المجهول حول رفض تمثيل مسرحية الحسين (2)

المجهول حول رفض تمثيل مسرحية الحسين (2)

العدد 590 صدر بتاريخ 17ديسمبر2018

علمنا في المقالة الأولى أن عبد الرحمن الشرقاوي نشر مسرحيته «ثأر الله» على حلقات طوال شهر رمضان في جريدة الجمهورية عام 1968، وأن الجريدة تساءلت: لماذا نحرم الجمهور من مشاهدة الحسين على خشبة المسرح؟! وعلمنا أيضا أن رجال الدين أجابوا على سؤال الجريدة بصدور فتوى بمنع تمثيل الصحابة والخلفاء الراشدين، وكذلك شخصيتي الحسن والحسين على خشبة المسرح.. إلخ. وعلمنا أخيرًا، أن الصحفي كمال القلش فتح مساحة بجريدة الجمهورية لنشر آراء رجال الثقافة والدين، ولمن يريد أن يدلي بدلوه في هذه القضية!
رأي الشيخ عبد الجليل
أول من لبى نداء الصحفي كان الشيخ عبد الجليل عيسى عميد كلية اللغة العربية، وعضو جماعة كبار العلماء. ورأيه هذا نشره الصحفي في جريدة الجمهورية يوم 22/ 11/ 1968، تحت عنوان «حول ظهور سيدنا الحسين على خشبة المسرح». قال الشيخ عبد الجليل: «إن قواعد الدين العامة تقتضي ألا يعرض الأشخاص المقطوع بصلاحهم وأنهم أقرب المقربين إلى الله تعالى إلى ما يمس شيئًا من هيبتهم أو احترام الناس لهم وهؤلاء إن أظهرتهم على الشاشة فإما أن تكون صادقًا في غرضك هذا بأن تعرض على الحالة التي كانوا عليها في الدنيا، وإما أن تزد لباسهم ورياشهم فتظهرهم بصورة الملوك أو الأمراء الذين ينالوا قسطًا كبيرًا من الاحترام في نفوس العامة فإن عرفتهم بالصورة التي كان لباسهم فيها الأزار والرداء، وكان هذا يبرز جزءًا كبيرًا من أجسامهم بما يشبه الآن لباس العملة في المخابز ونزلاء الحمامات فتكون قد عرضتهم لشديد من الاستهزاء والاحتقار في نظر الناس الذين تعودوا أن يروا الشخصيات المحترمة في زي خاص فكلا الأمرين مر. فالأولى مساس لهالة الاحترام التي تملأ نفوس المؤمنين وتعرضهم لشيء من الازدراء حسب ما تعود الناس الآن، والصورة الثانية تزوير للتاريخ لأنها تظهرهم بصورة الملوك وهذه صورة أرباب الدنيا التي هم أزهد الناس فيها، وهذا مأخوذ من مقاصد الشريعة العامة التي أخذ العلماء بها في المسائل التي ليست في كتاب الله ولا في سنة رسوله وقد أصبح بديهيًا الآن، فإن كثيرًا من المعاملات بين الناس والأحداث السياسية وغير السياسية كلها ليس لها نص في القرآن ولا في السنة وإنما أخذت أحكامها من مقاصد الشريعة العامة بل وجد من الأحكام في عهد الصحابة مما يعتمد على مقاصد الشريعة العامة مثل كتابة القرآن في المصاحف وتدين الدواوين بالجيوش وغير ذلك مما لا يحصى يعلمه من يطلع على كتاب أعلام المؤلفين لابن القيم والموافقات للشاطبي. والله أعلم. [توقيع] عبد الجليل عيسى عميد كلية اللغة العربية السابق.
سؤال منطقي!!
لم يقتنع كمال القلش برد الشيخ عبد الجليل، فعقب عليه قائلاً: «يخشى الشيخ عبد الجليل عيسى على هيبة واحترام الشخصيات الإسلامية الكبرى إذا ظهرت على المسرح، ويلجأ إلى قواعد الدين العامة لحماية هذه الشخصيات من نقص الهيبة لو تعرض الفن المسرحي لها.. ويتناول الشيخ عبد الجليل الموضوع من زاوية الإخراج المسرحي والديكور ويفترض أنه من المستحيل أن تظهر هذه الشخصيات مع احتفاظها بالهيبة الواجبة والاحترام الديني الكامل. والشيخ عبد الجليل عالم ديني ولكنه ليس عالمًا في فنون المسرح والإخراج والملابس المسرحية وهذا لا ينقص من قدر أحد. ولهذا فهو يخلق مشكلات فنية مسرحية ويعجز عن حلها مثل مسألة الملابس!! وهو لا يفترض ظهور هذه الشخصيات في إطار من الحرص الديني والفني! والسؤال هو: إذا استطاع الفن المسرحي أن يقدم على خشبة المسرح هذه الشخصيات دون أن تنقص هيبتهم فهل تنهار حجة المنع والتحريم!!
