حلاق بغداد ودليله الكاشف.. المسرح والمعتقل (2)

حلاق بغداد ودليله الكاشف.. المسرح والمعتقل (2)

العدد 635 صدر بتاريخ 28أكتوبر2019

قضى ألفريد فرج أربع سنوات “1959 - 1963” معتقلا، متنقلا بين سجون ومعتقلات مختلفة ابتدأت بسجن القلعة وانتهت بمعتقل الصحراء “الواحات الخارجة” مرورا بسجون «أبو زعبل، الفيوم». وخلال ذلك، كتب الصيغة الأولى لكتابه النظري “دليل المتفرج الذكي إلى المسرح” الذي كان نتاجا لحوارات ليلية مع معتقلين آخرين راحوا في جلسات المساءات الموحشة يستكشفون معه طبيعة المسرح وأشكاله وعوالمه عبر أسئلة مرسلة لم يمنعها الاحتجاز من الرغبة في المعرفة والكشف، وصياغات ذاكرة مثقلة استخرجت من مخزونها المعرفي إجابات محتملة، وفي الصباحات التالية يستجمع الكاتب نصوص الأسئلة والإجابات المقترحة ويعد مادة الكتاب ونصه الأول، ثم بعد خروجه من محنة الاحتجاز تلك، استكمل الكتاب حيث ظهرت طبعته الأولى عام 1965 في سلسلة “كتاب الهلال”. ومع كتابه النظري الأول هذا، كتب مسرحية “حلاق بغداد” في حكايتين “يوسف وياسمينة، وزينة النساء” استلهم الأولى من “ألف ليلة” والثانية من كتاب “المحاسن والأضداد” للجاحظ.
انتهت سنوات الاعتقال بعد ذلك وخرج الكاتب منخرطا في تجربة الستينات وتحولاتها الجذرية وطموحاتها الجموحة وظلالها العالية، ثم تعاقبت المراحل وتعددت، فإذا هو بعد ما يقارب الثلاثين عاما على خروجه، يتذكر أيامه في الزنازين المطفأة، ويحكي في كتابة كاشفة تجربته المزدوجة: معتقلا وكاتبا، ما بين وحشة الجدران وظلمتها، وبريق الأوراق المختلسة التي راح يخط عليها مشاهد وحوارات ومواقف شخصيته الأثيرة “أبو الفضول” وقد لازمته أطيافها وسيرتها المختزنة في كتاب الحكايات والعجائب الفريد “ألف ليلة”.
وهكذا كتب ألفريد فرج تجربته في كتابة النص المسرحي وسيرته في المعتقل عبر مجموعة من المقالات نشرها في مجلة عربية محدودة التوزيع في مصر، كما يصف شقيقه الناقد نبيل فرج مبررا ذلك بالترفع الأخلاقي والفكري للكاتب الكبير الذي لم يرد أن يستغل أحد ما يكتب للإساءة لمرحلة الستينات التي يراها رغم أخطائها الكارثية من أبهى مراحل التاريخ المصري وأعمقها إنجازا واختيارا.
ومن هنا، وبعد رحيل كاتبها بعامين، جمع نبيل فرج تلك المقالات ونشرها عام 2007 في كتاب صدر عن دار “رؤية” تحت عنوان “ذكريات وراء القضبان” وكتب مقدمة موجزة ودالة أوضح فيها بعض النقاط العالقة والمتصلة بالكتابة والنشر والمعتقل.
.................
في هذا السياق، نرصد عددا من النقاط المجملة: تشير الأولى منها إلى أن ألفريد فرج رغم محنة السنوات الأربع التي قضاها مفصولا عن عمله ومنعزلا عن أسرته ودنياه، ملقى في معتقل الواحات محتجزا في صحرائه العدمية، رغم ذلك، ظل منتميا ببصيرة عقل واقتناع ضمير إلى اختيارات عبد الناصر وإرثه وتوجهاته التي شكلت صورته الآسرة وزمنه المتعدد، متصلا بوعود المستقبل رافضا ما يتعارض معها من صور الواقع وتجسداته، ولهذا آثر ألفريد، أولا، ألا يكتب أو ينشر شيئا عن تجربة المعتقل لا في الستينات ولا فيما تلاها من عقدين كاملين، ثم تخفف من ثقل التزاماته قليلا، وكتب، وهو المسرحي المقتدر، رافعا الستار في غضب شفيف عن مسرح القسوة والدم والأحذية الثقيلة، ثم رفض، ثانيا، أن تكون كتابته دليل اتهام لمرحلة أعطاها صوته بيقين، واقتناعه بضمير، واختياره بعقل مبصر، وإن أعطى كتابته دورا في كشف الجانب المعتم منها والموحش فيها، ولهذا جاءت شهادته خطاب إدانه ولكن من خارج السور، أو هكذا أراد لها كاتبها أن تكون.
النقطة الثانية، وهي خاصة بما أورده الكاتب من وقائع ومشاهد كتابته للنص المسرحي، حيث يتضح باجتلاء تدريجي كيف أن معتقل الواحات قد أصبح مسرح الواحات بفعل الوجود المبدع لتلك النخبة المقتدرة من مثقفي مصر ومبدعيها الكبار الذين ضاقت بهم الأرض واتسع المعتقل.
