جنونستان كوميديا سوداء تكشف حقيقة الربيع العربي

جنونستان كوميديا سوداء تكشف حقيقة الربيع العربي

العدد 599 صدر بتاريخ 18فبراير2019

هل يمكن أن تصبح الديمقراطية حقيقة في عالمنا الثالث؟ تظل العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة تشابكية معقدة تستفز كثيرا من الكتاب في مختلف دول العالم، وعلى الأخص في العالم الثالث، لا سيما في المجتمع العربي الذي يحمل خصوصية فريدة يبدو أنها تتكون لدى الأفراد من خلال سمات جينية خاصة تجعل الديكتاتورية وكأنها مرض نفسي يصيب كل من اعتلى عرش الحكم.
من خلال حدوتة بسيطة في شكلها معقدة التكوين في مضمونها، قدمت فرقة مسرح الرحالة التابعة لوزارة الثقافة الأردنية عرضها “جنونستان” على مسرح السلام، ضمن عروض مهرجان المسرح العربي. وذلك في شكل غنائي درامي يتخلله أغاني الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، حيث يبدأ العرض بالفرقة الموسيقية جالسة تغني أغنية (دور يا كلام على كيفك دور) كما يجلس الممثلون على خشبة المسرح يستمعون للأغنية ثم يتراقصون ويتمايلون معها كبرولوج مبدئي قبل الدخول في الحدث. ومع نهاية الأغنية تنطلق صافرات الإنذار والخطر فيهرب الجميع وذلك مع أصوات لطلقات الرصاص وفلاشر الإضاءة للتعبير عن حالة الحرب التي هزمت فيها الدولة، وتنتهي الحالة حيث خشبة المسرح خاوية إلا من ثلاثة مقاعد صغيرة لثلاثة ممثلين يعبر أحدهم عن السلطة الدينية والآخر عن وزير المالية والثالث عن المعارضة، وقد اختفى الحاكم أثناء الحرب ولا يعرف أحد إن كان حيا أم ميتا، فتدور الشكوك حول سر اختفائه إن كان قد تنحى بسبب الهزيمة أو انتحر أو أنه قد استولى على خزانة الدولة وهرب لدولة أخرى، فيحاولون استغلال فرصة غيابه لتعيين رئيس جديد منهم قبل أن تحل الفوضى بالبلاد معتمدين على اتهامه بالتسبب في الهزيمة وسوء إدارة البلاد. فنرى هنا الصراع بين السلطات وفسادها، ثم يعود الحاكم بعد اختفائه ويدخل على أغنية (سايس حصانك) بشكل هزلي يعبر عن التملق والنفاق للحاكم من كل من حوله، حيث يعلن أعوانه الممثلون للسلطات الدينية والمالية إخلاصهم ووفاءهم له، لكنه كاشفا لفسادهم يوضح لهم رغبته في حل الأزمة الاقتصادية بحرمان أبناء المسئولين من الميراث لتؤول ثرواتهم لخزانة الدولة حيث سيتم إعدام هؤلاء المسئولين، مما يسبب صدمة لهم، فيستعرض المخرج أغنية (بقرة حاحا) من خلال الكورال، يعمل الحاكم على إقناعهم بتقبل فكرة إعدامهم، حيث يقرر إعدامهم صباح اليوم التالي، ثم نستمع إلى أغنية (إذا الشمس غرقت في بحر الغمام)، في حين يتجرع الشعب مرار الهزيمة من أنات الضحايا والمصابين وصراخ الأطفال والأرامل، بينهم المعارض الذي يدعو للتخلص من الحاكم الظالم بالقوة والثورة، بينما نرى الشاعر وعازف الجيتار الذي يرى أن السلام والفن هو الحل والطريق للإصلاح هو الحب، وليس القتل، مؤكدا أن الفساد سيبقى، فيضع المسئولون الفاسدون يدهم في يد الثائر المعارض للهرب من فكرة إعدامهم وللتخلص من الحاكم، ثم ينضم إليهم الشاعر معلنا أنه لا كرها في الحاكم ولكن حبا في دولة “جنوبستان” وفداء لها.