رأي هادئ وحكيم
بعد شهر من الرأي السابق، نشر سامي داود في جريدة الجمهورية يوم 22 ديسمبر (كانون الأول) 1968، رأيًا هادئًا وحكيمًا، تحت عنوان «مسرحية الحسين.. هل نراها في يوم قريب؟!»، قال فيه: «أول من أمس، قرأت الصفحة الأخيرة من مسرحية الحسين، التي نشرتها الجمهورية تباعًا، خلال شهر رمضان.. وعندما وصلت إلى كلمة (النهاية) بعد القصيدة الطويلة الرائعة، التي لخص فيها المؤلف بلسان الشهيد، مأساة الحق، ومأساة الإنسان المناضل في سبيله، شعرت كأني أفقد شيئًا عزيزًا.. أفقد متعة روحية وذهنية كنت انتظرها كل صباح، مشوقًا إليها، مشغوفًا بها.... وعلى الرغم من كل ما أثير خلال نشر هذه المسرحية من جدل، حول محاولة تمثيلها على المسرح، هذا الجدل، الذي قطعت فيه لجنة الفتوى بالمنع، واختلف معها في قرارها الأستاذ أحمد حسن الباقوري مدير الجامعة الأزهرية، ومعظم الكتاب الذين تناولوا رأيها بالمناقشة والاعتراض.. وعلى الرغم من كل الحجج والأسانيد التي ساقها كل من أدلى بدلوه في هذا الجدل........ تمنيت أن أراه محققًا على المسرح [يقصد نص المسرحية]، بقدرات الممثلين وإمكانيات التأثير والتخييل العظيمة التي يملكها المسرح الحديث، مثلما حدث لي، وأنا أقرأ نص مسرحية الحسين.. لقد كنت أقرأه، وأرى بخيالي [يقصد الحسين رضي الله عنه] قامته المديدة، ورأسه العالي، وعينيه العميقتين المشعتين بأضواء النبوة، وأكاد أسمع بأذني في كلماته صوت رجل جمع فيه الخالق، كل ما أراده للإنسان من نبل وقوة وحنان ورقة، وحلاوة وإيمان.. وكانت الكلمات والمواقف وحدها، تستطيع أن تحيط نفسها أمام عيني بخلفياتها الروحية والمكانية، وكأنما أصبحت الكلمة والإنسان والطبيعة شيئًا واحدًا، يحيط به إطار المسرح، بكل أضوائه ومناظره وموسيقاه، وجمهوره؛ ولكن يبدو أن دون ذلك مشوارًا طويلاً يجب أن نقطعه فكرًا، ونضالاً.. واقتناعًا.. وصبرًا. ولو سألني أحد، رأيي في عرض مثل هذا العمل الباهر، بالسينما المصرية.. لقلت لا، فلا تزال إمكانيات السينما المصرية هزيلة، وغير مطاوعة للذين يستخدمونها، حتى في هزالها، وحدودها الضيقة – ولا يزال العمل السينمائي يجري وراء التفاهة، والإسفاف التجاري الشديد.. والأفلام القليلة التي أراد بها منتجوها شيئًا من الجدية، صادفتها عقبات التكاليف الباهظة، وضعف الخبرة، وقلة الاتصال بالعلم الحديث، الذي تقوم عليه صناعة السينما. لذلك كله، يخشى المرء، أن يضيع كل هذا الجلال المقروء، بين أيدي لا تملك القدرة على تجسيده، وإمكانيات تعجز عن إبراز معانيه وأبعاده.. أما بالنسبة إلى المسرح، فالرأي عندي مختلف تمامًا.. فمسرحنا أصبح قادرًا على تزويد فنانيه بكل ما يحتاجون إليه من إمكانيات الإبراز والتصوير.. ومخرجو مسرحنا، ومعظم ممثليه على جانب رفيع من الثقافة، والقدرة الفنية، تمكنهم من استيعاب النص، وتفسيره وتقديمه بكل ما يحفظ للبطولات