المجهول حول رفض تمثيل مسرحية الحسين (3)

 المجهول  حول رفض تمثيل مسرحية الحسين (3)

العدد 593 صدر بتاريخ 7يناير2019

تحدثنا في المقالتين السابقتين عن قيام عبد الرحمن الشرقاوي بنشر مسرحيته «ثأر الله» في جريدة الجمهورية عام 1968، وأن الجريدة نادت بتمثيلها على خشبة المسرح، مما أثار حفيظة الإسلاميين، فصدرت فتوى الأزهر بمنع تجسيد الصحابة والخلفاء الراشدين، وكذلك شخصيتي الحسن والحسين على خشبة المسرح! ونتج عن هذه الفتوى صراع وحملات صحافية، انتهت بإحباط محاولة كرم مطاوع لإخراج المسرحية على مسرح حديقة الأزبكية عام 1970. ورغم ذلك فهناك محاولة أخرى لإخراج هذه المسرحية حدثت عام 1987، وأغلب أحداثها ووثائقها غير معروفة وغير منشورة، وهذا هو موضوعنا اليوم!!

الشرقاوي يستسلم
كان حلم عبد الرحمن الشرقاوي رؤية مسرحيته «الحسين» معروضة على خشبة المسرح؛ ولكن فتوى الأزهر، وقرارات مجلس البحوث الإسلامية منعته من تحقيق حلمه، لا سيما بعد تبني وزارة الثقافة قرارات الأزهر، وأصدرتها في قرار وزاري رقم 220 لسنة 1976، يفيد «عدم الترخيص بعرض أو إنتاج أو إعلان عن أي مسرحية، إذا تضمنت أمرًا من الأمور الآتية: إظهار صورة الرسول – صلى الله عليه وسلم - صراحة أو رمزًا، أو صور أحد من الخلفاء الراشدين وأهل البيت والعشرة المبشرين بالجنة أو سماع أصواتهم وكذلك إظهار صورة السيد المسيح أو صور الأنبياء عمومًا، على أن يراعى الرجوع في كل ذلك إلى الجهات الدينية المختصة».
وأمام ذلك، استسلم عبد الرحمن الشرقاوي للفتوى ولأوامر مجلس البحوث الإسلامية بالأزهر، ولقرار وزارة الثقافة، فغيّر اسم المسرحية إلى «الحسين الإمام الشهيد»، وكتب مقدمة جديدة في صفحتين – لم ترد في النص المنشور – ووقع عليها، وهذا نصها:
(يظهر الراوي على المسرح في الملابس العصرية المألوفة) – الراوي: سنمثل قصة إنسان عربي ثائر... فقد تهدي إنسان العصر وتنير طريق القلب الحائر.. وهي تراث إسلامي.. ومع ذلك فهي تهم الناس جميعًا مهما يختلفوا.. فالبطل تراث إنساني.. واستشهاد المرء دفاعًا عن إيمانه، فيه الأسوة والقدرة.. وهو فخار الإنسانية.. لكنكم لن تروا البطل الليلة.. سأروي عنه.. وأظهر في الوقت المقدور له أن يظهر.. وسأسبق كل كلام البطل بهذا القول: (يقول الحسين) و(رد الحسين) و(فقال الحسين).. ولكن كي لا أزعجكم أثناء العرض وكي لا أفسد الاسترسال أو العبرة فقد يكفي أن أذكر هذا عدة مرات لا أكثر.. أنا لست أمثل هذا الدور.. ولكني أروي ما قال وما فعل.. فأنا راو لا غير...
(تظهر على المسرح الراوية في الملابس المصرية العادية المألوفة والمحتشمة) – الراوية: وسأروي أنا عن أخت البطل.. سأردد كلمات البطلة ولن تروا البطلة أبدًا في أية ليلة.. وسأسبق كل كلام البطلة قائلة: (قالت زينب.. ردت زينب)؛ ولكني لا أزعجكم أثناء العرض أنا أيضًا. فيكفيكم أن أذكر هذا عدة مرات.. والمرة قد تغني أحيانا عن عشرات.. أنا لست بزينب سيدتي الطاهرة القلب.. أنا لست أمثل هذا الدور ولكني راوية عنها.. راوية عنها، فلنذكر..
