ابن دانيال.. أرستوفانيس العرب (2-2)

ابن دانيال..  أرستوفانيس العرب (2-2)

العدد 595 صدر بتاريخ 21يناير2019

 كما سبق أن أشرت، لم ينسخ أي كاتب مسرحي معروف في تاريخ المسرح الغربي  هذه البنية الغريبة والمعقدة نوعا ما. وربما يكون هناك القليل من الأمثلة  مما تم القيام به على سبيل التمارين الأكاديمية، لكني لست على علم بأي من هذه الأمثلة. ولذلك فمن المستغرب جداً أن نجد أن في مسرحيته الثالثة، المتيم، يقوم ابن دانيال باتباع هذا النمط بتفصيل ملحوظ.

المسرحية تتعلق بمعاناة المتيم الذي يلتقي شاباً جذاباً، “اليتيم” في الحمام ويقع في حبه بشغف. ويداعبه الصبي ولكنه لا يزال بعيد المنال، والمسرحية تتناول الاستراتيجيات المختلفة التي يتبعها المتيم لإرضاء رغباته.
تبدأ هذه المسرحية ب برولوج قصير، خطاب مباشر من قبل المؤلف الى الجمهور. على الرغم من قصره، فإنه يشير إلى هذا النوع من المحتوى الذي غالباً ما وجد في البارابسيس parabasis الأريستوفاني، وإن لم يكن في مكانه الطبيعي في منتصف المسرحية. بعد هذه المقدمة الموجزة تأتي المقدمة المناسبة، ليصل بنا إلى البنية الأريستوفانية التي تحدد شكل الحدث في بقية المسرحية. هذه المقدمة (البرولوج) هي عبارة عن مونولوج مطول من المتيم، يستغرق عدة صفحات ويشتمل على أغان وأشعار مضمنة، يصف معاناته ولياليه الطوال وغزل في جمال حبه الجديد. وكما هو الحال في الكوميديا الأريستوفانية ، فإنه يحدد هموم بطل المسرحية التي سوف تسعى إلى معالجتها. عند أرستوفانيس، سيكون العنصر التالي  هو الأغنية الأولى للكورس التي تدعم أو تنقض في رغبات بطل المسرحية.
مقاطع الكورس ليست سمة من سمات مسرح خيال الظل، ومع ذلك  يؤدي المشهد التالي وظيفة مماثلة. الدميم، وهو الشريك الجنسي السابق للمتيم، ولكن أكثر قبحاً يظهر مجدداً ويحاول استعادته، ويكيل الذم  في غرامه الجديد. الا أن المتيم يرفض النصيحة من الدميم، ويعود ليكيل المديح لحبه الجديد  ثم يأتي مشهد مناظر (سيمتري) يقوم فيه بيرم، وهو صديق للمتيم ومؤيد له  في سعيه لاقتناص اليتيم الجذاب، ويشجع المغازل ويتوقع نجاحه. ان المشاهد المتوازنة للناصحين الاثنين تكمل الجزء الأول من المسرحية. وبافتقارها الى كورس، تفتقر المسرحية الى البارابسيس أيضا (على الرغم من أن الافتتاحية كما لاحظنا تؤدي وظيفة مماثلة).
ولكن غياب البارابسيس parabasis يعوضه مشهد يصور الاجتماع الممكن للعشاق. المتيم يعلن حبه، بينما يستمر اليتيم في مقاومته، وينخرط الاثنان في غناء دويتو رومانسي الى حد ما على طريقة الكثير من الأوبرات الأوروبية التي ظهرت لاحقاً بعد ذلك بفترة كبيرة.
بعد هذا المقطع مباشرة، نعود إلى سلسلة من المشاهد التي تشي بوضوح أكبر ببنية أرستوفانية. أي المناظرة Agon بين شخصيات المسرحية، والعنصر التصعيدي من الجزء الأول من الكوميديا الأرستوفانية التقليدي.
