تسجيل دخول «فيسبوك» ماكينة طحين تلتهم الأطفال

تسجيل دخول «فيسبوك» ماكينة طحين تلتهم الأطفال

العدد 587 صدر بتاريخ 26نوفمبر2018

الكثير من الأعمال الدرامية تناولت وسائل الاتصال الرقمي ومواقع التواصل الأفتراضي موضوعا لها، باعتبارها واقع الحياة الحالية، وجزء لايتجزأ من تكوين الفرد والمجتمع الحاليين ومشكلاتهما وقضاياهما، وذلك لأنها صكت تعريفات جديدة لمفاهيم رسخت طويلاً حول الفرد والمجتمع، ولا سيما مفاهيم تتعلق بالفن، بل أنها المعول الحقيقي الذي قضي على مفهومين أساسيين ارتكز الفن عليهما هما لأمد طويل «الحقيقي / المتخيل «الإيهامي والفعلي»، فلو أن الفن ولا سيما الدراما هي تجربة لمعايشة واقع إفتراضي عبر الشعور فقط، فإن تجربة التواصل الرقمي كذلك. بحيث يعايش الفرد واقع مفترض في كلاهما، يعايشه عبر حاستان (البصر والسمع)، إلا أن التواصل الرقمي أضاف التفاعل الحي المستمر، بل والمساهمة أيضا في إنتاج هذا الواقع، وهذا مايجعلنا نعيد طرح السؤال القديم الذي ظل يتجدد منذ نشأة نظرية الدراما، هل الفن محاكاة للواقع؟ بالطبع الأجوبة على هذا السؤال تراوحت وأختلفت من وقت لأخر ومن تيار لأخر حسب توجهات أيدولوجية وجمالية، إلا أن هذا السؤال ربما حسم الأن، إذ إن مواقع التواصل الاجتماعي الآخذه في التطور بسرعة فائقة تستطيع محاكاة الواقع على نحو شديد الدقة مطورة من ذكاءتها الخاصة، إذن لماذا الفن! لماذا نحتاج أن نرى حياتنا تتحرك أمامنا؟ هل لمجرد محاكاة الواقع! وأي واقع!
في تجربة (تسجيل دخول log in) على مسرح الهناجر، فكرة وإخراج هاني عفيفي، يحاكي العرض الواقع الإفتراضي نفسه عالم مواقع التواصل الاجتماعي، بل أنه إلتزم بنقل هذا الواقع نقلا حرفيًا كمراقب له ليتطور العرض نفسه عبر آلية تطور حركة time line)) الممتلئ بالاقتباسات، الاخبار، الانطباعات، الكوميكس، التريندنج، البث المباشر live، إضافة إلى مجموعات الدردشة، واضعًا الجمهور في وضع المستخدم user السلبي “المراقب”.
على الرغم من اعتماد العرض على محاكاة مجتمع التواصل الإفتراضي «التفاعلي» إلا أنه اعتمد على التقسيم التقليدي بين منطقة الجمهور وخشبة المسرح(منطقة الأداء)، بل إنه يؤكد على هذا الفصل عبر وجود باب في مقدمة يمين الخشبة باعتباره الباب المؤدي لعالم العرض أو الواقع الافتراضي. ما يربط فضاء المتفرج وفضاء العرض ببعضهما شخصية تشبه الجوكر / الساحر، وهي شخصية تستطيع الانتقال بين الفضائين بحرية وتتجه بالحوار لكلا الفضائين، هذه الشخصية التي تمتلك سلطة إيهامية على الجمهور والمؤديين هي نفسها (facebook). حيث تفتتح تلك الشخصية العرض، يؤديها (أحمدالسلكاوي)، عبر الحوار المباشر مع الجمهور، وتنهي أيضا العرض من خلال صورة رمزية لهذا الجوكر جالسًا بجوار دمية بلاصوت الا صوته المتسلط على المشهد، هذه الصورة الرمزية تلخص ببساطة رؤية مفادها سيطرة هذا الواقع الافتراضي على (الإنسان / المستخدم) فتجعله مثل دمية بلا إرادة، وهي نتيجة أحادية لايمكن اعتبارها ناتجة عن علاقات جدلية داخلية لنص العرض، إنما هي نتيجة محسومة من اللحظة الأولى، وربما من قبل العرض نفسه. أولاً: لأن التقسيم الحاسم بين المنصة والجمهور يؤدي إلى خطاب تقليدي يسير باتجاه أحادي يدعي امتلاك الحقيقة ويمليها على الجمهور، بإلإضافة إلى أن عملية المحاكاة للواقع الافتراضي باعتباره الواقع الأوحد نفي ما هو خارجه ركزت الخطاب في منطقة إدانة مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها الوسيلة والفاعل معًا.
ثانيًا: التركيز على إرادة شخصية (الجوكر / الساحر) ونفي إرادة الشخصيات داخل الفضاء الافتراضي، وعزل الجمهور عن التفاعل الذي هو ممكن في مواقع التواصل الاجتماعي بل أنه الإمكانية الأهم فالمتفاعل مع مواقع التواصل الاجتماعي هو مساهم في بناءه على عكس الإعلام التقليدي، وحتى في حوار الجوكر للجمهور هذا الحوار الذي يبدو تفاعليًا إلا أنه سابق التجهيز ومغلق بشكل تام، ويديره بإحكام الممثل «أحمد السلكاوي «، بحيث لا يسمح للجمهور بالرد متفاعلاً، بالإضافة لوجود ممثل بين الجمهور يتم توظيفه (في مشهد بثلث العرض الأخير)، يحاول الخروج من