كانت الحياة في وحشة الزنازين نشيدا للحرية واستحضارا متواصلا لها، احتجزت الجدران الأجسام المنهكة واستلب الظلام الوجود الخارجي، لكن الإرادة الحية صنعت عالما ممتلئا بالحوارات والمشاعر والإبداعات اليومية، الحوائط عازلة ولكنها مخترقة بالحضور اللحظي المتجدد، والزنازين جاثمة ولكنها أضحت فضاء حرا يتكشف عن أرواح متوثبة وابتكارات دائمة، والصحراء المحيطة والممتدة بلا انتهاء لم تقطع الاتصال بالعالم ولم تمنع ابتكارات الحلول اليومية، حتى ولو كان ذلك عبر إخفاء أجهزة الراديو الصغيرة والأوراق والأقلام. لا نود الإفاضة في ذلك ولا الاستطراد التفصيلي، فتلك الوقائع متواترة بكثافة واتساع فيما أورده الكتاب المعتقلون عن تلك التجربة بعد الخروج المتتابع منها، تكفي هنا لقطات دالة اختارها ألفريد فرج وهو ينسج صورة تلك الأيام المنفية والمستلبة، بثقلها الزمني ومصادفاتها القدرية.
صدر قرار من وزارة الداخلية ذاتها بمنع ترقية العساكر إلا بعد اجتياز امتحان القراءة والكتابة، وهكذا انفتحت فصول لمحو الأمية في منافي الصحراء، وتبدلت الأدوار لحظيا، حيث أصبح المعتقلون معلمين يمتلكون سلطة المعرفة ولو بشكل مؤقت، وأضحى السجَّانون والعساكر تلاميذ ينتظمون في الدروس ويتلقون الإرشادات، وانقلبت جزئيا لعبة الحارس والسجين.
وهكذا شملت المعتقل حيوية فنية وسياسية، كان فؤاد حداد من تجلياتها المبدعة، فقد شرع ينظم في الذاكرة دون تسجيل كتابي حكاية الشاطر حسن التي اكتملت بعد أكثر من سنة في خمسة آلاف بيت شعري انتظمت في الذاكرة المدهشة للشاعر الفذ، هكذا يكتب ألفريد فرج عن كيفية كتابة الشاطر حسن مضيفا صورا متعددة للتدفق الإبداعي خلف القضبان المتقاطعة، شملت إلى جانب التوهج الشعري لفؤاد حداد رسومات زهدي وبورتريهاته لضباط المعتقل، وكذلك لوحات حسن فؤاد للزهور الغائبة والغابات غير المرئية والغزلان المتخيلة والسواحل التي تضم في ظلالها الضوئية أطفالا يلعبون.
هذه تجربة متفردة في الثقافة المصرية وتاريخها الشائك، حيث يتحول كل شيء إلى نقيضه: المعتقل إلى فضاء مسرحي، وجوه الضباط إلى ألوان ومساحات وخطوط ظلال، هنا تصبح الوجوه الآلية مادة للتخيل البصري وتفارق على مدار لحظات جزئية خاطفة وجودها القمعي وتصير أشكالا وتكوينات على سطوح اللوحات، وتغدو لغة التواصل اليومية المترددة بين الزنازين والأفنية المغلقة جملا موقعة وصورا لغوية مرسلة وأبياتا منتظمة في ذاكرة شاعر، وكأن العالم أصبح في العقل لا في المكان، وكأن الحياة امتدت وفارقت حيزها المادي ومجالها المحتجز لتصبح فعلا إبداعيا حرا في عملية إزاحة مركبة: من انغلاق الزنازين إلى فضاءات الوجود المسرحي، من اللغة القطعية التي تعكس سيطرة الضابط وإشاراته المهيمنة إلى إيقاعات صوتية وتراسلات شعرية، ومن الوجوه القمعية التي تحتجز الحرية بل وتمتلك الحياة ذاتها إلى رسومات ولوحات وظلال، هذه الإزاحة المركبة وهذا التحويل الإبداعى للمكان والوجوه والعلامات هما ذاتهما ما كون نص “حلاق بغداد”.
وتلك هي النقطة الثالثة التي نود الإشارة إليها هنا، وهي النقطة المتمثلة في صيغة سؤال مقترح: لماذا لجأ ألفريد فرج إلى كتابة الكوميديا وقد كان معتقلا ومفتقدا الضرورات الأولى للحياة، منعزلا في زنزانة مغلقة في مكان تحيطه صحراء موحشة ومنقطعا عن كل ما يمكن أن يشكل مادة لوجود أو دافعا لكتابة، كيف فكر في تحويل القسوة اليومية إلى مواقف ضاحكة، والعنف الجسدي إلى مفارقات ساخرة، والعالم الضيق إلى محاكاة هزلية؟ هذا هو السؤال المحوري في تصوري، فالطبيعي أن ينعكس احتجاز المكان واستلاب الحرية والقمع الجسدي على بناء العالم المسرحي، ولكن أن تصبح الكتابة والعالم وكأنهما يعكسان حوارالمتناقضات في لعبة تبادل عكسي يغدو معها المكان الضيق فضاء متجددا والقسوة سخرية وكلام الظلام الممتد لغة ضاحكة، فهذا ما يستلزم بعض التوقف المجمل.