قسم المناظرة من هذه المسرحية بلغ درجة عالية من التطور، واستغرق ثلث الحدث الرئيسي. انه جزء من المشهد الثنائي (الدويتو)، الذي هو في حد ذاته نوع من المناظرة الذي يتم فيه رفض توسلات الرضا من المحب المغرم من جانب الشاب الوسيم.  ومع ذلك، بالإضافة إلى الاسهاب في وصف معاناته، فإن تباهي المتيم ببعض ممتلكاته، وخصوصا الديك، الديك المقاتل البطل. يحتج خصمه الشاب على الفور بأن لديه طائر عجيب. تقريبا فجأة ننتقل من الصراع AGON اللفظي الى صراع مواز وجسدي للغاية، معركة بين اثنين من الديكة. وعندما  يهرب ديك اليتيم من الحلبة، يقترح مسابقة أخرى: مسابقة نطاح بين كباش الخصمين. مرة أخرى ُيهزم حيوان اليتيم -ويدعوه للمرة الثالثة لمسابقة أخيرة، وهي صراع بين ثيران كل منهما. وأخيرا يخسر حيوان المتيم -ويسقط على الأرض صريعاً. لو كانت هذه مسرحية لأرستوفانيس، فإن الأرجح أن يلي هذا المشهد  مقطع للكورس، يجسر سلسلة من الحلقات التي تشكل القسم الأكبر من النصف الأخير من المسرحية. ولكن عوضاً عن هذا المقطع، يؤدي المتيم  فاصل غنائي مماثل، وهو رثاء طويل للحيوان الصريع. ثم في مقطع كلامي يتحدث المتيم  ، ويعرض الموقف والحدث الذي سوف يتم  في بقية المسرحية، والذي، كما هو الحال في الكثير من أعمال أرستوفانيس، يهيمن عليه احتفال صاخب. في مسرحية ابن دانيال المتيم، رثاء له يختتم المسرحية، يعلن أن الثور سيتم ذبحه لتوفير طبق رئيسي لوليمة ضخمة لجميع أصدقائه، على أمل أن تلين هذه الامارات على كرمه قلب اليتيم.
وننتقل الآن إلى جزء من المسرحية يتوافق تماما من حيث موضعه وتنظيمه مع الفصول الأريستوفانية المذكورة آنفاً. مقدماً تسلسل الشخصيات الثانوية- الواعظ، والشاعر، والعراف، والمفتش، والبائع- الذين بدورهم يزورون ويأملون باستغلال المدينة التي تأسست حديثا في مسرحية الطيور. واستعراض الضيوف الموازي يبدأ عندما يفتح المتيم الأبواب ويعرض الطعام والشراب المجاني. أول من يدخل هو ما يسمى رجل اسمه  نرجسة المخنث   ، وهو في الواقع رجل مثلي الجنس يمجد أسلوب حياته ويقارن تخفيف حركة الامعاء بعد الجماع بالولادة. الشخصية التي تصل تالياً هي  شاب ممتلئ الجسم اسمه أبو السهل. وكما هو الحال عند أرستوفانيس، جميع الأسماء في عمل ابن دانيال هي أسماء كاشفة، عادة مصحوبة بمعان فاحشة أو مثيرة للاشمئزاز. ويوصف أبو السهل بأنه يشبه قضيباً منتصباً، وهو يغني أغنية المفاخرة من رغبته تقديم خدماته ارضاء لرغبات شركائه “. التالي يظهر رجل أسمر نحيل يسمى البدال يأتي شاكياً من الضوضاء المفرطة وفرح بالمأدبة، ولكن بعد ذلك يقرر أن يبقي عندما يغريه قضيب المتيم المنتصب.