ثم يهب الشعب بالثورة معبرا عنه بأفراد الكورال الذين يقفون في خلفية خشبة المسرح ثائرين على الحاكم بأغنية (شيد قصورك)، لكن الحاكم يكشفهم ويخمد ثورتهم بالقوة، حيث يخاف المسئولون ويتنصلون من الثورة رعبا من الحاكم الذي يصرح ساخرا بأنه قد انفرط عقد الثورة سريعا ويغير اسم الدولة من “جنوبستان” إلى “جنونستان”، فيقرر الحاكم إعدام الثوار وعلى رأسهم المعارض والشاعر، وحينما يحين موعد الإعدام بإطلاق الرصاص عليهم يتغير الموقف فجأة من خلال دخول شباب الوطن (معبرا عنهم بأفراد الكورال) حاملين شموع الأمل، وكأن الشعب كله قد قام بثورة حقيقية ضد الحاكم مصاحبة بموسيقى خفيفة معبرة عن الأمل، حيث ينقذون الشاعر والثائر فيتبدل الموقف ويصبح الحاكم هو من في موضع الإعدام ليتوسل إليهم بتركه مقابل وعده لهم بالمستقبل الباهر للوطن في ظله وتحقيق الإصلاح وتغيير الأوضاع، فيوافق الشاعر مؤكدا أن القتل ليس الحل، ويصرخ الحاكم في الثائر قائلا (دع رجالك الأحرار يرتدون ملابس السلطة وانظر حينها ماذا يفعلون)، لكن الثائر يرفض وينفذ فيه الإعدام ويتولى مكانه الحكم، من هنا يتم استعراض ما بقي من مشاهد على خلفية أغنية (شيد قصورك)، في مشاهد تعبيرية يتولى كل منهم السلطة مرة لكنه يتأثر بكرسي السلطة ليصبح نموذجا مكررا من الحاكم الأصلي حيث يتخلص منهم الشعب بالثورة على كل منهم، ويبقى الأمر بعد ذلك في يد الشاعر الذي يقود ثورة الفن والحب والسلام بمصاحبة شباب الفرقة الموسيقية، لينتهي العرض على مشهد ثابت للحاكم جالسا على كرسيه محاطا بأعوانه ومسئوليه ويدور حولهم الثائر المعارض في دائرة مكررة لا تنتهي أبدا.
العرض يمثل فانتازيا هزلية تعبر عن فساد الأنظمة الديكتاتورية في العالم الثالث ويؤكد استحالة التخلص منها، وذلك من خلال دولة ما غير محددة سميت في العرض “جنونستان”، وهي ترمز لكل نظام غاشم سواء في الدول العربية أو غيرها من الدول التي ما زالت تسير على طريق التنمية ولم تصل إلى الديمقراطية الحقة بعد. الفكرة الدرامية جيدة لكنها كانت مباشرة جدا وواضحة دون مواراة بأسلوب تخيلي دون تعقيد. اعتمدت الفكرة على التجريد الخالص بالرمز لكل وجهة بشخص واحد، وهم: ممثل الدين، وممثل الاقتصاد، وممثل الشرطة والإعلام، وممثل المعارضة، وممثل الفن والسلام، بالإضافة للحاكم الديكتاتور، وعليه استخدم المخرج رؤية إخراجية اعتمدت أيضا على التجريد التام دون ديكور أو إكسسوار، مجرد مساحة خالية مظلمة تعبر عن الخواء والفراغ الذي تعيشه تلك الأنظمة الفاسدة، في عزلة عن شعوبها المهضومة، بالاعتماد على إضاءات أو إنارة خاصة للمتحدثين اتسمت غالبا باللون الأبيض مع بعض الإسقاطات الحمراء إذا تطلب الأمر، لكنها في النهاية اكتست باللون الأخضر في محاولة لإبراز التفاؤل مع فكرة اللجوء للفن والحب والسلام، واختار المخرج ملابس مناسبة وموحية لكل شخصية.
كانت أغاني الشيخ إمام ونجم مميزة للعرض حيث إن كلمات الأغاني كانت أقوى من النص معبرة بحيوية عن حقيقة الفعل الدرامي، واستطاع الممثلون التعبير بالأداء التمثيلي الجيد والمقنع كل منهم أجاد في دوره.
“جنونستان” كوميديا سوداء عبرت عن فساد السلطة بالإسقاط على ثورات الربيع العربي في محاولة لبيان أن التغيير لن يكون بالقتل أو العنف لأن الديكتاتورية إنما تمتد وتتوغل وتتشعب حيث يصعب اقتصاصها من جذورها، ولكن يكون التغيير بتغيير ثقافة الشعوب والارتقاء بها عن طريق العلم والفن وتحقيق الحب والسلام الداخلي لدى الأفراد وإصلاح الإنسان من داخله أولا.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