نعود، استشرافًا للسؤال واستكشافًا لممكنات إجابة محتملة إلى تجربة الكاتب ذاتها كما صاغها في شهادته وعمله التوثيقي، وكما سبقت الإشارة، فإن ألفريد فرج كتب الصيغة الأولى لكتابه التنظيري «دليل المتفرج الذكي إلى المسرح» عبر أسئلة يلقيها عليه بعض المعتقلين في مجلسه الظليل، وفق تعبيره، بجوار سور المعتقل ساعات العصر وانحدار الشمس، وهنا نلاحظ بشكل أولى وصفه لتلك الجلسات بالظليلة وحرصه على التحديد الزمني الدقيق بالوقت بين العصر والغروب، فهل كانت تلك الجلسات في لحظاتها الواقعية أوائل الستينات هكذا فعلا، أم أنها صارت كذلك مع استدعائها لحظة الكتابة بعد أكثر من ثلاثين عاما على حدوثها الفعلي؟
لدى هنا استدراك مجمل، أفتح له قوسا عابرا: هل كان الكاتب يحس فعلا بتلك اللحظات ويعيشها كما وصفها بعد ذلك، أم أن الصورة الشفافة لتلك الجلسات هي ما تبقت في الذاكرة وتواترت مع استحضار الكتابة لها، ممتزجة بحس شفيف ومشوبة بشيء من النوستالجيا لتلك الأزمنة، ليست ملاحظتء تلك مرتبطة بهذه الجزئية فقط، ولكنها يمكن أن تمتد منسحبة على الشهادة كلها، حيث يمكن لنا أن نلاحظ بشكل مجمل أن ألفريد فرج سجل شهادته عن المعتقل دون شعور بالغضب أو المرارة أوالأسى، هناك بالقطع اعتراض ورفض واحتجاج والتقاط ساخر للمفارقات والتناقضات، ولكن مع شيء لا أدري ماذا أسميه، قد يكون نوعا من التماهي النفسي مع التجربة، أو بتعبير أدق، مع استحضارها وابتعاثها حية في الكتابة لا في الواقع، ولعلَّ تحليلا للأنساق التحتية في النص التوثيقي، وتفكيكا لبناءاته اللغوية، يكشفان عن ما هو مضمر وخفي في علاقة الكاتب بتجربته الموحشة.
أتجاوز الاستطراد الآن وأتباعد عن القوس المفتوح، لأعود إلى السؤال الذي طرحته محاولا أن أستكشف ما وراء اختيار الكوميديا لتكون القالب أو الشكل الذي يعبر به الكاتب عن عالمه الكابوسي، فهل كانت المشاهد الضاحكة شكلا للتعبير أم كانت جسرا انتقاليا للعبور، بلغة أخرى، هل كان يعبر بالكوميديا عن رؤيته لتلك اللحظة المثقلة وهذا العالم المغلق، أم كانت – أي الكوميديا - خداع ذات تتوسل بحيل الكتابة وتتحررلحظيا بها من وطأة الغد المطفأ، وهل كان النص، بهذا المعنى، خداعا للعنف وتساميا عليه وقفزا على جراحه وظلامه المتكاثف، قد يعطينا الكاتب عبر سرده لوقائع التجربة وحكيه لمفارقاتها تأويلا أوليا أو مدخلا لتفسيرات محتملة، فقد طاف سؤال مماثل لما أثرته في عقل الكاتب، ومسَّت المفارقة المتمثلة في كتابة نص كوميدي في مناخ كابوسي خياله القلق، فالتقط التعارض بين العالمين الماثلين: المسرح والمعتقل، ومن هنا يكتب ألفريد فرج عن تلك اللحظة المنطوية على تناقضاتها: “كان جو المعتقل كئيبا ورهيبا، وراودتني خواطر أن أصور هذا الجو الكئيب بمسرحية مأساوية أوميلودرامية صارخة”، هكذا إذن كان خاطره الأول والطبيعي بالقطع، ولكن قلبه، بتعبيراته ذاتها، كان يميل إلى غير ذلك ويهفو إلى “إنشاء مسرحية فكاهية هزلية تثير الضحك الشافي من الأوجاع ومن لهيب الغضب”، ويستطرد الكاتب: “اكتشفت أن الأحزان في المعتقل مشاعر دارجة وعملة متداولة، أما الضحك المرح فهو مثل العملة الصعبة والقطع النادرة”، ويباغته سؤال فجائي: «لماذا لا تكون المسرحية التي أختار كتابتها كوميدية؟ لماذا لا نخاطر لا لكي تكون المسرحية آهة من آهات المظلومين وإنما لتكون ابتسامة المحزون وانفراجة نفس الكاظم”، وهكذا استقرت لديه عبر التقاط المفارقة وصياغة السؤال كتابة مسرحية “حلاق بغداد” التي جاءت وكأنها حوار بين مساحتين متضادتين: معتقل الصحراء، وفضاء المسرح، متوافقا بذلك مع ماتوصل إليه بعض المفكرين حول التفرقة بين الابتسام والضحك، الأول انعكاس لسرور لحظي، أما الثاني فهو نتاج الألم.
عبر تلك المقتطفات التي أوردتها عن الكاتب، نلاحظ أن التعارض بين واقعه الحياتي وتجربة الكتابة كان هاجسا أقلقه قليلا وسؤالا راود عقله، ولكن رجوعا تدريجيا إلى لحظة البداية التي أفضت فيما بعد إلى هذا التعارض الذي يبدو كليا، قد يقدم تفسيرا أوليا.