 ثم يدخل بلطجي الشوارع، داود القابض، الذي يرثي الأيام الخوالي عندما كانت الشوارع أكثر اعتاماً وكان يسهل الايقاع بالضحايا الجنسيين. الضيف التالي، المستمني، يناقش ملذات المتعة الفردية، ويتباهى بالتمتع به في كل مكان، حتى في الشارع تحت رداء فضفاض. ضيف آخر، الجلاد، يكشف كيف يتسلل إلى منازل مظلمة ويجبر أولئك الذين يكتشفهم هناك على ممارسة الجنس. في الطيور، البطل بيسثيتايروس يسوق أمامه الغزاة الانتهازيين من احتفاله، أما المتيم فيرسل ضيوفه البغيضين بطريقة صارمة بالمثل ولكن أكثر لطفاً، إذ يسقي كلاً منهم شراباً حتى يسقطوا أرضاً ليصنع كومة متزايدة من أجساد السكارى.
 ويختم ثلاثة من الضيوف هذه السلسلة: فالأول، وهو عبد مملوكي، يعلن عن تغيير الحالة النفسية من خلال التعليق على كومة الأجساد الثملة عديمة المعنى التي تضخمت الآن وتمددت مثل القمامة. وعلى الرغم من اشمئزازه، يقبل العبد بكل سرور عديد الكؤوس من النبيذ التي يقدمها له المتيم وسرعان ما يرمي بجسده إلى كومة السكارى. ثم يأتي بعده  الطفيلي، الأكول، (سلهب الطفيلي) الذي هو أقرب إلى تجسيد القرون الوسطى لخطيئته المهلكة تلك، يتباهى بقدرته على أكل أي شيء تقريبا. لقد جاء على أمل العثور على الطعام، ولكن يستقر للشراب، وبدوره ينضم إلى السكارى المتهتكين النائمين.
 ويلي المشاهد ذات البنية الأرستوفانية المذكورة أعلاه الأغنية المرحة الختامية التي تؤديها الجوقة، وغالبا ما تنطوي على احتفال الزواج أو الوليمة، أو الرقص، أو الشراب. وقد يقال ان ابن دانيال قد
دمج بين سمات هذا المرح الصاخب الختامي وبين الكوميديا الأريستوفانية، ولكن هناك مشهداً أخيراً لدى ابن دانيال يحتل في الواقع المساحة البنيوية الخاصة بالمهرجان الختامي الشائع في مسرح أرستوفانيس، في هذا المشهد الختامي المثير، يظهر رجل تبدو على اماراته الوقار واللباقة، الأمر الذي يتناقض بحدة مع الزوار السابقين، ويوقظ الجميع بصرخة مدوية، ويعلن عن نفسه كملاك الموت، آمراً المتيم بالتخلي عن رذائله وبأن يصلي طلباً لرحمة الله قبل الموت. ويوضع جسده في كفن أبيض ويحمل في جنازة.
 هذه النهاية المسرحية والمدهشة للغاية هي أشبه بالانقلاب المظلم المفاجئ في نهاية عمل شكسبير عذاب الحب الضائع  بالمقارنة بأي عمل وصلنا من أرستوفانيس. ولكن حتى هذه النهاية الدينية  بدورها (كل مسرحيات ابن دانيال الثلاثة، على الرغم من محتواها الفاحش بصورة مفرطة المحتوى، تنتهي بتعليق ديني) تحتوي على ما قد يكون أصداء باهتة لممارسات أرستوفانيس على الرغم من أن أرستوفانيس يظل علمانياً مخلصاً، والآلهة التقليدية إذا ما ظهرت، تكون عادة شخصيات ممتعة، ومع ذلك معظم مسرحياته تنتهي بوضع نظام جديد يؤكد في نفس واحد القيم التقليدية. مثال على ذلك موجود في السحب، حيث التدمير العلماني لحانوت الفكر حكم واضح مثل تطهير ماخور المتيم.
