«جارى التحميل» تجربة لاستشراف المستقبل بأحداق الحاضر والماضي

«جارى التحميل»  تجربة لاستشراف المستقبل بأحداق الحاضر والماضي

العدد 598 صدر بتاريخ 11فبراير2019

تعد دراسة التأثير الناتج عن التوغل التكنولوجي، وخصوصا في مجال التواصل الاجتماعي، وارتباطه الوثيق بما يحدث من متغيرات اجتماعية وثقافية وسياسية داخل بنية المجتمع ومدى التأثير الحادث سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي من الإشكاليات التي تطرح نفسها بقوة على الساحة.. تلك الإشكالية تماست مع هموم الكاتب المسرحي سامح عثمان والمخرج الواعد سامح الحضري ليقدما معا العرض المسرحي “جاري التحميل” من إنتاج مسرح الشباب.. ومن هنا كان اختيار “السايبر”، مكان الحدث، منطقيا ومتناغما مع فكرة العمل كما تتيح وجود أكبر مجموعة ممكنة من النماذج البشرية التي تعبر عن واقع المجتمع وهموم طبقاته الكادحة محاولا وضع صورة تتسم بالتناقض بين استخدام أحدث ما أنتجه العقل البشري في الغرب وبين ما يدور في أذهان السواد الأعظم من مجتمعنا ليضع المتلقي منذ اللحظة الأولى في بنية مسرحية شديدة التناقض والتضاد بما ينتج المعنى المقصود من صناع العمل.
أما البناء الدرامي فيعتمد على الصراع الفلسفي والفكري وليس على البنية الكلاسيكية (بداية، وسط، نهاية) فالجمل قصيرة وموجزة والشخصيات هي نماذج مجتمعية ناطقة بحال الكثيرين ليتحول مجتمع النص إلى واقع مجتمعي تم إعادة إنتاجه طبقا لمخيلة الكاتب معبرا عن الاغتراب والتفسخ المجتمعي والاحلام المقوضة، ومحاولة الخلاص من منظومة مجتمعية شديدة القسوة على الفرد، ويظهر هذا في طبيعة النماذج البشرية التي يطرحها العمل، فمنها الباحث عن عمل دون جدوى، الأم التي تريد عودة ابنها من غربته وتشكو الجحود، الزوجة التي تقاسي الوحدة بسبب غياب الزوج لجلب المال وطمعه في مكاسب أخرى على حساب مشاعرها واحتياجاتها النفسية، العنوسة وما تجلبه من مشكلات أخلاقية، الفراغ وعدم وضوح الهدف، وغيرها من النماذج التي تعبر عن خلل مجتمعي آني. وفي المقابل، نرى صاحب السايبر (ياسر صادق) منظما وموجها لما يجب فعله، ويحلم هو الآخر بمن يرث هذا المكان ولكن بشروطه التي تعبر عن حلمه في غد أفضل، ويستمر هذا الحلم حتى نهاية العمل، ليصنع المؤلف صورة مكتملة لتصوره عن اللحظة الآنية، ثم يحاول الارتداد للماضي، قريبه في الحروب التي خاضتها مصر في منتصف القرن الماضي، وبعيده من داخل التاريخ الفرعوني، محاولا رسم صورة متكاملة عبر الزمن لهذا المجتمع، كما استعان بصياغة بعض المشاهد السينمائية المصرية المحفورة في أذهان المتلقي لرسم صور المجتمع في منتصف القرن السابق، إلا أنه خرج عن هذا السياق في مشهد تشخيص هاملت وحبيبته أوفيليا الذي ابتعد عن السياق المجتمعي شديد الخصوصية الذي اختاره للعمل على الرغم من محاولته صياغة المشهد بشكل ساخر مشيرا للأوضاع الإعلامية والثقافية وتسطيحها للأمور بهذا التعليق المشابه لمباريات كرة القدم على ما يدور داخل المشهد والمتقاطع معه.
وعلى الرغم من الأطروحات المهمة التي تضمنها العمل، وعلى الرغم من اللغة الراقية واختياره ازدواج اللغة بين الفصحى للحلم بالوريث ورسم صور بلاغية معبرة عن تصوراته عن الواقع على لسان صاحب السايبر، وبين العامية لبقية الشخصيات وأيضا صاحب السايبر في تسلطه وممارسته القهر في بعض الأحيان على مساعده ورواد المكان، على الرغم من هذا كله فإنه صاغ نهايته بشكل أقرب للمباشرة حين أفصح عن مواصفات ذلك الوريث الذي يعبر عن المجتمع المثالي، من وجهة نظر الكاتب تلك النهاية أغلقت في وجه المتلقي تصورا شخصيا عن هذا المجتمع المأمول لينتقل من الرحابة إلى تصور محدد مفروض على هذا المتلقي بمختلف ميوله وثقافته وطموحاته.