الإنسانية، جلالها، بما في ذلك بطولات القديسين والشهداء. وإذا كانت شخصية السيد أحمد البدوي، قد استطاعت أن تظهر على مسرحنا بكل ما يبهر من صور الجلال وآيات القداسة، رغم ضعف التأليف، وهزال الحوار.. فكيف كان يمكن أن تظهر شخصية الحسين، بكل ما أمدها به الشاعر الكبير عبد الرحمن الشرقاوي، من عمق الشعر وبهاءه وسحره. ولكني أعود إلى القول بأننا بحاجة إلى الإقناع والصبر.. فما من شك أن الذين يعترضون على ظهور هذا النص مجسمًا بكل شخصياته التاريخية ذات القداسة الخاصة، على المسرح، إنما يصدرون في ذلك عن حرص شديد على ما لهذه الشخصيات من قداسة وما يجلها في خيالات الناس من نورانية باهرة، يخشون أن يحددها التجسيد أو يجمدها أو يهبط بها درجات.. وهم، على الأكثر، يفتقرون إلى المتابعة الجادة، لما يجري في مجالات الفنون عندنا، وخصوصا الفن المسرحي. والإقناع هنا، واجب أصحاب الأفكار المتطورة، والصبر طريقهم. وسيأتي يوم، يقتنع فيه الجميع بأن تمثيل مثل هذا العمل، هو في خدمة التاريخ والقيم الدينية والروحية، وبأنه لحسابها، وليس على حسابها بأي حال من الأحوال. لقد كان الناس يتناقلون من أحاديث أبطالهم وقديسيهم ما هو أقرب إلى الخرافة منه إلى الحقيقة وهذا يحدث في كل شعب، وفي كل دين.. وقليل من الناس، لديهم الفرصة لقراءة التاريخ الصحيح. والتنفيذ بعمق في صفحاته، والتعرف الصادق على حقيقة هؤلاء العظماء، الذين يكتسبون عظمتهم أولاً من أنهم بشر، ولكنهم – بالإيمان – استطاعوا أن يرتقوا فوق مستويات البشر، وأن يقدروا على ما يقدر الناس عليه، وأن يضربوا لهم، بذلك أمثلة رفيعة تجذبهم دائمًا إلى أعلى.. قليل من الناس، هم الصفوة المثقفة، كانت تستطيع أن تفصل بين الحقيقة والخرافة، فيما يتناقله الرواة، وتمتلئ به صفحات من الكتب القديمة، لم يتخذ واضعوها منهجًا علميًا في تحقيق ما يكتبونه من سير العظماء والقديسين والأبطال والشهداء.. فإذا جاء كاتب المسرح الجاد، وحمل هذا العبء عن الأغلبية الغالبة التي لا تعنيها قراءة السير، ثم دفع بعمله هذا إلى المسرح.. فالمسرح هنا هو الكتاب والمدرسة لمن لا يقرأون الكتاب، أو لا يجدونه.. ولمن لم تعن المدرسة في مناهجها المحدودة، بتعليمهم كل شيء.. بما في ذلك السير الحقيقية للأبطال والقديسين والشهداء.. المسرح هنا دوره أكبر وأشيع وأعم من دور الكتاب، ومن دور الجريدة أو المجلة.. وقدرته فوق ذلك أكبر، في إيصال الحقائق من هذه الشخصيات الباهرة، من أقرب طريق.. طريق التمثيل والتجسيد، ورؤية العين.. ليس المسرح هزلاً دائمًا.. بل إنه يستطيع أن يبلغ أعلى مراتب الجدية إذا أتيح له النص الجديد، والفنانون والفنيون القادرون والمؤمنون أيضا برسالته. وهذا فيما اتصور، وأرى، كان مكفولاً لمسرحية الحسين في مسرحنا. ولعلنا، إن كنا لن نستطيع أن نراها على مسرحنا هذا العام أرجو أن نراها في يوم قريب».