كان تحول الشيخ ديموس في مسرحية الفرسان، وانتصار بلوتوس أيضا يؤسسان إقامة نظام أخلاقي متفوق على المجتمعات الفاسدة؛ في الواقع، هذا الموضوع، شائع على نطاق واسع في معظم مسرحيات أرستوفانيس التي بقيت على قيد الحياة. وعلى الرغم من التعليق الديني المدهش الذي أثاره هذا المشهد الختامي، يبقى الحال أن البنية العامة الخاصة بمسرحية المتيم  والنهاية المفاجئة وكل ذلك، لا يزال يحمل تشابه أقرب إلى الكوميديا القديمة أكثر من أي شيء آخر في تاريخ الدراما. ومن الواضح أن هناك سبباً أكثر أهمية بكثير لوصف ابن دانيال ب “أرستوفانيس العرب” من أن كلا منهما كان شاعراً موهوبا مع رغبة غير عادية في استخدام الموضوعات الجنسية والبذاءة.
 وهذا يثير حتما السؤال عن الصلة الفعلية التي قد  توجد بين أعمال الفنانين. إن الفجوة الزمنية والثقافية بينهما تبدو هائلة بالفعل. فقد ازدهر فن أرستوفانيس في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد وابن دانيال أبدع أعماله في نهاية القرن الثالث عشر، أي بعد سبعة عشر قرناً من الزمان، وعلى الشاطئ  الأخر من البحر الأبيض المتوسط. ونظرا لهذا البعد الهائل في الزمن والبعد الكبير في الزمان، تبدو إمكانية أي اتصال بعيدة. ومع ذلك، فإن العلاقة البنيوية الفريدة والتفصيلية بين عمل الكاتب المسرحي المصري الأخير وكوميديات الرائد اليوناني يصعب أن تكون محض مصادفة. دعونا نستكشف بعد ذلك إمكانيات وجود صلة فعلية بين هذين الكاتبين المسرحيين الرئيسيين.
عندما نتأمل العالم الفكري والثقافي والفني لشرق المتوسط خلال العصور الوسطى المتأخرة، وهو مشروع اضطلع به عدد قليل نسبياً من باحثي المسرح، حتى الآن- سوف نجد أن إمكانية وجود صلة مباشرة بين عمل هذين الكاتبين ليست بعيدة تماماً، كما تبدو للوهلة الأولى. وتنشأ احتمالات عديدة من هذا البحث، أولا، ثمة قدر كبير من التراث الفكري اليوناني كان، بطبيعة الحال، لا يزال معروفاً في العالم الإسلامي في القرون الوسطى؛ لقد كان هذا العالم في الواقع، هو العالم الذي حافظ على معظم ما تبقى لنا من الفكر اليوناني. معظم باحثي المسرح يدركون أهمية ابن رشد، الذي عاش في القرن الثاني عشر في دراسة عمل أرسطو والحفاظ عليه للأجيال القادمة.
وتنسب دراسة حديثة لابن رشد الفضل في الترجمات اللاتينية لأرسطو مع صعود الفكر العلمي في عصر النهضة الأوروبية (13). وبطبيعة الحال، كان ابن رشد أكثر حظاً من الشهرة بين أجيال عديدة
من العلماء العرب الذين كرسوا حياتهم لترجمة ودراسة المؤلفين اليونانيين (14). ولا شك في أن شخصية أدبية مثل ابن دانيال عاش بعد ابن رشد بقرن من الزمان، وخاصة عندما كان نشطاً في البلاط  كان يتردد بين أبناء الطبقات العليا في القاهرة، وكثير منهم يملك مكتبات خاصة كبيرة، كان من الممكن الوصول إلى الكلاسيكيات اليونانية. والسؤال الرئيسي هو ما إذا كانت هذه المواد قد شملت الدراما اليونانية وكوميديات أرستوفانيس على وجه الخصوص. للأسف، تبقى إمكانية مجرد امكانية، وليست مما يمكن أن يبدو شديد الترجيح.
 كانت القاهرة، منذ القرن الحادي عشر، واحدة من أكبر المكتبات في العالم العربي، لا يسبقها في المرتبة الا بيت الحكمة في بغداد. وتتراوح تقديرات مجموعتها من 120 ألف كتاب إلى مليوني كتاب، بما في ذلك بلا شك معظم الأعمال اليونانية التي نعرفها (14). للأسف، تم نهب هذه المجموعة الضخمة وتفرقها في عام 1171، عندما استولى صلاح الدين على البلاد. ومع ذلك فإن عدة آلاف من المجلدات لم تدمر بل بيعت على أيدي اللصوص، وبقيت محفوظة في مجموعات خاصة من القراء وعلماء الدين المصريين الأغنياء.
