جماليات المسرح المضاد (1-2)

 جماليات المسرح المضاد (1-2)

العدد 588 صدر بتاريخ 1ديسمبر2018

مهما كان مصدر التحيزات المسرحية المضادة، أخلاقية أو جمالية، فإنها نوع من الغرور المفاهيمي الخاضع للمسرح أو هي ضحيته، في حين أنها تتغلغل إلى كل عصب في قلب الدراما الغامضة، التي منذ أي بدايات لم تثق بالمسرح. ولا أشير هنا فقط، اتفاقا مع المؤلف الدرامي سواء كان حيا أو ميتا، إلى نوع من الحماية للنص من نعرات خشبة المسرح، وامتداد التقاليد، في بعض الأحيان، مع اليقظة الفاضحة، بداية من (بن جونسون Ben Johnson) إلى (صامويل بيكيت Samuel Beckett)، وحديثا، إلى (سام شيبرد Sam Shepard) – ومعها الثقافة المضادة، والانحرافات متعددة الأشكال – الذي رفض أن يسمح بعرض مسرحيته «الغرب الحقيقي True West»، إذا تم تجسيد الأخوة المتصارعين بواسطة الجنس المختلف وهن النساء. وبغض النظر عن الجوهر، والبناء الاجتماعي، والمسئولية عن التحيز، الذين تكون شروطهم هي المسرح، بمعنى أنه مقيد وجوديا حتى من قبل أن يكون مجرد فكرة (في رأس مؤلفه)، أما بالنسبة لما قاله (هيدجر) عن اللغة «اللغة نفسها – هي اللغة ولا شيء آخر غيرها. فاللغة نفسها هي اللغة». وعلى الرغم من إضفاء الطابع التقليدي على المسرح كما يبدو، فإن المسرح نفسه، وقد يكون ذلك مجرد حشو، ليس إلا حضور المظهر، فالمسرح هو المسرح نفسه، قبل أي شيء آخر، أو مع ازدواجية حضور تغمر أي شيء آخر – في تدرج المخاوف بداية من أفلاطون إلى جينيه (وقدس سارتر المسرح من أجل مظهره المقدس). وقد يدفعنا ذلك بعيدا عن الرغبة، بمعنى الاستغناء، في مسرح مضاد، قد يزيد، من قبيل المفارقة المسرحانية أو المسار الاستراتيجي اليائس أو المتهور، من ناتج المسرح، بينما لن يجيب على سؤال ما إذا كان يمكن أن يكون أقل أو أكثر، من حيث كون ذلك الناتج مسرحيا أو مسرحيا مضادا.
وفي أي من الحالتين، حالتي الوفرة أو الحد الأدنى، فإن المسرحانية، في حالة احتوائها للمسرح أو افتراضه، ليست ظلا له، فهي مجرد آلة فاكس، وحتى عندئذ لن نستطيع أن نتأكد من ذلك، لأنه لو لم يكن المسرح متدهورا، ولم يكن نوعا من التسلل إلى الواقع، فإنه يظهر إلى الوجود بواسطة الفكر – ربما رغم أنه هو نفسه الشيء الذي يختفي في الوعي، وهو بدقة التسلل إلى الواقع. وقد لا يبدو من قبيل المصادفة أن أعظم دراما يستحوذ عليها ذلك الهاجس. وكما هو حادث، فإن النموذج الأكثر مراوغة في أعظم المسرحيات يبدو أنه - في هروبه من التفسير – يتأمل هذا الهاجس، وإذا طرحنا السؤال البسيط، ما الذي يصنع المسرح؟ فقد تكون الإجابة منسوبة إلى هاملت: الفكر يجعله كذلك. فما يبقى في الذهن إذن هو بداية المسرح باعتباره مظهرا لأنه لدينا في عقولنا، وأيا ما كان هو، أليس هو (حقيقة؟ تجربة؟ حياة؟)، كما ينبغي أن يكون لو أنه كذلك، قبل أن يوجد أي مسرح، أو أي تشابه متهور معه، وليس مثل فكرة أن العالم خشبة مسرح أو مجتمع المشاهدين، أو استنباط خلفي، أو مقدمة من الصور لشيء. وإذا لم نكن فعلا في نهاية الحقيقة – المجردة في عالم من الصور، بتميز علاماتها، أو عدم مرجعيتها أو لا غيبيتها، أو مجرد تفاهة التكرار دون أي مضمون على الإطلاق، أو حتى المادة الخيالية التي كان ينظر إليها في الماضي باعتبارها الإيهام، فإن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أننا لسنا متأكدين تماما أين نحن. وبقدر ما يعكس المسرح ذلك، فإنه يعود إلى إزالة الغموض مهما كان ثم يعود إلى مظهره الذي لا يمكن تصوره، أو في مضاعفته للحياة، الواضحة بشكل محزن كما لو كانت بدقة “مكيال بمكيال”، تراها الآن ولا تراها الآن – في غموضها، إحساسا بالجمال. فمن يستطيع أن يقول إن المسرح مستقل؟ باستثناء أنه من تأثير الجهاز العصبي، وقد يكون تأثيرا ذاتيا.