الأزمة المعروفة
مما سبق يتضح لنا أن هناك محاولة ظهرت في الأفق لتمثيل مسرحية الحسين، وقد تكون محاولة سابقة على محاولة كرم مطاوع المعروفة؛ بدليل أن الفتوى ظهرت من أجل إيقاف هذه المحاولة!! أما محاولة كرم مطاوع – كما هو معروف – بدأت وكأنها الأولى، دون ذكر موضوع الفتوى حينها، وذلك تبعًا للمراسلات التي نشرها الدكتور أسامة أبو طالب في مجلة المسرح، والتي أشرنا إليها في مقدمة المقالة الأولى! وحتى نكون محددين أكثر، نقول إن المراسلات المنشورة في مجلة المسرح، تفيد بأن كرم مطاوع أنهى تدريبات المسرحية، وأصبحت جاهزة للعرض؛ ولكن الرقابة وافقت على العرض بشروط من أهمها عدم ظهور شخصيتي الحسين والسيدة زينب على خشبة المسرح!!
هنا بدأت الأزمة الحقيقية، وصار شد وجذب بين المسرح القومي والرقابة، فتدخل الأزهر برأيه، الذي أكد فيه عدم ظهور الحسين والسيدة زينب على خشبة المسرح!! ثم تدخل الاتحاد الاشتراكي العربي، وأخذت القضية أبعادًا كثيرة.. إلخ، مما جعل الشرقاوي – من أجل الموافقة على تمثيل المسرحية - يكتب تعهدًا قال فيه: «كلما تعين أن يظهر الحسين أو السيدة زينب، ظهر الراوي أو الراوية ليلقي كل منهما الكلام المسند إلى الشخصية في النص المطبوع مسبوقًا بهذا القول: قال الحسين.. أو قالت السيدة زينب»، لذلك تدخل مجمع البحوث الإسلامية، وعقد جلسة طارئة لمناقشة الموضوع – في 22 / 2 / 1972 – وأبان المجلس في الاجتماع أن المسرح القومي أعاد كتابة النص مرة أخرى، وأن الصحف أعلنت عن وجود ممثل سيقوم بدور الحسين، وممثلة ستقوم بدور السيدة زينب. كما شنت الصحف حملة صحافية من أجل إجبار مجمع البحوث الإسلامية على مخالفة رأيه، والموافقة على عرض المسرحية، وظهور الحسين والسيدة زينب على خشبة المسرح، مما جعل مجمع البحوث يتمسك برأيه في عدم تجسيد هاتين الشخصيتين، وزاد على ذلك أن للمسرحية جانبًا سياسيًا يجب عدم إثارته!! ناهيك بإثارة الفتنة بين السنة والشيعة. وقال الشيخ عبد الجليل عيسى – الذي تحدثنا عن رأيه في المقالة الأولى – بوصفه عضوًا في المجلس: «.. عدم جواز تمثيل الشخصيات الإسلامية بصفة عامة، وإلى عدم جواز عرض المسرحية المعروضة – لما تضمنته من تعرض لشخصية الحسين وغيره من آل البيت ولما تضمنته من إثارة الفتنة الكبرى بصفة خاصة».
أما رأي الأستاذ محمد خلف الله أحمد، فكان رأيًا حكيمًا، قال فيه: «أوافق على عدم جواز تمثيل الشخصيات الإسلامية ذات المكانة الخاصة في التاريخ الإسلامي. وأشار إلى أن للموضوع جوانب أخرى يجب أن يعنى المجمع بدراستها دراسة تفصيلية في فرصة لاحقة، وذلك نظرًا لما للتمثيل من أثر هام يتميز به عن ضروب التعبير والتصوير الأخرى، لما يحققه من تهذيب وتثقيف ومتعة عقلية وفنية ولأهمية التمثيل كوسيلة من وسائل التربية في الأمة، ولما يشتمل عليه التاريخ الإسلامي من بطولات عقلية ونفسية وعلمية وسياسية وأنه يجب أن تعنى الدراسة التي يقوم بها المجمع ببيان حدود الشخصيات الإسلامية التي لا يجوز تمثيلها وتلك التي يجوز تمثيلها، كما يبين آداب فن التمثيل وما يشترط له في المجتمع الإسلامي».
الجديد المكتشف!!
من خلال المقالتين السابقتين، تعرفنا على جوانب خفية لأزمة تمثيل مسرحية «ثأر الله»، ربما أغلبنا لم يكن يعرفها، والقليل منا، ربما كان على علم بها سماعًا، ولكنه لم يقرأ تفاصيلها. أما الجوانب الخفية و(المجهولة)، والتي لا يعلمها أي شخص حتى الآن، هي الجوانب التي سأتحدث عنها في المقالة القادمة.. لأنها الأخيرة في هذا الموضوع!!

 


سيد علي إسماعيل