كانت البداية يوم صدر قرار بفصل ألفريد فرج مع ستين كاتبا وصحفيا من جريدة الجمهورية أول مايو من عام 1958، بعدها انتقل إلى العمل بدار الهلال وكان لا يزال يملكها الأخوان إميل وشكري زيدان، وامتدت به الإقامة كاتبا في الدار العتيدة حتى مارس 1959حينما انفتح باب مكتبه فجأة وأطل منه ضابطان من قوة مكتب الصحافة بالمباحث العامة، وبادره أحدهما بنطق اسمه الرباعي كاملا، ومتسائلا: ألفريد مرقس فرج بشارة؟ اندهش الكاتب من سماع اسمه رباعيا، وحينما رد بالإيجاب، باغته الضابط بالجملة الهادئة والمعتادة: عايزينك في الداخلية خمس دقائق لو سمحت، ثم اصطحبه إلى منزله حيث تم تفتيش صوري صاحبته حيرة عصبية واضطراب ضاغط حيث لا يعرف أحد عن ماذا يفتش، تساءل الضابط تخلصا من الموقف المرتبك: أستاذ ألفريد، ما عندكش أي كتب شيوعية ناخدها وخلاص؟ اجاب ألفريد بدهشة مكتومة: عندي كتاب أمريكاني يهاجم لينين وعليه صورته، وكتاب فيه قصص ومسرحيات مكسيم جوركي، قاطعه الضابط مهتما ومتهما: آه فيلم الأم، هاته. وهكذا وضع ألفريد فرج في أيديهم ثلاثة كتب هي: كتاب لينين الذي يهاجمه، فالمهم هو صورته على الغلاف باعتبارها شاهدا على وجوده، ومسرحية “الحضيض” لجوركي، وكتاب يحتوي على قصص لتشيكوف، وضع الضابط الكتب الثلاثة في ملف معتبرا أن الكتاب دليل اتهام وشهادة لا ترد على جريمة ما زالت تبحث عن توصيف وإثبات، فصورة لينين على الغلاف وصاحب قصة فيلم الأم وقصص تشيكوف الذي مات قبل الثورة البلشفية بسنوات، كل هذا لم يعد مادة معرفة وإنما أدلة على جرم الكاتب وإثمه، هذا المشهد العبثي الكوميدي شكل قوس البداية للتجربة، ولهذا كان طبيعيا فيما أظن وقد تلته أقواس أخرى سوف نتابع الإشارة إليها بإجمال، كان طبيعيا أن يلتقط الكاتب الجانب الساخر من التجربة والجزء الهزلي فيها.
لم يكن مشهد البداية الذي أشرت إليه هو فقط الذي حرك اختيار الكاتب للكوميديا، وإنما تلته مشاهد أخرى، كونت هذا العالم الضاحك في المعتقل، كانت شخصية “أبو الفضول” المستمدة من “ألف ليلة” تلح على خياله وتراوده في ظلال الجدران الثقيلة، فيرسم في الفراغ الليلي صورتها ويصوغ مواقفها وانفعالاتها ويتخيل حوارها مع الشخصيات الأخرى ممتلئا بدافع التقاط الفكاهي في الشخصية والساخر في العالم الثقيل، مفعما بقضايا الحرية والعدل والقانون، هي مسرحية متفردة قياسا إلى مناخات كتابتها، تجاوز بها كاتبها حوائط عازلة وأراد لها أن تكون علامة غضب ضاحك على أيام معتقلة.
تكونت مع الكتابة اليومية مجموعة حراسة للأوراق والمشاهد، يكتب ألفريد فرج عن ذلك متذكرا وشاهدا: “كنت أكتب في النهار وفي الليل، وكان المسئول عن تغطية عملي والإنذار بأي احتمال لمداهمة حملات التفتيش هو صديق العمر فيليب جلاب، وكان يقوم بنسخ ما أكتب الزميل العزيز عدلي برسوم... حتى نستطيع تخبئة نسختين في مكانين مختلفين احتياطا من وقوع نسخة في أيدي حملات التفتيش، وبعد أن تم تأليف المسرحية قام الصديق العزيز بنسخ عدة نسخ أخرى حتى نرسل الواحدة بعد الأخرى إلى الخارج”. بعد كتابة النص، فاجأه الكاتب الكبير صلاح حافظ بقرار نهائي: أنا سأخرج حلاق بغداد، وتشكلت فرقة مسرحية يكفي استعراض أسمائها ليحل لدينا نوع من الدهشة الضاحكة، حسن فؤاد الفنان المبدع ورئيس تحرير “صباح الخير” لاحقا في دور “الخليفة”، ومدرس الفلسفة الشاب “فخري مكاوي” في دور “حلاق بغداد” ولدور الوزير تم اختيار الكاتب الكبير “محمود أمين العالم” وأدى دور القاضي “إبراهيم عامر” مدير تحرير المصور فيما بعد، و”علي الشريف” لدور مسرور السياف، وهكذا فرقة تمثيل مكونة من كتاب وصحفيين وفنانين معتقلين، فيما قام حسن فؤاد بتصميم الملابس والصورة المسرحية حيث استطاع كسر اللون الأصفر بدرجاته المختلفة المخيمة على غرف السجن والملابس والحوائط، كان الاقتراح الأولى أن يدور العرض في الممر بين غرف السجن وسعته لا تتجاوز ثلاثة أمتار، وتجاوزا لضيق المكان جاءت فكرة تصميم إضاءة فنية حيث قام الكاتب نفسه بتصميم نموذج للبروجيكتور على الصفيح المغلف بالأوراق الفضية لعلب السجائر، وأشرف على سحب الكهرباء وتحميلها بشكل آمن الدكتور فايق فريد أستاذ الكهرباء في كلية الهندسة ونائب وزير الكهرباء فيما بعد، ولكن الممر الضيق لم يكن صالحا لحركة الممثل وصياغة الإضاءة والديكور، فانتقلت المسرحية إلى فناء المعتقل، نهارا في ضوء الشمس أو مساء في إضاءة محكمة وموحية، وهكذا قام المهندس فوزي حبشي والدكتور فايق فريد والفنان حسن فؤاد تباعا بتصميم الإطار المعماري ومصادر الإضاءة وتنفيذ الملابس والمشاهد.
