النص غير الحواري  مدخل للقراءة والفهم (1)

النص غير الحواري  مدخل للقراءة والفهم (1)

العدد 582 صدر بتاريخ 22أكتوبر2018

يكتب النص الدرامي المسرحي بالأساس لصناع وجمهور العرض المسرحي، فالنصوص الدرامية تكتب لتعرض، وليست كالنصوص الأدبية تكتب لتقرأ، لكن مع تطور الدراما وجمهورها، ومنذ أصبح النص الدرامي مطبوعا، فإن جمهورا من القراء التحق بدائرة تلقي النص الدرامي المسرحي، وبالتالي فكاتب النص الدرامي أصبح يتجه بنصه لثلاثة فئات من المتلقين:
الأول: هو كل واحد من صناع العرض المسرحي، الذي يقرأ النص ليتمكن من إتمام عمله في دائرة كبيرة من الأعمال المتضافرة لإتمام الفعل الدرامي المسرحي الأكبر، الذي هو العرض المسرحي على خشبة المسرح وأمام جمهوره.
الثاني: هو كل واحد من جمهور العرض المسرحي الذين يشاهدونه بعد أن عمل صناع العرض ما لديهم ليحولوه من كلمات على الورق إلى أجساد وأصوات وألوان وحركة على خشبة المسرح، هذا الجمهور يستهدفه الكاتب بالأساس، كما يستهدفه المخرج والممثل والموسيقي والسينوغراف.. إلخ.
الثالث: هو قارئ النص الورقي المطبوع، الذي يقرأ الرواية والقصة القصيرة والشعر والملحمة والمقال.. إلخ، وعلى الرغم من صعوبة قراءة النص المسرحي - إذا قيس بأي من فنون الأدب - فإنه لا يعدم قراء من مستويات ثقافية واجتماعية مختلفة، لكنه لا ينافس فنون الأدب كما ولا كيفا في ذلك، وهذه الفئة لا تضم القراء من النقاد والباحثين، فهؤلاء لا يتوجه إليهم المؤلف، وهذا لا يقلل من أهميتهم، خاصة عندما تتحول قراءتهم لإضافة للنص ومؤلفه، وصناع العرض وجمهورهم، وكذلك قراء النص المطبوع.
والفئات الثلاثة مستهدفة داخل عالم النص المطبوع: فئتان بشكل مباشر، وهما القراء وصناع العرض، وفئة بشكل غير مباشر، وهي جمهور العرض الذين لا يصلهم النص إلا عبر مجموعات من الأعمال التي يقوم بها كل ممن يساهمون في إنتاج العرض المسرحي، بالمعنى الأشمل لكلمة إنتاج.
والجمهور المستهدف يشكل أحد معايير بناء النص الورقي المطبوع، وكذلك الحكم على كفاءته، لكن على رأس فئات الجمهور الثلاث، يحتل صناع العرض المسرحي المكان الرئيسي والأهم، فمهما تطورت بيئة تلقي النص المطبوع، فإن الدراما عامة، والمسرحية هنا محل للاهتمام، تكتب لتعرض أمام جمهور، في عرض يقوم بالأساس على التمثيل، وبالتالي فالمؤلف الدرامي يوجه رسالته أولا لهؤلاء الذين يصنعون هذا العرض، حتى يتمكنوا من فهمه، وتطويره، وتجسيده، وإحيائه في عرض ممتع، ومؤثر في كل فرد من أفراد جمهور العرض.
ومن هنا، كانت كفاءة النص الورقي المطبوع مرتبطة بقابليته للإخراج أكثر من مرة، وبالتالي حياته في امتداد الزمان والمكان، مثلما هو الحال في النصوص الكلاسيكية الكبرى الإغريقية والشكسبيرية وغيرها، على الرغم من أن هذه النصوص لم تنشر وقت تأليفها وعروضها الأولى، لكنها فرضت على المعاصرين، ومن تلاهم أن يحافظوا عليها، بصورة أو بأخرى، وأن ينقبوا ويفتشوا عن بقاياها حتى الآن.
