلة بملابسها، حيث شفت الملابس البسيطة البيضاء مثل - ملابس المرضى وأسرة المستشفيات - عن صدر ربط بالضمادات وساقين وذراعين نحيلتين تعانيان المرض، ليس هذا فحسب بل مواقف المقربين ما بين نكران الحبيب وتشفي المحيطين وتخفي من يجب عليهم التضامن والمساعدة. كل ذلك يرسم صورة لمحيط اجتماعي جاف إنسانيا تجاه عذابات امرأة مريضة نفسيا أكثر منها عضويا.
وربما كان هذا بحدود علمي أول عرض مسرحي يقدم أزمة هذا المرض الخبيث بتلك الحساسية بل والشاعرية التي تنفذ لروح المتفرج وتجعل منه هذا السند الإنساني الذي بحثت عنه الممثلة/ الشخصية على المسرح ولم تجده في الواقع. في “أنا كارمن” إنك لا تشاهد تمثيلا للتمثيل، إنك تتفاعل مع إنسانة بسيطة تسخر من ذاتها ومن واقعها المرير وتهرب من قهر الآخرين حولها لعالم الحلم وحديث ذاتي عن أحلام الحب والحنان التي لا تتحقق بالفعل لكنها تحقق لها توازن نفسي يحميها من مشاعر الخوف التي تحيط بها وبغيرها من نساء العالم. من متع العرض السخرية والنكات البسيطة انسيابية الأداء رغم صعوبة الدور وانتقالاته بين ما هو ذاتي وما هو عام.
في “أدرنالين” تقل الكلمات لكن كل همسة ولفتة تجسد ألم المرأة التي فقدت جزءا من جسدها لكن ألمها الحقيقي جاء من الآخرين، لقد قاومت ألم المرض وأفرز جسمها هرمون الأدرنالين الذي يقاوم المرض لكن ألم النكران والهجر والنفي لم يخترع هرمون إنساني يهزمه.
حقيقي من يشاهد المسرحيتين يقف أمام تساؤلهما الذي لا إجابة له: متى تنتهي معاناة المرأة بكونها إنسانة في عالم يفتقد كثيرا لكل ملامح الإنسانية؟
شكرا لفنانتين صادقتين سما إبراهيم وأسماء مصطفى.


سامية حبيب