رحبت إدارة المعتقل بالفكرة، حيث بدا لهم أن انشغال السياسي المعتقل بالمسرح قد يكون مقدمة لابتعاده التدريجي عن العمل التنظيمي، وهكذا تمت كتابة “حلاق بغداد” في المعتقل وعرضها في ممراته وفنائه، حيث توافد على مشاهدتها ليس فقط معتقلو الواحات أو ضباطها وعساكرها، بل موظفو المحافظة كذلك، ثم أطباء وصيادلة الواحات، ثم المهندسون الزراعيون وغيرهم، ومع هذا التوافد اليومي للمشاهدين من داخل المعتقل وخارجه، نشطت فرقة المعتقلين المسرحية وقدمت ما يشبه الريبرتوار، ولعل قائمة العروض التي تتابعت على مسرح الواحات يمكن أن تكون دالة وكاشفة: “نيكراسوف” لسارتر و”أحزان نوح” لشوقي عبد الحكيم، “عيلة الدوغري” و”ماكبث” و”الحضيض” و”بيت الدمية” و”موت بائع متجول” و”جمهورية فرحات” و”مجنون ليلى” و”تلاتين يوم في السجن” و”السبنسة”، وغير ذلك. وقد توافد على الإخراج والتمثيل قائمة مذهلة من الأسماء التي شكلت فيما بعد جدارية ثقافية وفنية ممتدة، ويكفي استعراض مجمل لأسماء حسن فؤاد، محمود أمين العالم، فخري لبيب، صلاح حافظ، لويس بقطر، خالد حمزة، مهدي الحسيني، نبيل الهلالي، وعلي الشريف وسمير عبد الباقي، وغيرهم، لكي نتوصل إلى أن تلك الأيام انطوت على تجربة من أثمن تجارب الثقافة والسياسة في مصر، وواحدة من أعلى تجسدات الإرادة الحية وتجليات العقول المبدعة، كان المثقف منضويا في غمار الشوارع والناس والأفكار، انطوى في ظلمة معتقل ولكنه تجاوز ذلك إلى فضاءات ممتدة ومتحررة. ولعلي استطرد، مجددا، هنا، وأفتح قوسا ثانيا أشير فيه إلى ملمح إضافي فيما يمكن أن نسميه سيرة المثقف في الستينات والسبعينات، فبعد تجربة المعتقل، جاء الخروج الكبير لهؤلاء المعتقلين أنفسهم أو جزء أساسي منهم إلى المدن الغربية “باريس، لندن، برلين” وإلى العواصم العربية “بيروت، بغداد، وغيرهما”، وذلك ابتداء من السبعينات الأولى وحتى مشارف التسعينات حيث عاد من تبقى أو أراد ليقضي سنواته الأخيرة مثقلا بميراثه الفكري وتجربته الممتلئة بالقهر والكتابة، لقد خرج المثقفون من المعتقلات تباعا على مدار عامي 1963 - 1964، وانخرط أكثرهم في إطار التجربة الناصرية شاغلا مواقع رسمية فيها، أو منتميا لتنظيماتها السياسية، أو منشغلا بالكتابة والإبداع في صحفها ومسارحها، بينما اكتفى من ظل محتفظا برؤيته المتناقضة ومواقفه المتعارضة بمساحة الهامش السياسي والاجتماعي وموقع النقيض وأحيانا بدور المبشر، ثم هبطت الآلة من سقف المسرح بقطع قدري، وحل التحول التراجيدي وارتحل الممثل في مسرحية الرجل الوحيد وغادر نقطته الذهبية، غاب عبد الناصر وانحسر ظله العالي، وحل نقيضه المتسلل إلى غرفة نومه والقابع، متواريا، في أجهزته وتنظيماته، وبدأت مواسم قهر وانحسار أخرى فكانت هجرة المثقف وخروجه الكبير، كما أشرت، ابتداء من أوائل السبعينات وتباعا إلى ما بعد منتصف الثمانينات، وهكذا تراوحت سيرة المثقف في العقدين الشائكين، الستينات والسبعينات، بين ثنائية السجن والغربة، وهو العنوان الذي خطه “فتحي عبد الفتاح” لكتاب سيرته الذاتية معبرا ليس فقط عن تاريخه الفردي وإنما عن سيرة جيل وتحولات تجربة وسياقات زمن. أغلق قوس الاستطراد العابر والمجمل، وأتابع مجددا ما حاولت توضيحه عن مبررات اختيار الكوميديا لتكون هي مدار كتابة نص مسرحي في مناخات كابوسية ضاغطة يثيرها معتفل هو ذاته بناء محتجز في صحراء ممتدة، لقد كان مشهد الضابط وهو يأخذ كتابا عليه صورة لينين رغم محتواه النقيض وكتابا آخر يحتوي غلافه على اسم جوركي استنادا إلى أنه مؤلف فيلم مُصادر “الأم” وكتاب قصص لتشيكوف، كان هذا مشهدا كوميديا بامتياز لا تغيب دلالاته أو إشاراته عن خيال مسرحي يعرف أصول العمل وعقل ناسج للصور المسرحية حتى ولو كان صاحبه مقيدا ومحتجزا في مساحة ضيقة، فالكتاب، وفق هذا الإجراء الهزلي، أصبح دليل اتهام وليس تجسدا إبداعيا لتجربة، والكتابة