العرض كمستخدم للفيسبوك، ويقنعه الجوكر بالبقاء، وبهذا يؤكد العرض بهذه اللعبة الأخيرة على حدود تفاعل الجمهور كمتفرج، تضمين الجمهور لعالم «الفيسبوك «تضمينًا إجباريًا كمتفرج ليس إلا مع ذلك لن يسمح له بالتفاعل الا بالضحك - الحد الادني من التفاعل - انطلاقا من النتيجة التي ينتهى بها العرض: عدم قدرة المستخدم على الخروج وبقاءه بلا إرادة وبلا قدرة على إدارة ودفع هذا الواقع الإفتراضي. وبالتالي مارس العرض على الجمهور دور السلطة التي إفترضها في الفيسبوك، وبالطبع حفاظ العرض على الوضع الاستاتيكي بين الجمهور والخشبة (كرس لخطاب يتعامل مع الفرد بشكل مسبق باعتباره دمية ومع مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها شيطان يتحرك من تلقاء ذاته).
ثالثا: بنية دراما العرض المعتمدة على مشهد واحد متكرر (دعوة للمقابلة جماعية في الواقع - فشل المقابلة - تبادل النميمة الجماعية البث المباشر من على مقعد الحمام - حركة scrolling التي تأتي بنفس المادة على شاشة العرض وشريط الصوت)، تكرار المشهد، وهو جوهر البنية يؤكد على النتيجة المسبقة لا شيئ يحدث في مواقع التواصل الاجتماعي والفرد الافتراضي ليس فردًا بالأساس، فقد سعي المشهد إلى تحطيم (ماهية المكان، الزمان، الفرد، المساحة الخاصة والعامة)، هذه العناصر التي يهشمها العرض يبدأ في تهشيمها عبر المنظر المزدحم بقطع الأثاث والذي يتصدره مقعد حمام إلى جوار اريكة، وبهذا يقضي على مايسمى الخاص والعام، السري والعلني، والفردي والجماعي. المنظر مصمم بدرجة ميل للأمام تجعله كما لو كان مسطحًا مثل صفحة بلا أبعاد أو أعماق. كل جزء من الديكور يشكل مكانًا لشخصية من الشخصيات، وبالفعل يبدأ العرض من ثبات لحظي يؤسس لكل شخصية في مكانها الخاص المؤقت، وسرعان ما يذوب هذا التحديد نفس ذوبان الأثاث في المنظر، رغم التركيبة الغريبة لوضعية الأثاث إلا أن تصدر الأريكة والمقاعد لمقدمة منتصف المسرح تجعلنا نشعر بأننا نري «غرفة معيشة - living room» بكل أريحيتها وحميميتها التي تضفي آلفة على هذا التجاور غير المنطقي للقطع داخل المنظر، ولا سيما مع وجود قطعة مثل مقعد الحمام بجوار الاريكة، هذه الألفة التي خلقها الديكور (تصميم: مي كمال) هي نفسها الآلفة التي يضفيها الفيسبوك على العوالم المتقاطعة والمتنافرة التي تتوالى بداخله، بالإضافة إلى أنها سمحت بالتأسيس للفكرة الرئيسية إمكانية احتلال كل شخصية لمكان الأخرى وإنتحالها بما يعنى ميوعة السمات الشخصية (للفرد الافتراضي)، في كل مرة يتكرر المشهد الرئيسي بعد فاصل عامل الديلفيري الذي لايصل والذي يعبر غيابه عن الغياب الفيزيقي الجسدي، وهو ما يميز الواقع الافتراضى “الحضورالإفتراضي للأفراد”، يتبادل الأفراد مواقعهم وشخصياتهم، وبالتالي يلعبون أدوارًا إفتراضية غير حقيقية «فيما لم يقدم لنا العرض تصورًا لماهية الحقيقي، وماهية الواقعي، لأنه عزلنا كمستخدمين لـ«فيسبوك» وعزل نفسه معنا في محاكاة لواقع افتراضي غير مدرك لما هو خارجه مثل آلة مجنونة، بل أنه أفترض وجود إله خفي لهذه الأله المجنونة هو الجوكر وبالطبع هذه الرؤية الخائفة تجعلنا نتذكر رواية الطوق والأسورة وخصوصا موقف رفض أهل القرية لشراء ماكينة الطحين لأنها تأكل الأطفل!
استطاع العرض أن يقدم لنا صورة ساخرة لمواقع التواصل الاجتماعي تنتمى لعالم الاستاند أب كوميدي في اعتمادها على براعة المؤديين، وعلى المواقف القصيرة المضحكة والطريقة المألوفة لنقد متفأعلى التواصل الاجتماعي له (الكوميكس والترندنج)، ليصبح العرض إمتدادًا للواقع الإفتراضي نفسه، ولأولئك العاجزين عن التفاعل معه والمنتقدين له في نفس اللحظة، ولذلك فهو يكرر نفس الأحكام المطلقة من قبيل أن مواقع التواصل الاجتماعي أفسدت العلاقات الإنسانية، أو أن لا شيئ يحدث على وسائل التواصل الاجتماعي، أو أن الحياة الافتراضية تعيد نفسها بلاوعي، خاصة غياب الوعي بالزمن، وأن الأشخاص بداخلها هويات ممسوخة، ...الخ، إلا أن هذه الرؤية الأحادية السلطوية التي ترى التغير شبح مفزع قابلة للتفنيد عبر طرق كثيرة، أبسطها أن دعاية هذا العرض قد اعتمدت أساسًا علي موقع «الفيسبوك» نفسه.


ليليت فهمي