وبالتالي، فإن بقاء وحياة وانتشار النصوص الدرامية من عدمه ليس قرارا يتخذه مؤلف النص، ولكنه يتوقف على كفاءة هذا النص في صورته التي يصل بها إلى قرائه، وخصوصا صُنَّاع العروض المسرحية منهم، وليس في يد المؤلف إلا رفع كفاءة هذا النص الدرامي المطبوع ليكون قادرا على البقاء، والاستمرار، والانتشار في عروض مسرحية متنوعة الرؤى في الزمان والمكان، لكن السؤال هنا عن معايير الحكم على كفاءة هذا النص المطبوع، وهل يقتصر الأمر على الموهبة والإبداع؟ أم يترك الأمر لحكم الواقع والتاريخ؟ أم أن هناك ما يمكن تطويره علميا ليمثل خطوات عملية، وقواعد محددة، لرفع كفاءة وجاهزية النص المطبوع للتلقي، وبالتالي لإعادة الإنتاج في عروض مسرحية؟
وبالنظر لأقدم النصوص الدرامية المطبوعة، فإن طباعة ونشر النصوص التي مات مؤلفوها دون نشرها، كان ولا يزال خارجا عن إرادة هؤلاء المؤلفين، وبالتالي فإن الصورة التي تتم طباعة النصوص بها تتدخل بها إرادات ليس من بينها إرادة وعقل وذات وموهبة وإبداع المؤلف الأصلي، ويزيد من ابتعاد النص المطبوع عن مؤلفه أن يقوم مترجم بنقله إلى لغة وثقافة وبيئة أخرى، فيعمل فيه عقله وقلبه وقلمه، ويتخذ من القرارات ما قد يتعارض بوضوح مع إرادة المؤلف، ويمكن المقارنة بين ترجمة محمد عناني لمسرحية كهاملت مثلا، والكثير من الترجمات العربية الأخرى للنص نفسه، ليدرك القارئ أن هذه النصوص المكتوبة بالعربية ليست واحدة وإن تشابهت، وأن الاختلاف كما وكيفا كاشف للكثير من الإشكاليات الخاصة بالترجمة، وأمانتها، ومنهجيتها، وجدواها.. إلخ.
وبتطبيق هذه الملاحظات على بنية النص الكلاسيكي الإغريقي، أو الشيكسبيري، يتضح أن هذه النصوص التي لم تنشر حال حياة مؤلفيها، تقوم بالأساس على بنية حوارية؛ يقوم الحوار فيها بغالبية الوظائف البنائية تقريبا، دون وجود يذكر لما غير الحوار في بنية النص الدرامية، والطباعية، لكن كلما تقدمت الدراما المسرحية نوعا، وتاريخا، كلما خرجت من هذه البنية الحوارية، وظهر اتجاه المؤلف الدرامي لكتابة ما يمكن اعتباره نصا غير حواري، يدعم النص الحواري، ويكمله، ويزيد من قابلية فهمه، وبالتالي إنتاجه بصورة أفضل في عروض مسرحية، مثل كتابة المنظر المسرحي، بعد غيابه تماما في النص الكلاسيكي، خاصة مع تقدم العمارة المسرحية وإمكانات خشبة المسرح، وهو ما لا يعني بالضرورة تفوقا إبداعيا، لكنه يعني بالضرورة إسهاما أكبر في إنتاج معنى أكثر وضوحا للعلامة المسرحية الكبرى، التي هي النص الدرامي ككل، استهدافا لتأثير أعلى بالعلامة الأكبر التي هي العرض المسرحي.
لكن هذا التطور الخاص بما هو حواري، وغير حواري، لا يمتد تاريخيا في خط مستقيم صاعد، بحيث يزداد مع التطور الدرامي بالضرورة، تطورا في شكل ومضمون هذا النص غير الحواري؛ فالكثير من النصوص التي كتبت، ونشرت في القرن العشرين، ترتد عائدة إلى البنية الحوارية؛ حيث تكاد تخلو من النص غير الحواري تقريبا؛ وهو ما يثير التساؤل حول مدى اعتبار أنه من علامات التقدم العلمي، والإبداعي الدرامي المسرحي، مساحة وجود النص غير الحواري في الدراما التي تعتمد بالأساس على الحوار، كما هو حال غالبية النصوص الدرامية المسرحية، وهو ما يحيل لما بعده من حديث عن تطوير النص غير الحواري كما وكيفا.