غدت برهان إدانة وليس بناء معرفة، وحينما يحرس الكتابة ويحتفظ بأوراقها وينظم تداولها السري وخروجها من المعتقل إلى منزل الزوجة الحافظة، يفعل ذلك كله، وفق نظام محكم، سجناء هم في الحقيقة كتاب وفنانون وشعراء، اعتادوا أن يكونوا مُراقَبين ومُحاصَرين، ولكنهم الآن هم من يراقب حراسهم ويحاصر العيون المتلصصة، انعكست الأدوار وتحولت، وأصبح السجين حارسا للكتابة وحاميا لها ومراقبا لحملات التفتيش لا موضعا لها 0هذه كذلك مشاهد تنطوي على مفارقات ضاحكة رغم ثقلها المأساوي، أفضت لأن تكون الكوميديا اختيارا ومجالا للكتابة، ولكن هل اكتفى العالم الكابوسي المحيط بأن يُملى اختيار الشكل واقتراح القالب أم تسلل للكتابة ذاتها؟ بصيغة أخرى للسؤال، هل انعكست العلاقة بين المسرح والمعتقل على بنية النص ذاته، على صياغات المكان والدلالة والموقف والحوار؟ هذا يحتاج بالقطع إلى استقصاء نقدي وجهد إضافي، ولكنني أكتفي الآن بإشارات مجملة لبعض العلامات.
في الإرشادات التي تحدد تشكيل المكان في نص الحكاية الأولى “يوسف وياسمينة” يصف ألفريد فرج بشكل تفصيلي بهو دار يوسف الموصلي ويستغرق في نسج جزئيات المدخل أو منطقة الأداء التي تنفتح عليها الستارة المسدلة، فالباب فوقه عقد مزخرف، وهناك نتوء في الحائط كالرف، جزء منه منحوت عليه إبريق نحاسي، وعلى الرف فجوة يبرز منها صندوق مزين بالنقوش، وهكذا، وشْي ومنمنات وجزئيات بصرية تشكل الفضاء المسرحي بوحداته المادية وتفاصيله المرئية، ولكننا نلاحظ إشارة خاطفة ودالة اتصور أنها انعكاس متسلل من مناخ المعتقل مؤطرا قوس البداية، يخط الكاتب: “الجو معتم، يضطر الداخل من الباب أن يتوقف لحظة حتى تعتاد عيناه درجة الضوء في العتمة، رغم أننا صباح يوم جمعة”، هكذا جاءت الإشارات الأولى للمكان، فهل كان هذا وصفا لمشهد البداية أم كان وصفا لدرجة الضوء في الزنازين، الدرجة التي تحتاج اعتيادا متدرجا من عين الداخل إلى عتمة المكان الحبيس، قد تكون تلك الإشارة المجملة إلى علاقة مشهد البداية ببعض التجسدات البصرية للمعتقل خارجية ومقحمة قليلا، ولكنني أراها متصلة بشكل عضوي ورابطة بدرجة ما بين التجربتين: السجن والمعتقل، غير أن تحليلا لرؤية العالم كما تجسد في البنية الدلالية للنص يمكن أن يكون كاشفا أكثر وأعمق، يصوغ النص رؤية لعالم محتجز ومغلق، ويشير حوار البدايات فيه إلى علاقة شائكة قد تفضى إلى الموت في حكاية «يوسف وياسمينة»، وقد تؤدى إلى استباحة الجسد في الحكاية الثانية “زينة النساء”، في المشاهد الأولى تتبدى صورة شاب “يوسف” في غرفة مسدلة الضوء ومحجوبة، ينتظر فتاة عاهدها قبل ذلك على العشق ولكنه الآن يواعدها على الموت، إبريق السم على رف منحوت في حائط، وسرير اللقاء سوف يغدو سرير النهاية، كذلك أيضا مشاهد البداية في الحكاية الثانية، امرأة حبيسة المكان تحيا في خطر استباحة جسمها، يراودها رجل يمتلك سطوة المنصب وفورة الرغبة “أمين سر المحكمة”، ويخيرها بين أخذ الحق ومنح الجسد، وهي الآن محاصرة في بهو بيتها بين الوعد والوعيد، الشخصيتان كما نلاحظ في لحظات قلقة واختيارات خطرة، الموت في الأولى واستباحة الجسد في الثانية، وهما يظهران في بهو مغلق ومكان مختبئ، وعبر مفارقات تالية وسياق متتابع، ضاحك وهزلي قليلا، يصوغه حلاق فضولي وجارية وخادمة، يتكشف الوجود الشقي والغد المأزوم، وتبدو الحلول وكأنها هي ذاتها انغلاق العالم وانتفاؤه، التخلص من الجسد وشبيهه المحب في الأولى، والخروج من حصار المحنة بقتل الجسد النقيض في الثانية، حلول هي ذاتها حصار مصائر وابتسار وجود، ثم يظهر الخليفة العادل والباسم والحاسم فجأة في النهاية عبر مصادفة قدرية يشكلها مرورعابرأمام المنزلين في الطريق إلى الصلاة، فتنفك العقدة وتنحل خيوطها المتشابكة ويحل العدل النهائي، يتزوج العاشقان في حكاية، وتنجو المرأة من وعيد السلطة وإغوائها الآثم في حكاية