ربما كان المسرح مخادعا، أو كان انتقاما من الإيهام، لكن لا يجب التخلص منه عن طريق استبعاد انفصال خشبة المسرح عن المشاهدين أو المحاكاة الاستباقية. ولن يكون أيضا مستبعدا أو متضمنا بواسطة نوع من النرجسية البريختية، أو الوجود الهيستيري، أو تجسيد متصل بأسلاك، في مسرح (ريتشارد فورمان Richard Forman)، الذي لا يزال يجذب الخيوط، ولكن – حتى قبل سيادة النزعة الرقمية – مع زخم ألعاب الفيديو في أجسام الربوتات، الأقل إثارة جنسية الآن، ولكن لا مفر، الأجسام هي المادة. وإذا كان النموذج البريختي قد تراجع أو أنه صار الآن مألوفا فإنه يحتاج بعض التأثير في ذاته – إذ كان مسرحانية للنظرية التي ظهرت – بفكرة مادية الجسم المرتبطة بأدائية نوع الجنس - لكي تتولى التعبير الحركي، بتضخيمه التهكمي، مثل أفلام (جون واترز John Waters) وتنزيه الذات الإلهية عن الفاحشة. وبتفكيك مفهوم الأدائية عند (أوستن Austin) المبنية حول فكرة عقد الزواج، ومحاكاة أصول لم تحدث أبدا، والأسلوب الجسدي للأدائية الشاذة – وهو الاحتفاء بالوصمة - يستبعد المسرح فكرة الجسم الثابت أو المتماسك، مع ضربة استباقية في انقلاب للنظرة المعكوسة. وبتفضيل مشكلة نوع الجنس، كانت الصور الأدائية للجسم هي الفارق البسيط البعيد عن الأداء، في حركاته التكرارية (إذ يرتجف الجسم فعلا، أو هكذا يزعمون، في ظل هيمنة الهدم) المرفوضة بالطبع من المسرح - البرجوازي، الذي كان دائما يفقد الثقة في نفسه.
وكما هو الحال مع الفن والفكر الحداثيين، اللذين كانت لهما في عصر الدراسات الثقافية، نغمة سيئة (سيطرة الذكر، والنخبوية، وعدم تسييس النزعة الشكلية، وتفريغ التاريخ) حولت المسرح بوضوح إلى سلعة يبدو أنها في مختلف المجالات تستبق نقدها، وكأن المسرح نفسه كان يفترض شيئا مثل المسرح المضاد. أما في ما يتعلق بالنظرة الشاذة المعكوسة، ونظرته الهدامة لأسطورة الباطني، وانقسام الداخل/ الخارج لما أصبح في منهج التمثيل، هو المساحة النفسية للممثل، التي ربما كانت رؤيتها الظاهرية شيئا مختلفا عن ذلك. ولأن الشاذ أصبح منهجا، فإنه يكتشف مرة أخرى – كما حدث في فن الرسم، منذ أن دفع (سيزان) جبله الضخم إلى سطح الصورة – إذ لا يوجد سطح لا يتراجع، وإذا غير المنظور ما يراه، ففي الرؤية نفسها تلح الباطنية، كما تلح دائما في المسرح، وتدمره كما تريدون. وهكذا يكون المسرح، بكل تعقيداته في استطراد الأدائية، يواجه في جداله مع الواقع مأزقا في المحاكاة الساخرة التي ترتد إلى ذاتها – أو كما يقول شكسبير في قصيدته بنغمة تكرارية أنيقة عن الخداع «يخال أنه يرى، ولكنه بعيد بشكل فعال».
