دور الخيال في الأداء المسرحي (1-2)

 دور الخيال في الأداء المسرحي (1-2)

العدد 542 صدر بتاريخ 15يناير2018

طبقا لقاموس المفردات Artlex المتاح على شبكة الإنترنت، فإن ما يميز كلمة «أداء performance» عن كلمة «مسرح theater» هو أن الأداء المسرحي يقدم إيهاما بأحداث، بينما تقدم كلمة «فن الأداء performance art» الأحداث الفعلية ذاتها باعتبارها فنا. وهذا المفهوم للمسرح له تاريخ طويل، قد يعود إلى (أفلاطون) على الأقل، ولا سيما أن افتراض أن الأداء المسرحي يقدم أحداثا إيهامية في مقابل الأحداث الحقيقية كان اعتقادا تقليديا في نظريات القرن العشرين، بداية من البنيويين في مدرسة براغ مرورا بالفلسفة الوجودية والظاهراتية، وبشكل أكثر تأكيدا في نظريتي ما بعد البنيوية والسيميوطيقا. ولا شك أن الرؤية المعيارية هي أن الأداء المسرحي هو نوع من النص الذي يهدف أساسا إلى تمثيل عالم خيالي غائب، ومشاهدين يفحصون بعناية أحداثا فعلية وصولا إلى الخيال. وهدفي هنا أن أقدم بديلا متماسكا لهذه الرؤية المعيارية. ولا سيما أنني سوف أبرهن أنها سوف تربط العلاقة بين الأداء المسرحي والخيال والعكس. فالمسرح موجود في عالم السينما والفيديو، لأنه واقعية الحدث المسرحي مهمة. فالمشاهد يذهب إلى المسرح لمعايشة حدث حقيقي، ويشاهد الممثلين بأجسامهم المادية وهم يؤدون أفعالا حقيقية. والخيال في المسرح مهم لكنه ليس غاية في ذاته، فهو ليس مجرد محتوى يستنتج منه المشاهدون الأداء. الخيال يتوظف باعتباره القالب الإدراكي الذي يزود إدراك المشاهدين بالحقيقة التي تحدث على خشبة المسرح ويبني المعنى ويقدمه للأحداث الفعلية التي تجري على خشبة المسرح. وعندما يتوظف الخيال بهذه الطريقة أسميه «داخل الخيال infiction».
وتفسيري الذي سوف أطوره هنا ينحاز إلى الفهم الأحادي للتمثيل الذي أدخله (فيتجنشتاينWittgenstein) في تحليل «رؤية الصور seeing aspects». وبعد التعريف المختصر للافتراضات الثنائية التي يندرج تحتها معايير فهم التمثيل المسرحي theatrical representation، سوف أقدم رؤية عامة للتقاليد الأحادية التي ظهرت في آراء (فيتجنشتاين) في فلسفة الفن، وفي النهاية أقدم نظريتي في سياق التقاليد الفلسفية الجديدة المنسوبة إلى (فيتجنشتاين).
  الرؤية المعيارية: الفن كوسيلة نقل سيميوطيقية
في مسرحية (سارتر) «كين Kean» يشير الأمير إلى إدموند كين بأنه «شبح» وتجيب إيلين «شبح»؟.. إذن هل كين ليس إنسانا؟ فينطق الأمير «بالطبع لا يا سيدتي.. إنه ممثل». وبشكل غير مفاجئ، تردد ملحوظة الأمير هنا صدى نظرية (سارتر) نفسه في المسرح. إذ يؤكد (سارتر) أن فعل التخيل الجمعي الذي يحول الممثل «كين» إلى شخصية «هاملت» ينفي الإنسان الحقيقي، ويقدمه باعتبار أنه غير حقيقي (خيالي) مثل الشخصية التي يجسدها. فـ(سارتر) يرى أن التحول الذي يحدث هنا مثل التحول الذي يحدث في الحلم: يتأثر الممثل بالخيالي وينغمس فيه تماما. فلن تكون الشخصية هي الشيء الحقيقي داخل الممثل، بل إن الممثل هو الذي يصبح غير حقيقي داخل الشخصية التي يجسدها. ويتبنى المتخصصون في السيميوطيقا موقفا مماثلا. إذ يستشهد «مارفن كارلسونMarven Carlson» بوصف (بيتر هاندكه Peter Handke) لخشبة المسرح بأنها المكان الذي يتظاهر فيه كل مقعد بأنه مقعد مغاير، وكل سطوع لضوء بأنه آخر مغاير. وطبقا لهذه الرؤية، تفترض الأحداث التي تدور على خشبة المسرح معنى مغاير بقدر ما تدل المشاهدين على حدث آخر، خيالي غالبا وغائب دائما. فالمشاهد ينظر إلى خشبة المسرح لكي يستشرف ما وراءها. وفي أثناء الأداء يمتنع الممثلون عن الوجود باعتبارهم أنفسهم، ويصبحون بديلا لآخرين غائبين أو غير موجودين.