أخرى، وهكذا هي عوالم تشفُّ لحظة انغلاقها عن حلول فوقية، وبناءات بسيطة وموحية: أماكن محتجزة وشخصيات مأزومة ومفارقات ضاحكة وحلقات ضاغطة تنفك بوجود قدري لخليفة يدرك الموقف بنظرة ويحيط بخيوطه المتداخلة بلمحة ويكسر أفق التوقعات بإشارة ويبدل المصائر بإرادة لا ردّ لمشيئتها ويقضي ببصيرة عادلة، تلك الرؤية التي حاولت رصد عناصرها التكوينية يمكن أن تكشف لنا النسق المضمر والنص التحتي، وكذلك التماثل الخفي بين العالمين: المسرحي والواقعي، فكلاهما يحتوي على العلامات والعلاقات ذاتهما: مكان مغلق، شخصيات مأزومة، سياق هزلي، مفارقات ضاحكة، وحلول توفيقية، فوقية ونهائية، “قد نلاحظ هنا أن الخليفة لم يتخذ موقفا أو إجراء مع الوزير والقاضي رغم اكتشافه أنهما يكادان أن يقوضا دولته بالفساد والمكائد، بل اكتفى بخطاب تطهيري ينشد فيه البراءة ويلقي تبعات المفاسد على حاشية محيطة وملتصقة بعرشه ذاهبا بعد ذلك إلى الصلاة”.
تلك هي العناصر التي انطوت عليها علاقات التماثل الخفية بين التجربتين اللتين خاضهما الكاتب، معتقلا وكاتبا. أكتفي الآن برصد مجمل لها متصورا أن استقصاء نقديا آخر قد يكشف عن تماثلات أعمق وأبعد، ولكنني أود ألا أبارح هذه النقطة دون إشارة ولو خاطفة إلى المشهد المركزي في الحكاية الثانية، حيث يطلب الخليفة من الحلاق الشهادة بالحق، فيجاوبه هاذيا ومتسائلا: ومن الذي سيحميني غدا؟ وحين يعطيه الخليفة منديل الأمان، يطالبه الحلاق أن يعطي لكل رجل في الرعية منديلا، كان لهذا المشهد أثرٌ مدوٍ بين الجمهور، أطلق شرارة توهجت بها الصالة كما يصف ألفريد فرج متذكرا “كان التصفيق والضحك ودب الأقدام يضفي على المشهد بعدا جماهيريا قد يتجاوز ما كنت أتصوره، بما دعا الفنان عبد المنعم إبراهيم أن يمسك بالخيط بقوة، ويضيء الصورة بالحركة والنبرة والقناع المسرحي، فكان إذا أخذ المنديل يلوح به للوزير والقاضي والشهبندر فيتمايزون غيظا ويتباعدون ويحدجون الحلاق بنظرات الوعيد، وهو ينشر المنديل ويطويه، فإذا أطلق عبارته: لكل رجل منديل، أشار إلى الناس في الصالة والناس في البلد، فتجيبه الصالة بالحماس والضحك وبآهات الراحة في الصدور والتوقيع على المطلب بالتصفيق”. هذا هو المشهد المركزي في المسرحية ونقطتها الذهبية، وهو مشهد كاشف في ذاته وموحٍ بما هو مضمر وخفي في النسق اللغوي والحركي للنص، وعلاقته بمناخات المعتقل والواقع معا.
أود الآن أن أضيف نقطة ختامية تشير في مجملها إلى ما يمكن اعتباره جدل المتناقضات في مرحلة الستينات التي كان المعتقل جزءا من نسيج العلامات فيها، وكان المجال العام المفتوح كذلك واحدا من صيغها المتعددة، ولعل تجربة ألفريد فرج يمكن أن تكون دالة على هذا وكاشفة، فقد خرج من المعتقل إلى المسرح مباشرة، ومن الزنازين الموحشة إلى فضاءات الشوارع والمقاهي والحوارات المفتوحة، من مستشفى السجن إلى صالات تحرير الجرائد، ومن ظلال الحوائط الصماء إلى المقاعد الأمامية والمواقع الرسمية، من الوجود النقيض الذي أفضى إلى الاحتجاز والحصار إلى الاشتراك في صياغة الحضور الثقافي للمرحلة.
أستشهد هنا ببعض الوقائع على انفتاح المجال العام بدرجة ما في إطار معين وشروط محددة كانت تجربة الكاتب كاشفة لها، في يوم الخروج ذاته من المعتقل، وبعد ساعة من وجوده بمنزله، دق جرس التليفون، فإذا هو أحمد بهاء الدين يدعوه إلى العمل في دار أخبار اليوم، وفي اليوم التالي اتصل به أحمد حمروش وكان آنذاك بشغل موقع المدير العام لمؤسسة المسرح والموسيقى والفنون الشعبية، يتمنى عليه لو استطاع أن يساهم في برنامج المسرح القومي بمسرحية جديدة، دعوتان في يومين متتابعين، أحدهما هو يوم الخروج، دعوة للعمل المنتظم في الصحافة، والثانية للكتابة للمسرح القومي، انفتح المجال العام إذن مؤشرا على ثنائية المعتقل والفضاءات الحرة التي كانت واحدة من صياغات الستينات وتناقضاتها الظاهرية.