 وظل العديد من هذه الكتب متاحاً عندما وصل ابن دانيال الى القاهرة بعد نحو خمسة وسبعين عاماً. في الواقع، حتى دمر حريق المجموعة في عام 1291، بينما كان ابن دانيال شخصية بارزة في الأوساط الأدبية ودوائر البلاط في القاهرة، كانت قلعة القاهرة تملك مجموعة من حوالي 12.000 كتاب، أكثرها ترجمات للمؤلفين الكلاسيكيين (15)
وكون أي من هذه المواد يحتوي على الدراما اليونانية، مسألة مطروحة للسؤال. في حين أنه من الواضح أن العالم العربي في العصور الوسطى درس وترجم قدرا كبيرا من الكتابات اليونانية، فمن الواضح أيضا كانت الغالبية العظمى من هذا العمل علمية وفلسفية. بعض أساتذة الكلاسيكيات مثل أوليفر أوفيروين Overwien قالوا إن الكوميديا اليونانية، وخاصة أعمال ميناندر، كانت جزءاً من النظام التعليمي الإسلامي في العالم العربي في العصور الوسطى (16) ولكن في حين تشير الأدلة إلى الألفة بهذا التراث عموماً، يبدو النفاذ إلى مسرحيات بعينها، وخاصة مسرحيات أرستوفانيس التي تعتبر صعبة من الناحية اللغوية، حتى بالنسبة للمواطنين المتعلمين تعليماً جيداً في قاهرة القرن الثالث عشر- يبدو من غير المرجح.
ولحسن الحظ، هناك احتمال آخر للصلة يبدو واعداً أكثر بكثير. وهذا يتضمن تتبع الميراث الأدبي اليوناني ليس من خلال العالم العربي، بل من خلال الإمبراطورية البيزنطية. فعلى الرغم من أن بغداد والقاهرة كانتا مركزين رئيسيين للتعليم ولمستودعات النصوص الكلاسيكية في العصور الوسطى، جاء إليهم جزء كبير من هذه النصوص عن طريق بيزنطة، الموقع الذي ربما كان الأكثر أهمية من حيث حفظ هذه النصوص، سواء في المحفوظات الفعلية أو كمواد تعليمية تُدرس باستمرار في المدارس البيزنطية ويدرسها الباحثون البيزنطيون في ضوء استمرار التراث الفكري اليوناني الروماني. من الضروري أن نتذكر أن مصر كانت، في الواقع، جزءا من الإمبراطورية البيزنطية من القرن الثالث إلى القرن السابع، حيث قام بغزوها العرب المسلمون. ولم يؤد هذا التغيير السياسي الكبير بالطبع، إلى تغيير ثقافي شامل، بل في مزج من الثقافة والممارسات والقيم، كما هو الحال دائما.
لا يزال الزمن الذي استمرت خلاله المسرحيات اليونانية تُمثل في الألفية الجديدة في الإمبراطورية البيزنطية - لا يزال مثار جدل، ولكن ألفونس دين Dain جادل بأن هناك فقرات ترد لدى الكاتب شوريكيوس الغزاوي Chorikios of Gaza  في القرن السادس - توفر أدلة قوية على أن ميناندر، على الأقل، كان لا يزال يؤدى حتى ذلك الوقت، (17) عندما كانت مصر لا تزال جزءاً من الإمبراطورية البيزنطية. لم يجادل أي باحث في الثقافة البيزنطية بأنه تم أداء الدراما اليونانية في أي وقت لاحق على هذه الفترة، ولكن الجميع يتفقون على أن هذه الأعمال الدرامية ظلت تُقرأ وتُدرّس في المدارس لبضعة قرون بعد ذلك. وتوضح رسالة من أحد علماء القرن الحادي عشر، المدعو موروبوس Mauropus، أنه بحلول ذلك الوقت كانت قراءة سوفوكليس وأرستوفانيس على وجه الخصوص جزءاً من المناهج المدرسية البيزنطية. وبحلول القرن الثالث عشر، عندما كتب ابن دانيال، شملت المناهج المدرسية ما يسمى الثلاثية، التي تتألف من ثلاث مسرحيات من تأليف إسخيلوس، سوفوكليس، يوريبيدس، وأرستوفانيس.