وقد حاول بعض المتخصصين في سيميوطيقا المسرح مثل (جان ألتير Jean Alter) و(أندريه هيلبو Andre Helbo) التوافق مع فعلية الحدث المسرحي في نظريتيهما عن المسرح. ولكن تظل الثنائية الأساسية بين «الحقيقي وغير الحقيقي» التي تخضع لها نظرية (سارتر) موجودة في المسرح: يفهم هذان المنظران حدث الأداء باعتباره حقيقيا بقدر عدم ارتباطه بالقصة. إذ تتكون فعلية الحدث المسرحي، وفقا لهذه الرؤية، من الممثل بوصفه ممثلا. فمثلا، عندما أدت الممثلة (هيلين هانت Helen Hunt) دور «فيولا» في مسرحية «الليلة الثانية عشرة» في مسرح مركز لنكولن، كان حضور (هيلين هانت) فعليا على خشبة المسرح، ولم يكن حضور «فيولا» كذلك. وطبقا للرؤية التقليدية، يجب علينا كمتلقين أن نختار إما أن نركز انتباهنا على العالم الحقيقي الذي يضم الممثلة (هيلين هانت) أو نركز على العالم التمثيلي الذي يحتوي الشخصية «فيولا». وهذان المستويان منفصلان ومتوافقان إدراكيا. ويعبر (هيلبو) عن هذه الرؤية التقليدية عندما يؤكد أن العلامة والرغبة، والمعنى والإنكار، يتلاقون داخل الممثل باعتباره حضورا ماديا حقيقيا، ويتلاقون في نفس الوقت أيضا مع المفهوم السردي للقصة الذي ينكر هذا الحضور. وبالمثل، يميز المنظر السيميوطيقي (جان ألتير) بين ما يسميه الوظيفة الإشارية للأداء، بمعنى تمثيل الأداء للقصة والوظيفة الأدائية التي تتضمن عرض المؤدين لمهارات مادية وخيالية في اللحظة المسرحية «هنا والآن»، وكذلك أيضا الحضور الحسي المثير لأجسام الممثلين أنفسهم. وطبقا لـ(ألتير) لا تفسر الوظيفة الأدائية شفرات الأداء عندما تتحول إلى دوال نقية خالية من وظيفتها الإشارية. ومع حظر غموض الدلالة، يشير كل شيء على خشبة المسرح في هذا النسق إلى صورة المرآة في مكان ما متخيل خارج خشبة المسرح.