الراوي والراوية: والان ستبدأ أحداث المأساة.. الآن سيمثلها الأبطال جميعًا.. إلا نحن.. فنحن سنروي عن بطليها.. سنروي ما قال البطلان.
شيخ الأزهر مرة أخرى
تقدم عبد الرحمن الشرقاوي يوم 16 / 12 / 1986 بنسخة المسرحية المعدلة، مع خطاب إلى شيخ الأزهر لأخذ موافقته على النص الجديد. وبعد أربعة أشهر – وتحديدًا يوم 11 / 3 / 1987 - جاءه الرد من الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، هذا نصه: «السيد الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي.. جريدة الأهرام – القاهرة. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد: فبناء على خطابكم المؤرخ في 14 من ربيع الثاني 1407 الموافق 16 من ديسمبر (كانون الأول) 1986، والمقدم إلى صاحب الفضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر بشأن النظر في نص مسرحي يقدمه المسرح القومي. أمر فضيلته بتشكيل لجنة من أعضاء مجمع البحوث الإسلامية للقيام بهذه المهمة. وأرجو أن أحيطكم بما رأته اللجنة للموافقة على عرضها:
1 – أن يغير اسمها إلى عنوان (الحسين سيد شباب أهل الجنة).
2 – أن يتم تنفيذ الاشتراطات التي وافقتم عليها من قبل ومنها أن لا يظهر في المسرحية من يمثل شخصية الإمام الحسين ولا شخصية السيدة زينب رضي الله عنهما ولا شخصية صحابي من العشرة المبشرين بالجنة، وهم: الخلفاء الراشدون الأربعة، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبد الله، والزبير بن العوام، وسعيد بن زيد بن نفيل.
3 – أن يراعي حذف المناظر المؤذية الخاصة بيزيد.
4 – أن تحذف الألفاظ التي تمس حرمة بعض المقدسات الإسلامية كمثل مقولة: (إنه كان يصلي تحت ردف جارية)، وذلك احترامًا للصلاة نفسها من أن تقرن بمثل هذه الأوصاف.
5 – ألا يظهر الراوي الذي يروي كلام الإمام الحسين وكلام السيدة زينب رضي الله عنهما على خشبة المسرح، وإنما يسمع الصوت فقط مسبوقًا بكلمة: قال الحسين، أو قالت السيدة زينب..
6 – أن تشاهد اللجنة المقترحة والمعتمدة من فضيلة الإمام الأكبر تجربة عرض هذه المسرحية وأن توافق عليها وتقدم تقريرها بذلك إلى الإمام الأكبر لاعتماده قبل أن تقدم في عرض عام.. ونرجو لكم من الله التوفيق والسداد.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. [توقيع] أ.د عبد الفتاح عبد الله بركة.. الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية.
وما زال الأمل معقودًا
من الواضح أن عدم ظهور شخصيتي الحسين والسيدة زينب على خشبة المسرح، سيذهب بقيمة العرض، ولن يغري أي مخرج بإخراج العرض، ولن يغري الجمهور بالحضور!! ورغم ذلك كان الشرقاوي يأمل في ظهور الراوي والراوية تعويضًا عن ظهور الحسين والسيدة زينب؛ ولكن الشروط الجديدة للأزهر منعت حتى ظهور الراوي والراوية نهائيًا!! وعلى الرغم من امتثال الشرقاوي لهذا الأمر؛ إلا أنه تشبث بأمل موافقة الأزهر على ظهور الراوي والراوية!! وهذا الأمر عرفناه من خطاب جديد، أرسله الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية إلى عبد الرحمن الشرقاوي في 21 / 3 / 1987، قال فيه:
«السيد الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد: فبالإشارة إلى كتاب الأمانة العامة للمجمع المؤرخ في 11 من رجب 1407، الموافق 11 من مارس (آذار) 1987.. وإلى محادثتكم التليفونية بتاريخ اليوم يرجى الإحاطة إنه عندما تشاهد اللجنة المقترحة والمعتمدة من فضيلة الإمام الأكبر عرض تجربة المسرحية وترى أن ظهور الراوي عن الإمام الحسين والراوية عن السيدة زينب – رضي الله عنهما – على خشبة المسرح لن يخل بالشرط المتفق عليه وهو أن لا يظهر في المسرحية من يمثل شخصية الإمام الحسين والسيدة زينب – رضي الله عنهما – ولا شخصية صحابي من العشرة المبشرين بالجنة فإنه يمكن عندئذ رفع القيد الخاص بعدم ظهور الراوي الذي يروي كلامهما على خشبة المسرح.. ونرجو لكم التوفيق والسداد.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. [توقيع] أ.د عبد الفتاح عبد الله بركة، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية».