أما الإخراج لسامح الحضري الذي التقط هذا الصدام الحضاري بين الثورة في وسائل التواصل الاجتماعي باستخدام أحدث تكنولوجيا توصل لها العقل الغربي، وبين واقع يئن بما يحمله من أزمات داخل مجتمعنا، لينجح بالتعاون مع مصمم الديكور حمدي عطية في صنع صورة بصرية تعبر عن ذلك التقدم التكنولوجي بتلك البانوهات التي أحاطت بجوانب خشبة المسرح الثلاثة، التي جسدت حدود هذا العالم الذي يحيط بمجتمع العرض من تقدم بتلك الأشكال التي برزت على البانوهات، والتي تمثل الوصلات الإلكترونية والدوائر الكهربية الخاصة بها في تشكيلات تعطي الأناقة والفخامة، واختار لونا محايدا لهذه البانوهات تاركا تلوينها لإضاءة العمل حسب اللحظة الدرامية. أما بقية خشبة المسرح فتركها فارغة لحركة الممثلين إلا من سلم في مقدمة يمين المسرح الخاص بالمتلقي ينتهي بمقعد خصصه لصاحب السايبر. أما في مقدمة يسار المسرح فمكتب صغير للمساعد ليصنع تشكيلا بصريا أنيقا يناسب العصر، وفي الوقت نفسه دال على سيطرة صاحب السايبر ومساعده على كل رواد المكان.
هذا بالإضافة لدور الإضاءة التي صممها (إبراهيم الفرن) في إبراز الرسم الموجود للمشربيات والأيقونات الفرعونية الموجودة على البانوهات في مشاهدها ليحدث ثراء بصريا دون تغيير للديكور، لينجح على المستوى التشكيلي في إنتاج الدلالات التي أكدت على فكرة العمل، وإضافة أفكار أكثر عمقا على المستوى البصري.
الملابس التي صممتها (رباب البرنس) كانت عاملا مهما في النقلات الزماكانية الكثيرة داخل العمل بتلك الموتيفات البسيطة وسريعة التغيير التي ساعدت في ترسيخ الصور الذهنية التي حاول المخرج والمؤلف تضمينها أفكارهما عن الفترات التاريخية للمجتمع المصري.
أما التشكيلات الحركية التي اجتهد المخرج في محاولة تنوعها بما يخدم أفكار العمل وترسيخ لحالة الاغتراب التي يشعر بها مجتمع العمل، فجاءت بسيطة ومحققة للغرض، كذلك نجح المخرج في سيطرته على فريق العمل وصنع إيقاع سريع متنوع للمَشاهد رغم تقارب أفكارها، وأحيانا التكرار ساعده في ذلك. أيضا مجموعة الممثلين من الشباب وقدرتهم على أداء الشخصيات المتعددة في وعي بطبيعة كل شخصية ومعطياتها، وذلك التناغم الحادث بينهم وخبرة وموهبة الفنان ياسر صادق الذي أضاف بحضوره الكثير من المتعة في تنويعاته الصوتية وقدرته على استخدام الجسد حسب طبيعة كل شخصية بمرونة ولياقة رغم فارق السن بينه وفريق العمل.
أما الموسيقى لمحمد شحاتة وأشعار سامح عثمان، فقد أضافت مزيدا من المتعة بذلك التنوع السمعي المضاف له المتعة البصرية للتشكيلات البسيطة لمصمم الاستعراضات (محمد ميزو).
وفي النهاية، فإن العرض المسرحي “جاري التحميل” بذلك الاسم الموحي بالحداثة، وما يحمله من كثير من الأطروحات التي تحاول أن ترسم ملامح مجتمع بسلبياته وإيجابياته عبر تاريخه الطويل، عرض منضبط فنيا يقدم مجموعة من الشباب المسرحي الواعد وفي مقدمتهم مخرجه الشاب سامح الحضري صاحب الخبرة في مسرح الثقافة الجماهيرية والمسرح المستقل في تجربته الإخراجية الأولى لمسرح الدولة، تلك المجموعة وبهذا العمل هم بارقة من الأمل في مستقبل المسرح المصري.

 


طارق مرسى