ونتيجة لما سبق، فإن كاتب هذه السطور كثيرا ما أثار مناقشات حول هذه القضايا البنائية وغيرها، مع طلاب العلم بقاعات الدرس، أو المتدربين في الأماكن غير الأكاديمية، في سياق تدريس وتدريب «مادة» حرفية الكتابة، أو ما يطلق عليها من أسماء في الأقسام المختلفة، وقد لاحظ تكرار ما علق به كثير من الطلاب والمتدربين دائما على طلبه منهم بكتابة صفحة للشخصيات، أو صفحة للأجزاء الكمية على سبيل المثال. فيرد الطالب/ المتدرب: إن كبار الكتاب لا يكتبون بالضرورة هذه الصفحات، فضلا عن أن المعنى في بطن الشاعر، وأن كثرة التصريح والشرح تقضي على الرمز، وتعدد مستويات التلقي الإبداعي.. إلخ، وكلها اعتراضات لا تخلو من منطق، والطالب/ المتدرب يرددها بثقة؛ بقدر ما قرأها، أو سمعها، لكن الباحث/ المعلم رأى ضرورة الالتزام بذلك حتى ولو كان على سبيل التدريب على الكتابة، واكتشاف مواضع القصور لدى المؤلف/ الطالب/ المتدرب، وما يمكن أن يكون قد سها عنها في بناء شخصياته، أو أحداثه، دون أن يملك جوابا لأسئلة الطلاب، عن مدى وجوب وجدوى هذه النصوص غير الحوارية، خاصة مع غيابها عن كثير من نصوص المؤلفين المعروفين عربيا وعالميا.
وكانت هناك ملاحظات أخرى قد دفعت لزيادة الاهتمام بهذه القضية، والسعي للإجابة على أسئلتها، من هذه الملاحظات ما يتعلق بالعمل الإبداعي لإنتاج عرض مسرحي، ومنه ما يعتبر مكملا لعمل المؤلف، ولكن يقوم به آخرون؛ فكثيرا ما يقوم المخرجون بإجراء تعديلات، وإضافة ملاحظات، وشروح، وتعليقات في هوامش النص المطبوع، أو في نسخ مخصصة للإخراج، يعاد كتابتها بعد إضافة ما يراه المخرج لازما، وضروريا لتوضيح وفهم النص، لنفسه أولا، ثم لكل العاملين معه في العرض المسرحي، وهذه النسخ الإخراجية مجال خصب، ومفيد للبحث العلمي المسرحي، أيا كان وعي، ثقافة، وعلم، وخبرة هذا المخرج أو ذاك؛ ففي تنوع النماذج كشف عن ماهية الفعل الدرامي الذي يقوم به المخرج، أو من يكلفه بذلك، حتى يفك غموض الغامض، ويوفق ما يراه متناقضا، أو متعارضا في البنية الدرامية، ومن هذه التدخلات الإخراجية ما يتعلق برسم خرائط مكانية، وزمانية للعرض المسرحي، يبني عليها تخطيطاته السينوغرافية الرئيسية، وفقا لرؤيته الإخراجية، وكذلك قدراته الإنتاجية المتاحة، وكذلك ما يتعلق بكتابته لصفحة شخصيات، تمتد لصفحات، يشرح فيها لنفسه أولا، ثم للممثلين، وبقية صناع العرض، الملامح الأساسية للشخصيات الرئيسية في العرض المسرحي، وكذلك ما يقوم به من تفكيك، ثم إعادة تركيب، للأجزاء الكمية للنص/ العرض.. إلخ، كل هذا يمثل مجهودات إبداعية، وعملية يعوض بها المخرج نقصا ما، ويعالج بها غموضا ما، في النص الدرامي، ينتج في كثير من الأحيان عن نقص، أو خلل في بنى النصوص غير الحوارية.
وما يفعله المخرجون يقوم به أيضا الممثلون، والموسيقيون، وكتاب الأغاني، والمصممون للديكور، والملابس، والإكسسوار، والإضاءة، وكذلك الاستعراضات، أو الحركة بشكل عام. إن كل واحد من صناع العرض يقرأ النص مستهدفا فهما عميقا، وشعورا أعمق، حتى يفجر لديه قدراته الإبداعية، لكنه كثيرا ما يقف حائرا أمام صمت المؤلفين عن ذكر ما يلزم، أو وجود علامات ناقصة تحتاج لإيضاح، وتفسير، لم يقم بهما المؤلف، وبالتالي فإن كل منهم عليه أن يتخذ قرارات إبداعية، توجه معنى العلامة الخاصة بعملهم، والعلامة العامة التي هي العرض ككل، وهو ما يجعل الأمر غاية في الخطورة في حال غياب رؤية، ووعي، وإرادة، وإدارة من مخرج مجتهد ويقظ، فأحيانا ما تبدو رؤية السينوغرافيا مثلا منعزلة عن العرض المسرحي، وكأنها خلفية لعرض آخر، ومن أحد الأسباب في ذلك نقص أو خلل النصوص غير الحوارية في النص الدرامي المطبوع.