وقد تكررت محاولات اعتراف (هيلبو وألتير) بحضور المؤدي في النظريات السيميوطيقية مثل الموضة، لأن السيميوطيقا قد خبت في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات. ومنذ ذلك الحين، أكد المنظرون بشدة على الطبيعة الأدائية للعرض المسرحي فضلا عن وظيفته الاتصالية. ورغم ذلك، يركز أغلب هؤلاء المنظرين انتباههم على أشكال الأداء غير المسرحية، مثل المظاهرات وفنون الأداء وتأسيس نوع الجنس في العالم الحقيقي، ولم يهتموا كثيرا بظاهرة المسرح. ورغم ذلك، لا يوجد بديل واضح للنموذج السيميوطيقي يفسر العلاقة بين الأدائية والخيال في المسرح. ولعل أكثر المحاولات تأثيرا التي يمكن أن تتشبث بأداء درامي زاخر بالأحداث هي تحليل (برت أو ستاتس Bert O states) الظاهراتي للمسرح في دراسته «تخمينات كثيرة في أماكن صغيرة Great Reconings in little rooms». إذ يعيب (أو ستاتس) على السيميوطيقا ثقتها المبالغة في تنائجها: بمعنى اعتقادها الضمني أنك تستنفذ الاهتمام بالشيء عندما تشرح عملها كعلامة. ويذكرنا (أوستاتس) أن المسرح – بخلاف القصة وفن التصوير الزيتي والنحت والسينما – هو اللغة التي تتكون من الأشياء كما تبدو للحواس. ففي المسرح، تقترب الصورة من الشيء، والتظاهر من المتظاهر، ووسيلة نقل العلامة من المضمون بشكل غريب. وربما نقول بصراحة أنه من المحتمل أن يؤدي فعل اللقاء التلقيحي بين علامتين في المسرح إلى حمل حقيقي. ومع ذلك يسلم (أو ستاتس) بأن العلاقة بين حدث المسرح وحدث القصة هي حدث سيميوطيقي. فبالنسبة لـ(أوستاتس) تبدأ الظاهراتية عندما تنتهي السيميوطيقا. لأن المتلقين يفترضون منظورا ظاهراتيا عندما يرون طفلا أو حيوانا على خشبة المسرح. وفي مثل هذه الحالات، تهتز الأرضية ونصاب بالفزع بشكل ممتع رغم ذلك، بسبب الزيادة المفاجئة في الحقيقي داخل دائرة الخيالي السحرية، حيث تطمئننا التقاليد المسرحية أن الحقيقي يتم إخضاعه وإعلاؤه. وهنا نلاحظ أن (أو ستاتس) يحافظ على الانقسام الأساسي بين حقيقة حدث الأداء والعالم الخيالي الذي يمثله هذا الحدث. لدرجة أننا نهتم بالخيال ونخضع العالم الحقيقي ونعليه، فبقدر اهتمامنا بعالم خشبة المسرح الحقيقي ينصرف انتباهنا عن الخيال. وينسب الافتراض الذي يتضمن كل هذه الرؤى إلى مفهوم (كوليردج) الذي يرى أن المتلقين يؤجلون بإرادتهم عدم التصديق عندما يواجهون الأعمال الخيالية. وبالمقارنة، سوف اقترح أن المتلقي لا يحتاج ولا يريد، بشكل نموذجي، أن يكبت حقيقة حدث المسرح لكي يهتم بالسرد الخيالي. فالسرد الخيالي هو الصورة المكملة لإدراك المشاهد للأحداث الفعلية التي تجري على خشبة المسرح.
 * نظريات التمثيل وفقا للنزعة الجديدة المنسوبة إلى فيتجنشتاين
يطور المتخصصون في علم الجمال، مثل (اي.ر.جومبريتش E.R.Gombrich) و(فيرجيل ألدريتش Virgil Aldrich) و(ريتشارد فولهايم Richard Wollheim) وأخيرا (كيندال والتون Kindall Walton) نظريات تمثيل تتحدى الثنائية المتضمنة في الرؤية السيميوطيقية. فبدلا من رؤية الأعمال الفنية التمثيلية باعتبارها علامات، تفترض هذه النظريات أن هذه الأعمال تحيي ظاهرة مماثلة أو متطابقة مع تلك التي اكتشفها (فيتجنشتاين) في الجزء الأخير من كتابه «بحوث فلسفية Philosophical Investigations» (وفي كتب أخرى): حول «رؤية الشيء» أو «رؤية الشيء وكأنه..». وهذه النقلة النموذجية البسيطة لها تضمينات بعيدة المدى في نظرية التمثيل المسرحي.