فما بالداخل، وما بالخارج، هما في ذاتهما مشكلة مزعجة – فيما وراء الإبهار، أو حتى فيما وراء الصورة – في عالم المناظير والتقنية العلمية والكيمياء الحيوية وعلم الوراثة وعالم المعلومات، مع كل شيء يبدو وكأنه يتحرك بسرعة الضوء في أعقاب التنوير، أو كما يعتقد (بول فيريليو Paul Virilio) “بضوء السرعة”. أليست القنوات والشاشات وأجهزة الكومبيوتر والهواتف المحمولة وأطباق الأقمار الصناعية وشبكات الإنترنت وأخذ العينات: الإحساس المتنوع باللحظة المتعددة، والاختلاط التكراري المحض للوسيط الفوري، وما يحدث للزمنية، أو المادية في هذه الحالة، أقل ركودا عن التحقق من استقلالية الجمالي؟ لقد أرادت الليدي مكبث المستقبل فورا، ومع الكثير من لحظات المستقبل في لانهائيتها، يوضح ما يمر الممكن، إذا أراد أن يوضح ما كان بالفعل في الماضي البعيد – رغم أن الماضي يثير إشكالية، مع أطوال الموجات والترددات التي تلتقط السرعة. ولذلك إذا أخذنا السرعة في الاعتبار وتتبعنا الآثار، فإن المسرح/ المسرح المضاد لن يكون مشكلة، على الرغم من أن ذلك يعفي بالضرورة (مايكل فرايد Micheal Fried) الذي شعر بالقلق من انحطاط الفن عندما تناول حالة المسرح. فالدفاع عن الفن كموضوع يؤكد بشكل كامل، على الفور، الحضور الأبدي المستمر غير المستعصي على استنزاف الزمن، إذ يؤكد (فرايد) على هزيمة المسرح، لأنه قد وهب نفسه إلى معنى الزمنية، سواء الزمن الماضي أو المستقبل الذي يقترب وينحسر في نفس الوقت، وكأنه أسير في منظور لانهائي. فما مضى، وما يمضي، وما هو آت، معلومون، عندما ظهر فن الأقلية والفن المفاهيمي على الساحة للمرة الأولى، ولكن إذا كنا الآن في قلب الميجابايت، نصغّر اللحظة بأسرع من أي فكرة، فماذا يمكن أن يكون المنظور المتوقع عندما يمر فعلا ما هو آت وما هو آن إذا كان ما يمكن تخيله يتم تجاوزه دائما؟ ولذلك، مع المسرح/ المسرح المضاد، يبدو أن الثنائي يعتمد على “هنا والآن”، ولكننا نعيش بشكل متسارع في “حينئذ وهناك” مع لاشيء مثل ذكرى انفلات الزمن المنسوب إلى برجسون، لأننا مع فورية جهاز التحكم عن بعد، والسنوات الضوئية، أسرع من محول القنوات، فالسرعة هي العصر القديم في العالم، حيث إنك لا بد قد شاهدت في استيعاب الفلاش أن هناك لحظة تراها الآن ولا تراها الآن.
أليس هذا أكثر من فانتازيا؟ أو لو أنه ظل غير فنتازي، فهل هو مجرد حقيقة افتراضية في عالم افتراضي؟ ربما أجل وربما كلا. ولكن إذا كان (فيريليو) (كما يجب أن يكون، إذا كان ما يراه هو كذلك) بصيرا بأثر رجعي، فعندئذ، مع واقع ممنوع، ومقيد بالتسارع، وخارج الزمن بالمعنى الحرفي، لن يستحق اهتمامنا أي ظهور للواقع في شكل مسرح، ولن يكون أكثر من مجرد صفحة من جريدة في إعصار فلوريدا. أو في نهاية المطاف، لن تكون نهاية الحداثة، التي هي مثل نهاية التاريخ، بداية جديدة دائما – تذكر أنها ليست بداية الحداثة، بل بداية نهايتها.