وبناء على ما سبق، اتضحت أهمية البحث في علامات النص/ النصوص غير الحوارية، لما تضيفه إلى العلوم المسرحية، مما يساعد أساتذة الدراما المسرحية، وكذلك صناع العرض المسرحي، ثم كل العاملين أو المهتمين بالدراما عامة، وتحديدا الدراما المسرحية، فضلا عما يرجى من إفادة في مجالات الطباعة والنشر للنصوص الدرامية.
ما هو النص غير الحواري؟
يقابل تعريف هذا النص تحديان كبيران؛ أولهما: إنه يعتمد على كونه «غير»، وبالتالي فإن تحديده يقوم بالأساس على اختلافه عما هو غيره. والثاني: إنه بهذه الطبيعة عبارة عن شتات من المكونات، التي قد يقبل الواحد منه أن يعتبر نصا، وقد لا يقبل، وقد تشكل في مجموعها نصا عاما، يجوز، ويصح تسميته بالنص غير الحواري، وهو أمر لم يكن من الممكن تحديده قبل هذا البحث، أي أن هذا المصطلح قبل البحث كان بمثابة فرض علمي، وقد توصل البحث لإمكانية وجود أنظمة دالة لكل نص من النصوص غير الحوارية، وللنص غير الحواري العام، وبالتالي إمكانية اعتباره نصا سيميوطيقيا، أي «نظاما من العلامات».
والمقصود بالنص غير الحواري في المسرحية: هو كل ما ليس حوارا في النص المطبوع، بدءا من عنوان المسرحية، ومحتويات صفحة الغلاف الأمامي، وانتهاء بمحتويات الغلاف الخلفي، ومرورا بعلامات الترقيم، وصفحة الشخصيات، والهامش، وصفحة الأجزاء الكمية، وما يكتب بين قوسين بجانب الحوار، وما يكتب من وصف للمكان، والزمان، والمنظر، والصوت، والحركة، في بدايات الفصول، والمشاهد، وكذلك الفضاء الطباعي، المحدد لشكل طباعة النص ككل، وكل جزء منه.. إنه كل ما ليس حوارا بين دفتي الكتاب المطبوع للنص الدرامي المسرحي.
وينقسم النص غير الحواري إلى قسمين كبيرين هما:
• النص غير الحواري خارج إطار الحبكة.
• النص غير الحواري داخل إطار الحبكة.
ويضم القسم الأول كل ما يوجد في النص الدرامي المسرحي المطبوع، دون أن يدرجه المؤلف داخل إطار الحبكة، بما فيها من أحداث، وأفعال، وصراع، وشخصيات، ومكان، وزمان، ومناظر.. إلخ، وهو ما يضم الكثير من العناصر التي فرضت طبيعة البحث، وحدودها اختيار بعضها، خاصة وأنه لم يتم التطرق إليه من قبل، وبالتالي فيحتاج لفت الانتباه إليه، والنظر فيما إذا كان يستحق اكتشاف جدواه، وقدرته على الإسهام في إنتاج المعنى العام للفعل الدرامي المسرحي الأكبر الذي هو العرض أمام جمهوره، وقد وقع الاختيار على:
صفحة الشخصيات.
الهامش.
صفحة الأجزاء الكمية.
أما القسم الثاني: النص غير الحواري، داخل إطار الحبكة، فينقسم بدوره لجزأين كبيرين:
الأول: النص غير المرافق للحوار.
الثاني: النص المرافق للحوار.
وقد تم استبعاد النص المرافق، وهو الجزء الأكبر كما، وكيفا، وتقسيما، على مستوى كل عناصر النص غير الحواري، داخل وخارج إطار الحبكة الدرامية، في النص المطبوع، وهذا الحجم وما يتطلبه من مساحة مخصصة له منفردا كان أول أسباب استبعاده من فصول البحث، أما السبب الثاني فتمثل في أسبقية دراسته بصورة أو أخرى.
أما ما تضمنه البحث من النص غير الحواري، داخل إطار الحبكة، فهو الكيفية التي يكتب بها المؤلف كل مما يلي:
المكان الدرامي المسرحي.
المنظر الدرامي المسرحي.
الزمان الدرامي المسرحي.
 


أحمد عامر