وهكذا لم يوضع اسم الكاتب الخارج من الاعتقال على قائمة سوداء، ولم يعد مقصيا عمَّا يحب: المسرح والقهوة السادة والكتابة، جهز ألفريد فرج مشاهد “حلاق بغداد” وأجرى بعض التعديلات على بناء الشخصيات ولغة الحوار لكي تناسب العرض على المسرح القومي في ضوء العاصمة هذه المرة لا في عتمات الممر الفاصل بين غرف مطفأة، هذا الانتقال في ذاته يدل على ما أشرت إليه من ثنائية السجن والفضاء، المعتقل والمجال العام المفتوح، نص مسرحي يمثله معتقلون ثم يؤدي أدواره نجوم التمثيل، يحرس كتابته السجناء ويشاهده ضباط السجن وعساكره، ثم يحتفي به ويحاوره كتاب ونقاد كبار ويتوافد عليه يوميا جمهور يملأ صالة الحضور. ولعل واقعة أخرى خاصة بالعرض يمكن أن تعطينا مثالا إضافيا على ذلك، في ذروة ذيوع المسرحية وانتشارها الجماهيري والنقدي، هاتفه مجددا أحمد بهاء الدين طالبا منه قراءة جريدة الأهرام دون انزعاج أو سؤال، وانتظاره لاتصال تليفوني آخر، تصفح ألفريد فرج الجريدة إلى أن وصل إلى الافتتاحية المنشورة تحت عنوان “مجرد رأي” التي تمثل رأي الأهرام وبالتالي الدولة وفق الشائع تلك الأيام، حيث وجد مقالا دون توقيع يرى أن المسرحية تنطوي على حقيقة خطرة تجاهلها النقاد أو مروا عليها دون اكتشاف، فالمسرحية تقول إن الخليفة كان معزولا عن واقع شعبه ولا يدري شيئا عن المفاسد التي تنخر جسد الأمة، ويتساءل كاتب المقال: “هل هذا كان طابع الخلافة العباسية في بغداد، أم أنه رمز لما هو أخطر”، ترك الكاتب السؤال معلقا وإن كان يشير بشكل واضح إلى ما يمكن أن يكون تشابها بين الخليفة وجمال عبد الناصر نفسه، ما جعل الانزعاج مضاعفا هو أن الكاتب لم يوقع وإنما كتب باسم الأهرام أو باسم الدولة، اضطرب ألفريد فرج وتكاثف شعوره بالخطر عارفا ما قد يترتب على الإشارة، غير أن تليفونا ثانيا جاء من بهاء الدين يخبره أن المسألة سويت، ليس هذا فقط، بل إنه سوف يحضر برفقة محمد حسنين هيكل إلى المسرح ومشاهدة العرض، وبالفعل حضر الكاتبان الكبيران مع وعد من هيكل بأن يكون الأهرام مدافعا عن حرية التعبير في المسرح لا مضادا لها أو نافيا، وهكذا، تراوح آخر في بنية الستينات الثنائية، كان المقال الصباحي الذي كتبه صاحبه متصورا أو متوهما أن هذا هو اتجاه الصحيفة الأولى، كان المقال دالا على طرف الثنائية الأول، احتجاز الحرية واعتقال العقل، فيما جاء الاستدراك المباشر للخطأ والخطر من بهاء ثم حضوره مع هيكل للمسرحية وانفتاح الجريدة والمناخ العام كله بعد ذلك لكي تتحقق التجربة المسرحية، ويتأكد حضورها المتحاور مع واقعها الآني، كان ذلك طرف الثنائية الآخر والنقيض الدال على انفتاح المجال العام في تلك المرحلة الفارقة، تبقى إشارة أوردها ألفريد فرج وهو يحكي تلك الواقعة ويتذكرها، ففي اليوم ذاته الذي صدرت فيه الأهرام محتوية على المقال المتربص زاد الإقبال الجماهيري على العرض، فقد حُجزت جميع المقاعد ثلاث ليال مقدما ولا يزال الطابور أمام الشباك طويلا، بهذا قال “آمال المرصفي” الذي كان مديرا وقتها للقومي معتبرا أن مقال الأهرام هو السبب، وهكذا شكل الجمهور قوسه الخاص وأضاف اختياره لحرية التعبير ورفضه لحصار العقل والكتابة.
تلك كانت نقاطا مجملة توقفت فيها على عتبات النصين: المسرحي والتوثيقي، وحاولت استشراف العلاقة المتداخلة بين أيام الزنازين وتجربة الكتابة كما تجسدت في نص “حلاق بغداد” والشهادة المصاحبة له هنا، لقد تلقى ألفريد فرج وساما من عبد الناصر اعتبره الكاتب تكريما مرتبطا بالمسرحية التي كتبها في المعتقل منتقدا في بعض صورها ورموزها غياب الديمقراطية، فهل بعد هذا ما يمكن إضافته استجلاء لتلك العلاقة المتضادة والمركبة التي كونتها الستينات: المسرح والمعتقل، استلاب الحرية وانفتاح المجال، الزنزانة والوسام.

 


محمود نسيم