ولكن مع تباطؤ اللحظة، استغراق الوقت (أو الإيهام المستعاد في المسرح) بطريقة تعويضية في التدريبات: كانت هناك صلة طفيفة، موجودة من قبل، بين الحداثة والمسرح البرجوازي، الذي – بدا وكأنه في قالب التاريخ والمفارقة التاريخية (التي تلوح في الأفق من القالب مع العالم) – وأريد أن أقول أكثر من ذلك. فبقدر ما يكون ذلك المسرح وظيفة معبرة عن الحداثة، كان منذ البداية صفقة أكثر تناقضا وتعسرا وزعزعة مع ظهور النظرية النقدية، وقد جعلناه كذلك – فهي جاذبيته، إذا فكرنا أن تسارعه الواقعي وكثافته قد تأثرتا، وكأنما أصبح ثقبا أسود، كان انفجاره الداخلي، على ما يبدو، أكبر من ذلك الانطلاق بعيد المدى من الحبكات التي يمكن التنبؤ بها، أو ما تقترحه مجموعة من العناصر ذات الصلة. ولكن المناخ يمكن أن يكون ظالما، مع وجود قيود المكان والزمان، إذ هناك نوع من التأثر بالذكرى، وهي الانفتاح، كما هو الحال مع اللاوعي، أو في الفنون البصرية الحداثية، انفتاح إلى المكانية في الزمان. ورغم ذلك، إذا بدا أن كل التاريخ موجود في التكعيبية، الحادة هندسيا، ولكن بناء على السطح المستوي للصورة (في أعقاب سيزان)، ومع الاستقلالية الموجودة فيها، فإن ذلك يبدو على العكس من المسرح، بمقدمة خشبته الإيطالية المقوسة وزئير أقمشتها وستائرها، وجوانبها الخفية، وتراث المنظور. ومع أنني شاهدت عروضا في الأماكن المفتوحة، خارج المسارح وداخلها، أو المترامية الأطراف في كل مكان، والتراث الموجود بغض النظر عن وجود نص أو عدم وجود نص، أو حتى من خلال الارتجال، وردود الفعل القديمة التي لا يمكن تحملها، فإن كثيرا منها مبتذل، وراسخ في العقل بشكل لا يمكن تعديله، وكأن العلبة الإيطالية لا تزال موجودة – مع أنها قد تكون علبة مزيفة بلا منظور على الإطلاق.
ولكن عبارة “لا تتحدث عن أدمغتي”، عند وضعها في صيغة الجمع، كما يفعل هاملت، وكأنه أسير تلف العقل، هي نفسها نظرة معكوسة، وهو يلتفت إلى المخلوقات المذنبة الجالسة في المسرحية. ففي فراغ تم إنشاؤه، على ما يبدو، بواسطة عرض «مصيدة الفئران Mousetrap» ذي التقنيات العالية – حيث يشاهد المشاهدون المشاهدين وهم يشاهدون – فإننا لا نتحدث فقط عن إدراك متدرج، بل نتحدث أيضا عن تأمل درجات المسرح المحسوبة (ولا شيء أقل من تأملها). أما بالنسبة للمراقبين من بين الجمهور، فما الذي جاء بهم إلى هناك (في قاعة المسرح) إذا أردنا أن نبدأ بهم، – بعد تناول العشاء، وفقا لرؤية (بريخت) المستهجنة - أو يجذب انتباههم الخامل إلى التوجه والبحث؟ حسنا، كلنا نعرف ذلك من الحبكة، التي لها تاريخ عتيق: الظهور والتخفي والإخفاء والأكاذيب والخداع والسمع والإفصاح والاعتراف وارتكاب نفس الإثم والتستر (ما الذي يمكن توقعه؟) والقلق من الفضيحة – ذلك التراث المشتبه به في الدراما البرجوازية في المسرح القضيبي المنسوب إلى أوديب، وكلها قد تقرر توضيحها في النزعة التاريخية الجديدة والمادية الثقافية أو صيغ نوع الجنس أو العرق في النزعة الماركسية الرجعية ومعهم المسرح المضاد. وعندئذ ندور في دوامة عندما نريد توضيح الواضح. وبينما يستمر الخلاف على النظرية حوله بالتأكيد – والآن فيما وراء النظرية، ذات المستقبل المشكوك فيه أبضا – فهناك غيمة جهل على مسرحنا التقليدي الآن، وكأن المشهد على خشبة المسرح الذي ربما كان يصفه فرويد في كتابه “الطوطم والتابو Totem and Taboo”، مدفوع من المشهد التاريخي من خلال التشويه المنهجي - ويمكن أن نقول، باعتباره نتاج النفاق المنمق. أو ربما في النهاية غير منمق. فكل شيء يمكن بخس قيمته بواسطة الأداء، ولكن ما هو مفقود، وكان ينبغي أن يوجد، ويفترس العقل كلما نظرت إليه، “بخيال ميت تخيل”، ما سماه (بكيت) “عين الفريسة”. إنها حالة المسرح المضاد عندما تريد أن تقف وتصرخ “استخدم عقلك”.