وبناء على هذا الخطاب، اكتشفنا أن الأزهر اشترط لظهور الراوي والراوية من عدمهما، وجود (بروفة) للعرض كاملة، تراها لجنة الأزهر، ومن ثم تقرر الموافقة أو عدم الموافقة على ظهور الراوي والراوية!!
محاولة المسرح الحديث
تصدى الفنان محمود الحديني - عندما كان مديرًا عامًا للمسرح الحديث - لمحاولة إنتاج وعرض المسرحية، وكتب خطابًا رسميًا إلى مديرة الرقابة في يوليو (تموز) 1987، قال فيه: «أرجو من سيادتكم التفضل بإصدار أمركم لقراء مسرحية (الحسين) للكاتب والأديب الكبير الأستاذ / عبد الرحمن الشرقاوي وذلك للموافقة عليها تمهيدًا لاتخاذ الإجراءات التنفيذية لبدء إنتاجها لتعرض في أول أكتوبر (تشرين الأول) 1987 في افتتاح الموسم المسرحي للمسرح الحديث. ومرفق مع خطابنا الموافقة المبدئية من مجمع البحوث الإسلامية مكتب الأستاذ الأمين العام بالأزهر على المسرحية وملحقة بكل نسخة من نسخ المسرحية الثلاث. مع جزيل شكري وتقديري. [توقيع] محمود الحديني، مدير عام المسرح الحديث».
قامت مديرة الرقابة، بتوزيع النسخ على الرقباء، وبعد شهر تقريبًا كتبت تقريرها النهائي، قالت فيه: «مسرحية (الحسين الإمام الشهيد) تأليف عبد الرحمن الشرقاوي. المسرحية سبق الترخيص بها باسم (ثأر الله)، وقد وافق الرقباء: لواحظ عبد المقصود بملاحظات، وإيناس إبراهيم بدون ملاحظات، وعصام عبد العظيم بملاحظات الأزهر. ولما كان النص قد ورد مع صور مكاتبات الأزهر للمؤلف، والذي كان قد قدم النص لمجمع البحوث الإسلامية التي وافقت على العرض بملاحظات بعضها مثبت في الخطاب والآخر مشار إليه في خطاب آخر، لذلك أرى الموافقة على ترخيص النص في حدود ملاحظات مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر وشروطه المشار إليها مع المؤلف...».
وبذلك نال النص الترخيص بعرضه تحت رقم 184 بتاريخ 26 / 8 / 1987، وهو الترخيص الذي لم يقدم جديدًا، ولم يسمح بظهور الراوي والراوية، مما يعني منع العرض فعليًا مع الترخيص بعرض المسرحية شكليًا!! والغريب أن المسرح الحديث لم يعرض المسرحية، ولم يعرضها أي مسرح آخر حتى الآن!! والحجة المعلنة: إن تكاليف إنتاج العرض ضخمة جدًا، وهذه حجة واهية، لأن الحقيقة أن المسرحية غير مسموح بعرضها، بسبب الفتوى القديمة، وشروط مجمع البحوث الإسلامية.
