لن يمروا لقاء الحاضر بالماضي

لن يمروا لقاء الحاضر بالماضي

العدد 597 صدر بتاريخ 4فبراير2019

يُحكي أن هناك مجموعة من الثوار الإسبان أضاعوا حياتهم في سبيل بقاء وطنهم سالما، ولتلك الحكاية عامل أساسي شخص يدعى «خوليان كراكس» كان أحد أسباب بقائها قرابة عشرين عاما، مدونا لكل الأحداث، يطلق كلماته على كل من حوله ليزيدهم حماسا وقوة وجدية، تاركا حياته وحبيبته بهدف البقاء جانب أعوانه، فبقاء إسبانيا من بقائهم وبقاؤهم من بقاء إسبانيا.
قدم فريق تمثيل كلية الهندسة جامعة عين شمس عرض “لن يمروا.. عن الذكري والنسيان” إخراج (سعيد سلمان) ضمن فعاليات مهرجان الاكتفاء الذاتي لعام 2018.
في فضاء مليء بالخيوط المُنظمة في ترتيبها تحل محل الديكورات مُشكلة فراغات منازل وحجرات الشخصيات، وعلى الرغم من كونها فكرة مبتكرة وموفرة لكثير من جهد تغير الديكورات وموفرة أيضا من حيث التكلفة المادية، فإن توظيفها لم يقدم بالشكل المُتقن من حيث إظهار إشارات فوارق بسيطة بين الانتقال من مكان لآخر، وأيضا مراعاة الانتقال من زمن لآخر.
حيث تدور في أحداث العرض في زمنين مختلفين عام 1939 “الماضي” وعام 1960 “الحاضر”، وليس المقصود هنا حاضر زمننا المعاصر بينما هو حاضر أحداث العرض.
وكان من المُفترض أيضا أن تساهم الإضاءة في تغير تلك الأمكنة والأزمنة، ولكن قُدمت الإضاءة بالشكل المُكمل للأحداث فقط دون النظر للخطوط الدرامية المكتوبة داخل النص، مما تسبب في إفساد ذائقة التلقي وتلعثم الأزمنة لتجعل المتلقي في حيرة طوال الأحداث متسائلا أين أنا الآن؟
وعلى ذكر النص المكتوب المستوحى من رواية «ظل الريح» للمؤلف الإسباني كارلوس زافون، فهو يعتبر تناصا من حيث فكرة ولوج شخصية «دانيال» داخل مقبرة الكتب والاطلاع على كتاب «لخوليان كراكس» وبحثه عن كتب أخرى لذلك الكاتب أو عن الكاتب نفسه.
وفي تأليف «سعيد مدكور» للنص بنى ماضيا يعتبر تاريخا لوضع مرجعية يستند عليها المتلقي أثناء رحلة بحث دانيال عن مؤلف الكتاب، بل وبنى لشخصية المؤلف تاريخا أيضا مليء بالمواقف والمشاعر والأحداث.
ولكن ظلت الخطوط الدرامية في حالة تأرجح وعدم انضباط أو مبررات درامية واضحة أسباب مُقنعة للمتلقي، كرسم شخصية “خافير” ذلك الزميل الذي يرى في شبابه أنه لا داعٍ لتلك المقاومة دون إبداء أسباب، مرورا بفجوة زمنية قرابة ما يزيد على النصف ساعة مسرحيا، لاكتشاف أنه يمر بأزمة نفسية نتيجة نشأته غير السوية وإشارة لمثليته الجنسية التي لم تظهر طوال أحداث العرض، كدافع لقتله لدانيال في النهاية، ومبررا لقتل خوليان له، لكنه مبرر درامي ضعيف لم يضف للحبكة الدرامية بل أخل بها، مما تسبب في حالة من الإطالة التي ساهمت في تسرب الملل والرتابة إلى المتفرج.
من المتعارف عليه أن أغلب العروض المسرحية للجامعات تحاول اختيار/ تأليف نصوص طويلة تحتوي على الكثير من الأحداث والمونولوجات والشخصيات حتى تُتيح الفرصة لكل أعضاء الفريق بالظهور داخل العرض بشكل جيد، واستعراض في بعض الأحيان لقدرات الفريق، ولكن هذا لا يعني حشو الأحداث فقط من أجل الإطالة والظهور دون هدف واضح ومبرر لكل هذا الوقت المُستهلك.