كانت مسرحيات أرستوفانيس تشمل بلوتوس، والسحب، والطيور. لقد وصل أرستوفانيس على ما يبدو الى ذروة شعبيته في بيزنطة خلال ما يسمى عصر أسرة بالايولوجوس Palaiologos ، بدءاً من عهد الملك مايكل الثامن في عام 1261. مدينة القسطنطينية، التي تضررت بشدة في الحملة الصليبية الرابعة، أعيد بناؤها، وازدهرت فيها الفنون والآداب، وبشكل يهم شواغل هذه المقالة، تطورت الاتصالات الثقافية والدبلوماسية مع المماليك حكام مصر الجدد، وكانت مصر بالمثل مهددة من قبل الصليبيين من الغرب والمغول من الشرق.
 وقد لاحظ العديد من العلماء البيزنطيين ما دعاه مارسينياك Marciniak “شعبية أرستوفانيس المذهلة” (19)  في بيزنطة القرن الثالث عشر، التي فاقت شهرة كتاب التراجيديا بمراحل، كما فاقت شهرة ميناندر الشاحب، الذي كان في ذلك الوقت على وشك أن يطويه النسيان. كان أسلوبه ولغته ينال الاعجاب كثيراً لكن، تشير ليندا جارلاند Garland وغيرها، الى أن فحش وبذاءة أرستوفانيس
كان يتفق تماما مع الذوق الأدبي البيزنطي في تلك الفترة، حتى في الأعمال التي تفضلها الأسرة الإمبراطورية (20) مما أسفر عن فورة الاهتمام بأرستوفانيس في هذه الفترة التاريخية تحديداً مثل عمل ابن دانيال، وعلى الرغم من لم تكن بيزنطة ومصر دولاً متجاورة في القرن الثالث عشر، يمكن للمرء أن يتصور بسهولة ابن دانيال وهو يلتقي المسافرين ذوي الحس الأدبي الذين اطلعوا على أعمال الكاتب المسرحي اليوناني في بيزنطة.
 ومع ذلك، هناك في الواقع طريقة أقرب وأكثر احتمالاً للاتصال: أعني الاتفاقات الدبلوماسية والتجارية بين مصر والقسطنطينية التي أشرت إليها بالفعل. فهناك عدد من الباحثين، وخاصة  بي ام هولت Holt، الذي درس العلاقات الدبلوماسية والتجارية بين سلالتين جديدتين وصلتا إلى السلطة في الشرق الأوسط في عام  1260- مايكل بالايولوجوس الثامن في القسطنطينية والحكام المماليك في القاهرة (21). ورغم عدم وجود رسائل دبلوماسية فعلية في هذه الفترة، فهناك إشارات كافية، في المصادر العربية في المقام الأول، تشير الى أن هناك تبادلاً دبلوماسياً وثقافيا كبيراً ومستمراً منذ عام 1261 فصاعداً (22). وكانت الخطوة الأولى الموثقة في هذا التبادل رسالة (مفقودة حالياً) في 1261 من الإمبراطور البيزنطي الذي يقدم دعمه للحاكم المملوكي الجديد. السلطان المملوكي في المقابل بعث الى الإمبراطور عدداً من الهدايا، بما في ذلك زرافة، ومجموعة من السجناء المغول، وبعض الجياد المغولية بعدتها وعتادها (23)
 وتعتبر معاهدة 1281، أول وثيقة موجودة فيما يتضح أنه تبادل مستمر بين البلدين، وهي  تضمن -من بين أمور أخرى- حرية المرور بين هذه الدول للسفراء والتجار. (24) بحلول هذا الوقت كان السلطان الجديد قلاوون، قد جلس على عرش مصر. وما هو مهم بالنسبة الى بحثنا، ان ابن دانيال قد انتقل إلى دوائر البلاط. وكانت أقدم قصيدة محكمة مؤرخة في هذا العام نفسه قصيدة مَدْح لوزير قلاوون، تاج الدين محمد، الذي يعتبر “شخصاً متعلماً لديه معرفة جيدة بكل ما هو ثقافي.” (25)