والمثال النموذجي الذي يقدمه (فيتجنشتاين) «لرؤية الشيء وكأنه» هو صورة «الأرنب/ البطة» الكلاسيكية التي يمكن أن نرى من خلالها الرسم إما بطة أو أرنب. فما الذي يحدث بالضبط عندما نتحول من تفسير إلى الآخر؟ بالتأكيد لا يلاحظ (فيتجنشتاين) الخطوط الفعلية على الورقة. ورغم ذلك، فإن التغير ليس فقط فيما تعنيه الخطوط، فالصورة تبدو مختلفة اعتمادا على ما إذا كنا نعتبرها بطة أو أرنبا إذ تمر تجربتنا البصرية بتحول. وبذلك يفترض مفهوما البطة والأرنب أشكالا مختلفة للصورة، فالصورة تقدم خطوطا تسمح لنا أن نرتبها علي الورقة بطريقة مختلفة.
ويتأمل (فيتجنشتاين) حالة رسم تخطيطي بسيط لوجه يتكون من بضعة نقط وخطوط داخل دائرة. فيشير قائلا «في بعض الأحيان أقف أمام صورة الوجه وكأنني أقف أمام وجه إنسان. وأستطيع أن أفحص تعبيره وأتفاعل معه مثلما أتفاعل مع وجه إنسان. فالطفل مثلا يستطيع أن يتحدث إلى صور البشر والحيوانات ويعاملها كما يعامل الدمى. وهذا الرسم ليس شريحة فارغة يمكنني أن أسقط عليها أي شيء، إنه وجه محدد بتعبير محدد. ويمكننا بالطبع أن نصف هذا التعبير. ويقدم (فيتجنشتاين) نفسه وصفا طريفا لصورة الوجه البسيطة في «الكتاب البني The Brown Book»، «إن الوجه يشبه رجل أعمال يبتسم متغطرسا في غباء، ويتخيل أنه قاهر النساء رغم بدانته». ومع ذلك يؤكد أن أي وصف لا ينقل سوى انطباع تقريبي للوجه. وفي النهاية ليس للوجه سوى هذا التعبير. ويقول (فيتجنشتاين) «ما يحدث هنا، إن جاز التعبير، هو فعل لهضم هذا التعبير أو الإمساك به». وعلى أساس رؤية (فيتجنشتاين)، عندما نرى صورة باعتبارها وجها، فإننا، على أية حال، ننفي الخطوط المادية على الصفحة، ولا نفرض عليها صورة معينة، ولا نترجمها إلى صورة أخرى. وفي كتابه «الملاحظات Zettle» يقول (فيتجنشتاين):
 «لسنا مضطرين إلى ترجمة هذه الصورة إلى صور حقيقية لكي نفهمها بشكل أكبر من ترجمة الصور الفوتوغرافية وصور الأفلام إلى صور ملونة رغم أن صور الناس أو النباتات الأبيض والأسود يمكن أن تثيرنا باعتبارها صورا غريبة أو مخيفة بشكل رديء».
فـ«رؤية الشيء وكأنه» هي ببساطة طريقة في الرؤية؛ إذ إن كل رؤية، كما يشير (كانت)، هي بالضرورة رؤية مشبعة بالتخيل أصلا.