سمعنا جميعا عن البديهيات (وربما نقرأها)، في دورات دراسة الأدب الدرامي، حول عدم معرفة المسرحية حتى نراها معروضة علي خشبة المسرح. ولكننا في معظم الوقت هناك (في دورات دراسة الأدب الدرامي) لا نراها علي الإطلاق، ناهيك بالمسئولية عن عدم مشاهدتها بطرق متعددة، ويعاد تخيلها باستمرار، بواسطة استظهارها في القشرة المخية، أويتم عمل تدريبات عليها – حتى مع الأداء الجيد، بشكل خاص جدا أحيانا حيث يحدث ذلك أثناء الدرس (ويتم نقلها إلى فيلم/ فيديو لكي تعرض في الدرس). وقد ينظر اليها علي أنها دراما قرائية، أو تقاوم المسرح، ولكني أقول للطلاب منذ سنوات (حتى أثناء عرض المسرحيات، وهذا مهم في العروض) إنهم قد يتعاملون مع المسرحية بشكل أعمق إن لم يذهبوا لمشاهدة عرض لها، وعندئذ، وحين أعٌمل رأسي لتعريفها، يمكنني أن أصر أن العقل هو أفضل خشبة مسرح وأكثرها امتدادا وتنوعا وديناميكية في احتوائه لها. ويمكنني أن أقول لهم فكروا في ذلك، فكروا في تلك المساحة الموجودة خلف العينين (مكان التسامر دون تكرار علي الإطلاق، واتساع غير منظم، وطبقا للعصب المنسوب إلى داروين «بنظام القيمة «) – ذلك ما ينبغي أن يكون عليه المسرح! بشكل لا ينضب فكريا، إفراغ للصورة، وكأن الدماغ المفرد مكسور جدليا بشكل جماعي، بمقدار متغير لا يمكن وصفه، وربما مثل المسرح المضاد (بكل الخلايا العصبية التي تعمل)، إذ يمكنك رؤية العرض مرارا وتكرارا من خلال كل فهم، في بعض الأشكال الاسترشادية الأخرى، ولكن بدون غياب للرؤية. (وكما هو الحال مع تشارلز لامب Charles Lamb وجوته Goethe عندما كتبا عن شكسبير، ولا سيما مسرحية «الملك لير King Lear»، فهناك سابقة مسرحية مضادة للحفاظ علي المسرحية في النص وأدائها في العقل، مثل حالة قراءة مسرحيات جرترود شتاين Gertrude Stein، ولكنني لا أتحدث عن ذلك). فقد تكون الرؤية، كما يقولون، “دال ترانسندنتالي”، ولكن، فلتكن كذلك: من أجل المسرح وضد المسرح، فإنه يظل دائما من أجل الرؤية، ولذلك فهو في إعادة تصور ما نعتقد أنه المسرح البرجوازي، الذي كان موجودا ذات يوم، إذ تم إضعافه، وإضعاف مسألة الرؤية أيضا – مع ميل مادي، ورؤية يطاردها التاريخ برؤيته الحالمة.