على الرغم من أن ابن دانيال يبدو أنه كان لديه القليل من الاتصالات مع السلطان قلاوون نفسه، وهو رجل عسكري لديه القليل من الاهتمام على ما يبدو بأمور الأدب ، كان الشاعر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بولي العهد، الملك الصالح، ومع وزير الصالح القوي، فخر الدين ابن الخليل، وهو واحد من الشخصيات الواقعية القليلة التي تظهر في مسرحيات الظل ويبدو أن هناك بعض التساؤل الذي أثير حول أنه خلال هذه السنوات كان هناك وجود بيزنطي في القاهرة أقوي كثيراً من ذي قبل، ليس فقط بسبب العلاقات الدبلوماسية المتزايدة ، وإنما أيضا بسبب زيادة حجم التبادل التجاري. وكانت بنود المعاهدة التي تم تفعيلها من قبل السلطان ومن قبل الإمبراطور أيضاً توضح أن التجارة ستكون محمية وسوف تكون محل تشجيع. وتنص المادة السابعة من الاتفاقية من جانب السلطان قلاوون على أنه:
“لا ظلم أو قمع يصيب التجار القادمين من مملكة الامبراطور، اللورد مايكل، إلى أراضينا. يجب أن يمروا جيئة وذهابا بأمان وسلام، وممارسة تجارتهم. ويتم تقديم الرعاية لهم في الذهاب والقدوم، الإقامة والسفر. بقدر ما التجار في أراضينا يجب أن يعتني بهم في إقليم الإمبراطور، اللورد مايكل، وضمان ألا يقع أي ظلم أو قمع على أي شخص في أراضي عالم الإمبراطور، اللورد مايكل” (27)
 الموت المفاجئ وغير المتوقع للملك الصالح في 1288، قبل والده بعامين، جعل الخلافة لشقيقه الأصغر، الأشرف خليل. وعلى الرغم من انشغاله الشديد في الشؤون العسكرية، ترأس خليل أيضا حاشية البلاط الرائعة التي كان ابن دانيال شخصية أدبية بارزة فيها. وعلى الرغم من سمعته الفاحشة، الا انه تم تعيينه رقيباً ملكياً، وهي وظيفة كان ينفذها على ما يبدو دون أن يفقد الصداقة الوثيقة مع أقرانه من الشعراء.(28)
تم اغتيال خليل في عام 1293، مما أنهى سنوات ابن دانيال العظيمة في البلاط. واستمر الشاعر في كتابة أشعار احتفالية للنخبة العسكرية، الحكام الأثرياء، والأعيان، ورجال الدين. ومن بين هؤلاء  كان ذلك الراعي المجهول الذي طلب من ابن دانيال تأليف ثلاث مسرحيات “أدبية” لخيال الظل. التاريخ الدقيق لهذه المسرحيات غير معروف، ولكن على الرغم من أنها تحتوي على قصائد قد تعود إلى سبعينيات القرن الثالث عشر، فإن شكلها النهائي يفترض أن يؤرَّخ قريباً من نهاية القرن (29). وهكذا، كانت البنية الخاصة التي استخدمها ابن دانيال في آخر هذه المسرحيات ستستخدم ليس بعد فترة طويلة من عمله في البلاط عندما كان على صلة وثيقة بالشخصيات الأدبية الرائدة في القاهرة، وكذلك مع الدبلوماسيين وممثلي البلاط البيزنطي. ومن المرجح جدا أنه كان على صلة أيضاً  بالتجار البيزنطيين والمسافرين الآخرين في نفس الفترة التي كانت فيها العلاقات بين ذلك البلاط والقاهرة علاقات  متينة .