ويشترط (شارلز ساندرز بيرس Charles Sanders Peirce) أن تستطيع العلامة أن تمثل الشيء وتعبر عنه، لكنها لا تستطيع أن تقدم المعرفة أو الوعي بهذا الشيء. وقوة تحليل (فيتجنشتاين) هي بالتحديد من أجل تأكيد أن ظاهرة «رؤية الشيء وكأنه» تزودنا بشيء غائب (التعبير علي الوجه الغائب مثلا)، وأنها لا تمثل أي شيء آخر. وتظهر هذه الفكرة بشكل أوضح عندما نتأمل تعريف (أمبرتو إيكو Umberto Eco) للسيميوطيقا الذي يلتزم منطقيا بتعريف (بيرس) للعلامة: «السيميوطيقا في الأساس هي مجال دراسة أي شيء يمكن استخدامه لكي نكذب». وأعتقد أن تعريف نظرية الكذب يجب تناوله باعتباره البرنامج الشامل لسيميوطيقا عامة. ولا ينطبق مفهوم الكذب في حالة «رؤية الصورة وكأنه»؛ إذ تقدم لنا الصور الأيقونية الصور الموجودة فيها كما هي معطاة للحواس. وكما يقول (فيتجنشتاين) «أرى هذا الشكل وكأنه» يمكن أن تتحقق بدرجة أقل (أو بنفس معنى) رؤيتي للون الأحمر الساطع. وبالتأكيد نستطيع أن نضع الصور الأيقونية في دورة سياقات معينة مثل العلامات. فمثلا يمكنك أن تسألني «كيف تلقت (كاثي) الأخبار؟ ويمكنني أن أجيبك برسم وجه مبتسم بشكل متكلف. ومن المنطقي أن نقول إنني كذبت باستخدام الصورة، فمثلا، قد تعمدت إساءة تمثيل رد «كاثي» المؤلم. ولذلك فان ظاهرة «رؤية الشيء وكأنه» ظاهرة قبل دلالية presemiotic.

  رؤية الصور والتمثيل المسرحي
من الواضح أن ظاهرة «رؤية الشيء وكأنه» تتلاءم مباشرة مع الأشكال الفنية مثل الرسم التوضيحي والتصوير الزيتي والنحت. والشيء الغامض هو تكامل هذه الظاهرة مع المسرح – أو بالأحرى المكون الأساسي لها. فالمسرح يقدم بعض حالات تضخيم «رؤية الشيء وكأنه» التي يناقشها (فيتجنشتاين). فمثلا يمكن أن نرى الخطوط المرسومة علي ستارة خلفية المسرح وكأنها جبل، وربم نرى صف من المقاعد كأنه قطار أو طائرة. وقد اشتهر المسرح المفتوح في الستينات بمثل هذه الألعاب، فقد يمكننا أن نرى كل مؤدٍ وسط جماعة من زملائه وكأنه جزء من آلة ضخمة. فمثلا في عرض (ريتشارد فورمان Richard Forman) «صوفيا = الحكمة Sophia =wisdom» الجزء الثالث 1972 أزيلت الستارة لكي تقدم سلسلة نماذج مصغرة للمنازل، بحيث يمكننا أن نرى من خلال إطارات أسطح المنازل المفرغة وجوه المؤدين. ويصف (مايكل كيربي Micheal Kirby) تأثير هذه الصورة كالتالي:
 «إما أن تكون المنازل الموجودة على المنحدرات مقبولة باعتبار أنها بالحجم الحقيقي، وبذلك تصبح الرؤؤس التي تملؤها هائلة الحجم، أو تكون الرؤوس مقبولة بحجمها الطبيعي وتصبح المنازل منمنمات. وتتغير هذه العلاقات مثل الإيهام البصري، ويبحث العقل بشكل غريزي عن معلومات لتدعيم وتأكيد اختيار أو آخر».
لقد وضع (فورمان) (فيتجنشتاين) بين الذين تأثر بهم، وربما أشار إليه بشكل متعمد عندما منعنا في تصريح سابق أن نتذكر أن البنية هي دائما مزيج من الشيء وفهمه.
لم يناقش (فيتجنشتاين) نفسه علاقة رؤية الصور بالمسرح صراحة. وفي كتابه «بحوث فلسفية» يلمس هذا الأمر عندما يتأمل لعبة يمارسها الأطفال: فهم يرون أن الصندوق هو بيت، وبناء على ذلك يفسر باعتباره بيتا بكل تفاصيله. وهذا الأمر يدخل فيه جانبا من الخيال. وعندئذ يسأل (فيتجنشتاين) «أليس الطفل الآن يرى الصندوق وكأنه منزلا؟». ويترك السؤال معلقا. ورغم ذلك، يقدم لنا جزءا آخر من اللغز في كتاب «بحوث فلسفية» في معرض تقويم قضية أننا إذا رأينا ورقة شجرة باعتبارها نموذجا عاما لكل أوراق الشجر، فإننا نراها بشكل يختلف عمن يراها مثلا نموذجا لشكل بعينه. والآن، قد يبدو الأمر كذلك – مع أنه ليس كذلك - لأننا يمكن أن نقول، وفقا لمسألة الخبرة، إذا رأينا ورقة الشجرة بطريقة معينة، فسوف نستخدمها بهذه الطريقة أو وفقا لتلك القواعد. ينطبق تحليل (فيتجنشتاين) في مثال ورقة الشجرة بشكل مؤثر على مثال الصندوق، فإذا امتنع الأطفال عن اعتبار الصندوق بيتا، وبدأوا يرونه كسفينة قراصنة فسوف يتضمن الصندوق هذه النقلة في المجال البصري الذي يميز التبادل بين رؤية رسم البطة/ الأرنب باعتباره إما بطة أو أرنبا. فما سوف يحدث هو تغير القواعد التي تحكم استخدام الشيء.