ومع نشأته في عصر التنوير بجدلية محبطة، بدا المسرح وكأنه مسكون عموما ببعض الظواهر الوهمية في “أشباح” (إبسن)، التي جلبت تحليلاتها التي لا ترحم مخاوف لا توصف، مع الأنهار الجليدية والقمم في الخلفية التي كان يغمرها ضوء الصباح. وحيث كان «بير جينت Peer Gynt» هناك ذات يوم، فقد يستيقظ الميت، ومركز العالم من ورائه، ولكنه المستحيل المنسوب إلى فاجنر، عند حدود تحقيق الرغبة في زيادة الرهان علي المسرحانية، ولكن النص الفرعي في كلمات «أوسوالد» الأخيرة “الشمس – الشمس”، كان من خلال العمى الناتج عن الهذيان الرهيب بسبب مرض الزهري. فكيف يمكن فعلا عرضها علي خشبة المسرح وفي ذروة الذاكرة المكبوتة، وما هي التداعيات الحركية؟. وهل يمكن أن تكون كافية؟. لأننا نستطيع أن نتخيل أنه في فجر التنوير نفسه، المجسد منذ البداية في احتفال ديونسيوس، حيث سٌمعت الهمهمات الأولى – الرنة الاستباقية للهستيريا الثقافية اللانهائية – لتلك النماذج شبه الإنسانية، في الكهوف تحت الجبل، حيث كانت الدراما المنسوبة إلى أسخيلوس، إذ كان “بروميثيوس”، إله النار، مقيدا، واستمر هناك في تناغم جنوني مع عقاب قوى الطبيعة، والرياح العاتية، والغيوم، والبرق، والزلازل التي تخدم القوى العليا.
وربما أنقذه (شيلي Shelly)، أو أي عرض مسرحي آخر معدل علي نحو ما، ولكن لا يمكنني أن اعتمد علي ذلك. فالأكثر احتمالا، مهما كان ما نفعله في المسرح، هو أنه عند بعض المستويات دون الشعورية، نتذكر كل ذلك، حتى إذا قاوم، وإذا لم تكن له نفس الأبعاد، فان الهذيان لا يزال مستمرا بالتأكيد. ومع العداء المستمر للمسرح البرجوازي، ولكن بدون عداء لمصادر (فاجنر) في المسرحانية الضخمة، ظهر شيء من هذا القبيل مرة أخرى، في حبات الصوت الداخلية، في الطريق المؤدي إلى أسفل الحلق، والشفتين واللسان والحنجرة والأسنان والأغشية المخاطية ومن خارج الأنف، من خلال تمارين الصوت/ الحركة في الستينات والغموض المشارك في صخبهم النفسي. كما هو الحال مع عرض «ديونيسيوس 69 Dionysus 69»، إذ كانت هذه إحدى الطرق التي تنصل بها الأداء من الممثل التقليدي، ومن عبودية سلطوية النص، واستطاع الهرب من طغيان المعنى، وتفكيك القيم البرجوازية - مع الأجسام المادية وهي عارية، ومع الطموح، فتجاوز مسرحه بالتالي، إلى مجرد تعبير حسي عن حياة الاغتراب الإنساني. (الذي وصفه ماركس بهذه الكيفية، ربما بشكل غير ملائم، كما تبدو حركة الإنتاج والاستهلاك). أما بالنسبة للتأويل السياسي لهذه الفترة الصاخبة، فقد كان هناك، مع أجسام تتحدث عن عنوانها وهي عارية في جميع أنحاء المسرح، العرض الذي قدمه المسرح الحي “الجنة الآن Paradise Now”، الذي ظهر في لحظة زمنية كنوع من السحر الفوضوي، والمادية غير المحاكاتية التي لا مثيل لاقتصادها الليبيدي، تخرج إلى الشوارع.