 وبالنظر إلى أن هذه أيضا كانت هي الأعوام التي كان أرستوفانيس فيها يتمتع  بشهرة هائلة في الدوائر الأدبية البيزنطية، أكبر بكثير من تلك التي اكتسبها أي كاتب مسرحي كلاسيكي آخر، وأن الكاتبين كانا محط أعجاب بنفس القدر بسبب أسلوبهم الشعري، والفحش الشديد، يكون  من المعقول بالتأكيد أن نخمن أن ابن دانيال قد تلقى أيضاً خلال سنوات البلاط معلومات عن هذا الكاتب الدرامي، سواء من خلال صلاته الأدبية أو داخل البلاط. وبالتالي، فإن التشابه البنيوي الصارخ بين  مسرحيته الأخيرة وبين كوميديا أرستوفانيس قد لا تكون على الإطلاق مجرد صدفة غريبة، ولكن يبدو أنه من المحتمل جدا أن يكون نتيجة اتصال مباشر، وان يكن بالمصادفة. إذا كان الأمر كذلك، والأدلة الظرفية معتبرة، فإن هنالك أكثر من سبب لوصف هذا الكاتب الدرامي الذي ينتمي الى القرن الثالث عشر، ب “أرستوفانيس العرب”.
   
ملاحظات
12 Liz Sonneborn, Averroes (Ibn Rushd): Muslim Scholar, Philosopher, and Physician of the
Twelfth Century (New York: Rosen, 2006), 89.
 13 See, for example, Jonathan Lyons, The House of Wisdom: How the Arabs Transformed Western Civilization (Edinburgh: Bloomsbury, 2009).
 14 Josef W. Meri and Jere L. Bacharach, eds. Medieval Islamic Civilization: An Encyclopedia,
2 vols. (London: Taylor and Francis, 2006), 1: 431.
 15 The Encyclopedia of Library and Information Science, 3rd ed. (London: Taylor and Francis,
2010), 122.
 16 Oliver Overwien, “Humor aus der Antike in der mittelalterlichen Arabischen Literatur,” in
Humor in der Arabischen Kultur, ed. Georges Tamer (Berlin: Walter de Gruyter, 2009), 107–26 (126).
 17 Alphonse Dain, “La survie de Ménandre,” Maia 15 (1963): 278–309 (299).
18 N. G. Wilson, Scholars of Byzantium (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1983), 25.
 19 Przemyslaw Marciniak, Greek Drama in Byzantine Times (Katowice: Wydawnictwo
Uniwersytetu Slaskiego, 2004), 47.
20 Lynda Garland, “‘And His Bald Head Shone Like a Full Moon…’: An Appreciation of the
Byzantine Sense of Humour as Recorded in Historical Sources of the Eleventh and Twelfth Centuries,”
Parergon, New Series 8 (1990): 1–31 (4). See also Barry Baldwin, “A Talent to Abuse: Some Aspects
of Byzantine Satire,” Byzantinische Forschungen 8 (1982): 19–28 (24), and Marciniak, 50.
 21 P. M. Holt, Early Mamluk Diplomacy (1260–1290): Treaties of Baybars and Qal.w.n with
Christian Rulers (Leiden: Brill, 1995).
 22 See Reuven Amitai, “Diplomacy and the Slave Trade in the Eastern Mediterranean: A Re-
examination of the Mamluk-Byzantine-Genoese Triangle in the Late Thirteenth Century in Light
of the Existing Early Correspondence,” Oriente Moderno, New Series 88 (2008): 349–68.
 23 Holt, 118.
 24 Amitai, 364.
 25 Guo, 38.
 26 Ibid., 45.
 27 Holt, 127.
 28 Guo, 62–63.
 29 Ibid., 93.


سباعي السيد