يذكرنا مثال لعبة الأطفال الذي ساقه (فيتجنشتاين) في ما يتعلق باستخدام الصندوق بدراسة (جومبريتشGombrich) الشهيرة (تأملات لصورة فرس Meditations of a Hobby horse) كمثال نموذجي للتمثيل في الفن:
 «إذا اعتبر الطفل أن العصا حصان.. فلن تكون العصا هي العلامة التي تعني مفهوم الحصان ولا صورة حصان مستقل، بل إن العصا بذاتها من خلال طاقتها سوف تعمل كبديل للحصان».
لم يستدع (جومبريتش) مفهوم «الشيء وكأنه» المنسوب إلى (فيتجنشتاين) بشكل صريح هنا، بل إن اقتراحه منسوب إلى النزعة الفيتجنشتانية الجديدة التي توجه انتباهنا بعيدا عما يشير إليه التمثيل وتعيدنا إلى التمثيل ذاته. علاوة على ذلك يؤكد (جومبريتش) مثل (فيتجنشتاين) على خصوصية الصورة التمثيلية، ويفهم الإبداع الفني باعتباره فعلا لإنتاج أشياء جديدة في العالم، فضلا عن محاكاة أشياء موجودة مسبقا أو الإشارة إليها. ويمكن أن نستشهد هنا بقوله:
 «عندما شرع بيجماليون في تشكيل تمثال من الرخام، فإن التمثال لم يكن يمثل في البداية صورة إنسان، ثم صار بالتدريج امرأة بعينها. وعندما تلا صلاته بصوت مسموع دبت الحياة في التمثال فكانت (جالاتيا) وليس امرأة أخرى - بغض النظر عن أنها صيغت بأسلوب بدائي أو أو مثالي أو طبيعي».
توضح النظرية التي قدمها (جومبريتش) في كتابه «الفن والإيهام Art and illusion» مفهوم «رؤية الشيء وكأنه» عند (فيتجنشتاين)، لكنها تصل إلى أبعد كثيرا من مفهوم (فيتجنشتاين). وبالطبع يمزج (جومبريتش) ثنائية أشبه كثيرا بثنائية (سارتر)؛ إذ يؤكد أننا بمجرد أن نبدأ بفهم اللوحة باعتبارها تمثيلا، لن نستطيع أن نفهمها كلوحة تكسوها الألوان، أعني أننا نفهمها كحضور مادي في العالم (باعتبارها شيئا جديدا في العالم).

 تأليف:  ديفيد سولتز

 • ديفيد سولتز  يعمل رئيسا لقسم دراسات السينما والمسرح بجامعة جورجيا منذ عام 2009 . وقد سبق أن قدمت له جريدة مسرحنا دراسة مترجمة بعنوان “ الأداء المسرحي وخطأ تفسير النص “ في العدد 513 2017/6/26 .
 • هذه الدراسة مأخوذة من كتاب ( فلسفة الأداء المسرحي Staging Philosophy) من مطبوعات جامعة ميتشجان – الولايات المتحدة الأمريكية . وهي تمثل الفصل العاشر من الكتاب وتقع في الصفحات 203-220 .


ترجمة أحمد عبد الفتاح