ففي المخطوطات الاقتصادية والفلسفية عام 1844، تحدث (ماركس) عن الحواس باعتبارها أنهم منظرون، تكونت كل حاسة منها بواسطة فعل تاريخ العالم كله، ولكن كانت في ذهنه نزعة مادية أخرى، والتي كان لا بد أن تقدم نفسها أولا للوعي، في نزعة إنسانية متطورة تساوي النزعة الطبيعية، وحينئذ فقط صارت، من خلال العبء العبثي الطويل لتغريب التاريخ، مع جنة في الانتظار. وهكذا كانت في المسرح، الذي في لعبة مظهر الشكل القادم كما هو – ليس مجرد علم لأصل الكلمة، وليس مجرد نظرة بحتة – إذ ظل هو النظرية، الذي اختلطت بجميع الحواس والحياة الحسية. (كما اعتدت أن أخبر جماعة «كراكينKRAKEN»، متخذا من ذلك سند، فما نفعله هنا هو التفكير، رغم أن البعض هنا يعتقد أنه أرجحة الركب هي المسرح المضاد.).أما بالنسبة للأداء نفسه، فقد يحدث التعبير الحسي مع ميل معين لحياة الاغتراب، أو في مسرح المضاد عند (بريخت)، عن طريق تغريب التغريب، ولكن يمكن أن يحدث هذا عند (إبسن) أيضا، في فن درامي كان مغايرا بشكل جذري، وهو طريق طويل من الدهاليز وسطور تجميع الكتاب المقدس من أيدي الكتبة. وإذا كنا نعتقد الآن أننا نستطيع أن نتنبأ بتحركات (إبسن)، إذ كانت درجات الاغتراب ذات يوم، مثل احتمالات الإدراك الحسي، هي ما أثار النقد في الدراما، في حين أن هذه الدرجة أو تلك، مثل أي إيماءة على خشبة المسرح، أو لحظة التقاط الأنفاس (ناهيك بمسرحيات بيكيت)، قد تتحدد في لحظة معينة من التاريخ قوة النقد، الذي يعزز نفسه في الاغتراب، لأنه لا توجد حياة أخرى في التاريخ حتى الآن. وقد كان (ماركس)، حين استنتج رؤية يوطوبية، واعيا بذلك. أما بالنسبة ل (إبسن)، فقد كانت ملزمة له كفكرة مذنبة في مسرحانيته الأثيرية في أغلب مسرحياته الرمزية، مثلما حدث من خلال الصوت في أجسام ارتو التي بلا أعضاء – في الهذيان البارع في المسرح المضاد – وفي تلك التعاويذ العتيقة، التي تتطاير في الهواء ويخونها الواقع.
وعودة مرة أخرى إلى الأرض، حيث تكفي القسوة. في خطاب مبكر مهم، معني بتحويل الشباب من تلاميذ هيجل عن التجريد الدوجماتي، دعا (ماركس) إلى نقد لا يرحم لكل شيء موجود، – إذا لم يشاركوا فعلا في السياسة – ولكن في هذا الصدد كان (إبسن) هو الذي تفوق عليه في توصيل مثل هذا النقد (ليؤرخ بالتأكيد، ولكنه تحدث عن المزعج فعلا) ولهذا السبب هوجمت إحدى مسرحياته، بأنها طاعون ارتو، وفرح هارب، وجرح، واستنزاف لجرح مفتوح، وبالوعة. أما بالنسبة للفن الدرامي في نزعته الواقعية، أو الانطلاق منها فيما بعد، كانت المفارقة أنها أنشأت في الأداء، حقيقة الإيهام الموجود، والنقد المدمر للمسرح، مع أداة التمثيل الذي كنا نتحدث عنه منذ ذلك الحين، حيث اختلطت حقيقة المظهر بمظهر الحقيقة – علي الرغم من أننا لسنا متأكدين تماما أي من هاتين العبارتين يكون أولا، (وعلى الرغم من أنني أستطيع أن أرى كل شيء يختفي داخل سرعة الافتراضي) أو سواء كانت هناك حقيقة بدون ازدواجية في المظهر. إذ إن (فرويد) هو الذي انضم إلى مستقبل الإيهام، بعد أن تحرك في اتجاه المسرح المضاد للتحليل النفسي من ميزانسين اللاشعور من خلال الحضارة والاستياء منها، واعترف فعليا، بنوع من الرؤية التراجيدية، أن محاولة إزالة الغموض قد فشلت. وفي نفس الوقت استمر المسرح من خلال المسرح المضاد مثل الرؤى الشبحية في مسرحية “هاملت” من خلال زيف الشبح، أو، مع ما انتبه إليه هيجل، من خلال النقد العنيف مثل «أشباح تشكلت في العقل البشري».
 - - - - - - - - - - -  - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
• هربرت بلو (1926 - 2013) تخرج في جامعة ستانفورد عام 1956. من أهم كتبه: المسرح المستحيل (1964)، عين الفريسة (1987)، الجمهور (1990)، لاشيء في ذاته (1999)، مبادئ الواقع: من العبثي إلى الافتراضي (2011).
• نشرت هذه الدراسة في مجلة Forum Moderns Theater العدد رقم 24/ 1، الصفحات 49 - 60 عام 2009.


ترجمة أحمد عبد الفتاح