ومثلما رُسمت خطوط فاقدة للهوية، رُسمت أيضا خطوط في محلها، حيث خطوط الحب داخل النص، وكان أهم خطين بها هو حب “خوليان” لـ”بينولبي” لنقل صراعه الداخلي عن مقاومته لحبها بهدف البقاء بجانب أقرانه، وأيضا خط حب “نوريا” لـ”خوليان”، الذي تسبب في كتباتها لإهداء خاص بها في مقدمة كتابه، ليتولد منه خط درامي مهم وهو تتبع دانيال لمنزل تلك المرأة صاحبة الإهداء إلى أن يرى خوليان في النهاية.
تم ذكر اسم الشاعر الإسباني «لوركا» الذي كانت قصائده بمثابة شرارات تلهب حماس الشعب الإسباني للوقوف بوجه الديكتاتور (فرانكو)، ولقُب لوركا بـ”قلب إسبانيا النابض بالحياة”، واختيار ذِكر لوركا تحديدا يعود لسبب كونه ثائرا ومتمردا، حيث من أشهر جمل لوركا (أنا أبدا لن أكون سياسيا، أنا ثوري وليس هناك من شاعر حقيقي إلا وكان ثوريا). كما تعود ظروف موته أحد أهم أسباب اختياره، لأنه قُتل خلال أحداث الحرب الأهلية الإسبانية ولم يتم العثور على جثته بعد قتله، ليكون ربطا واضحا بين مصير خوليان ذلك الرجل الذي أفنى عمره في كتابة الشعارات الثورية، ثم انتهت حياته بالانتحار، وبين الشاعر لوركا، فطبيعة الوفاة مختلفة بينهما ولكن أسبابها كانت واحدة «الثورة».
كما تم ذكر «فيكتور هوجو» وروايته «البؤساء» ليصنع العرض تناصا بين نصه ورواية هوجو ونتاج الحرب على كل من أبطال العملين، التي وإن اختلفت دراميا، إلا أن الخراب والدمار الذي أحل على شعب إسبانيا كان واحدًا لكل منهما.
واستكمل في إثبات التشبية بأحداث رواية هوجو عن طريق استخدام إكسسوار “قلم”، قالوا عنه داخل العرض إنه قلم هوجو الذي كتب به رواية البؤساء، ليمتلكه «خوليان» ومن بعده يمتلكه «دانيال» لربط المصائر جميعها ببعضها البعض، بل وخلق حالة من النسخ بين «خوليان» و«دانيال»، تتأكد بموتهما في النهاية. فكان بناء التشبيهات يتبع شكلا دراميا سليما إلى أن وصل لنهاية العرض ليختل البناء ثانية.
حيث إن عنوان العرض ينفي بأداة «لن» فعل «المرور» لتلك الشخصيات التي تمثل «التاريخ». وهذا ما يتفق مع التشبيهات المذكورة.
مستخدما أيضا طوال أحداث العرض شعار «¡No pasarán!» معلقًا بأعلى منتصف المسرح ذلك الشعار الإسباني الذي تعني ترجمته «لن يمروا» ويستخدم للتعبير عن التصميم على الدفاع عن موقف ما ضد العدو.
في الوقت ذاته الذي تحمل فيه نهاية العرض ندما من قبل هؤلاء الثوار وأولهم «خوليان»، مُصرحين بندمهم على ضياع عمرهم دون جدوى، ظاهرين في شكل مُنحنى يغلب عليهم الكبر والعجز دون تحقيق أي شيء، ويقتل معهم «دانيال» ذلك الشاب الحالم الذي يرمز إلى المستقبل، ليموت التاريخ ويموت المستقبل أمام عين المتلقي، حتى الكتاب ذلك الأمل الوحيد في بقاء جزء من التاريخ المفقود، يتجاهل الإخراج مصيره.
فأي مرور ينفيه اسم العرض؟! والجميع مر ورحل للأبد! ولن يبقى شيء واحد يساعدهم على البقاء.

 


منار خالد