محاولة أخيرة
آخر محاولة لعرض المسرحية، قام بها الأستاذ جلال الشرقاوي عام 2000، عندما تأكد أن الرئيس حسني مبارك يمهد الطريق لتوريث الحكم لابنه جمال مبارك، فوجد تشابهًا بين هذا التوريث، وبين التوريث الذي جاء في المسرحية، عندما أراد معاوية توريث الملك لابنه يزيد، فأخذ البيعة من الجميع، وامتنع عن المبايعة الحسن والحسين. بهذا التصور، قام الشرقاوي بإعداد المسرحية، بحيث يجسد الشخصيات الدينية كاملة – دون الاستعانة بالراوي أو الراوية – واختار الفنانة سهير البابلي للقيام بدور السيدة زينب. وبدلاً من الذهاب إلى الرقابة، ذهب مباشرة إلى شيخ الأزهر، وعرض عليه الفكرة، فقال له الشيخ: يجب أخذ موافقة مجمع البحوث الإسلامية!! وبدأت حملة ضد العرض قبل اجتماع المجمع، فطلب الشرقاوي حضور اجتماع المجمع، الذي عقد يوم 26 / 10 / 2000. ودار النقاش بين جلال الشرقاوي وبين أعضاء المجمع، الذين أبانوا عن رفضهم لعرض المسرحية؛ لأنها تثير الفتنة بين السنة والشيعة، وتحرض الجمهور على الوقوف أمام الحاكم، وتوجه الإساءة إلى بعض الصحابة. كما قال أحدهم: إن اليهود سيستغلون هذا العرض وما يحدث للحسين، ويقولون إنهم أرحم على المسلمين من المسلمين على أنفسهم. وانتهى الاجتماع برفض الفكرة والنص والعرض.. كما هو متوقع!! هذا ما رواه جلال الشرقاوي في لقاء تلفزيوني مع هالة سرحان، والمحفوظ حتى الآن في اليوتيوب.
خاتمة
هذه كانت رحلتنا طوال ثلاث مقالات حول مسرحية «ثأر الله» لعبد الرحمن الشرقاوي، والتي نحتفل بذكرى مرور خمسين سنة على تأليفها!! خمسون سنة مرت على تأليف المسرحية، ولم تر النور حتى الآن، منذ أن حاول كرم مطاوع عام 1970 إخراجها!! كان حلم مؤلفها أن يراها مجسدة على خشبة المسرح، فذهب الحلم ومات صاحبه، وستظل المسرحية أمل كل مخرج في أن يخرجها بشخصياتها الحقيقية، ليشاهد الجمهور سيدنا الحسين يتحرك ويتكلم، ويرى السيدة زينب تتحدث وتتحرك، دون أن يتحدث بلسانهما راو وراوية.. ألم تكن هذه دعوة جريدة الجمهورية عام 1968؟! ألم يكن هذا حلم كرم مطاوع عام 1970؟ّ ألم يكن هذا حلم محمود الحديني عام 1987؟! ألم يكن هذا حلم جلال الشرقاوي عام 2000؟!!
أما آخر سؤال سأطرحه: لماذا هذه الضجة والأزمة، التي استمرت خمسين سنة من أجل عدم تمثيل مسرحية (الحسين) لعبد الرحمن الشرقاوي؟؟ هل لأن الشرقاوي أول من تجرأ على الشخصيات الدينية، وحاول تجسيد شخصية الحسين – رضي الله عنه – على خشبة المسرح؟! أم لأنه ليس من رجال الأزهر؟! وهل لو كان الشرقاوي أزهريًا، كان الأزهر وافق على عرض مسرحيته؟! قبل أن تفكر عزيزي القارئ في الإجابة على هذا السؤال، إليك هذا الخبر – الذي أختتم به هذه السلسلة من المقالات – والمنشور عن شيخ أزهري اسمه (عبد الله عفيفي)!! وهو خبر نشرته جريدة المقطم عام 1934، تحت عنوان (مصرع الحسين)، هذا نصه: «علمنا أن الأستاذ عبد الله عفيفي مؤلف رواية (الهادي)، يشتغل الآن بوضع رواية أخرى عن (مصرع الحسين)، ينوي تقديمها إلى مسرح رمسيس لتمثيلها. وهي أول رواية فيما نعلم عن هذه المأساة التاريخية الإسلامية».
 

 


سيد علي إسماعيل