تسجيل دخول ثرثرة عبثية على واقع مرير

تسجيل دخول ثرثرة عبثية على واقع مرير

العدد 582 صدر بتاريخ 22أكتوبر2018

تميز مفهوم مسرح العبث أو اللامعقول بأنه نتاج ظروف سياسية وعالمية فارقة أدت بالفلاسفة المحدثين إلى إعادة التفكير في الثوابت، خاصة بعد ما أسفرت عنه الحرب العالمية الأولى والثانية من نتائج لا إنسانية سيطر عليها انعدام الثقة وانهيار القيم مما أدى إلى انعزال الإنسان الأوروبي وفرديته، فظهر مسرح اللامعقول (Theatre of the Absurd) كاتجاه جديد يسعى إلى التجديد والتخلص من العالم البرجوازي، ومن الحضارة الآلية الجديدة. ومسرحية «تسجيل دخول» تنتمي إلى هذا النوع المسرحي، ومن عنوانها يبدو أنها تشاكس آلية جديدة من آليات الواقع الراهن، إن كل مريدي مواقع التواصل الاجتماعي يعلمون جيدا أهمية تسجيل الدخول حتى يتمكنوا من تحقيق ما يبتغون، ومن هنا تنطلق فكرة المسرحية «تسجيل دخول» للمخرج هاني عفيفي التي كتبها إسماعيل إبراهيم وفادي سمير، وفي إطار عبثي تدور أحداثها حول جلسة بين ستة أصدقاء يجتمعون في بيت واحد منهم سنة 2011، أي مع بدايات ثورة يناير، ويطلبون وجبة من مطعم العريان، ويظلون في انتظارها عدة سنوات لا يغادرون أماكنهم، وخلال تلك الفترة يندمجون داخل العالم الافتراضي كبيت جديد لهم بكل ما يحمله من كذب ونفاق وتشويش وادعاء وتناقض في الأخبار والمواقف الإنسانية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والآيديولوجية المصاحبة للثورة وتباعاتها، نستمع إلى أحلامهم وهمومهم المختلفة، فأحدهم يقرر الانتحار لأنه مل الانتظار، هذا الأمر الذي ارتبط به طوال حياته، وآخر يعاني من علاقاته العاطفية غير المكتملة، فجمعيهن ينظرن إليه كأخ لهن، وأخرى تدلي بنصائح عبر الفيسبوك عن كيفية اصطياد الرجل، وآخر يكتب شعرا لا معنى له (التفافة ملت عبي)،. وأخرى تعمل ورشة تنمية بشرية لا علاقة لها بأي تنمية، ونصائح حول التدرج في ارتداء الحجاب تنصح بها من لا تعرف معنى الحجاب وحديث عن المساواة بين الرجل والمرأة، يعلق على هذه المشاهد ساحر يحاول أن يسيطر على الحدث على الرغم من أنه لا يجيد السحر، لكنه كان صاحب كلمة البدء (مين فيكم جعان) وكأن الجوع بشتى أنواعه هو مفتاج الولوج لهذا العالم، ولكن وجبة الطعام من مطعم العريان الذي ينتظرون منه أن يطمعهم لا تصل، وفي كل مرة يتحجج الطيار المكلف بتوصيل الطعام لهم بأن الازدحام شديد، مرة في المهندسين ومرة في بورسعيد إشارة إلى مجزرة الاستاد - ويؤكد في كل اتصال هاتفي أن محطة السادات مغلقة، بينما هم دائما ما يكررون نفس الحوار في بداية كل مشهد ويتحدثون عن (خروجة) سيقيمون بها لكنها لا تحدث أبدا، حتى تنتهي المسرحية بمحاولة خروج بائسة لا تستغرق إلا بضع ثوانٍ ثم يعودون وينتهي المشهد المسرحي بالساحر وهو يحتفل مع تمثال خشبي باليوم العالمي للصمت.
إنهم قد سجلوا الدخول إلى العالم الافتراضي في بداية يناير 2011 ولم يستطيعوا الخروج منه حتى الآن، خطاب عبثي يلائم السياق التاريخي الذي نعيشه الآن، فإن مسرح العبث منذ بدايته يرفض البنية الثقافية والسياسية للعالم البرجوازي، ويحاول تقديم صورة أكثر صدقًا للواقع حتى وإن كانت في جو عبثي يثور على الواقع ومعطياته المسلم بها، وفي هذا العرض نرى شهادات جيل الفيسبوك - الذي لا ينكر دوره في ثورة يناير وهم يثرثرون حول أحلامهم، وانكساراتهم، هذه الشهادات تعد سؤالا وجوديا حول من نحن الآن؟ وماذا جنينا من بعد الثورة؟ وكيف نرى أنفسنا؟ كل واحد من الشخصيات الستة يسب الآخر في الخفاء وفي الظاهر يبين له عكس ما يبطن، وعندما يموت أحدهم يكملون مسيرتهم وكأن شيئا لم يحدث والموت لاحرمة له، والأسماء في هذا العالم ليست دالة فلا يهم مخاطبة المذكر بالمؤنث ولا المؤنث بالمذكر لأنهم جميعا كيان واحد لكنه متعدد الأوجه في عالم معقد ومركب ومعانيه متناثرة الشذرات على مواقع التواصل الاجتماعي، والكاميرات المخترقة لذواتهم، إنها شخصيات حية من الواقع، تفكر وتتحدث بلغتها اليومية، وتعلن عن مللها من حياتها المعيشة، وتقدم أحلامها في مونولوجات طويلة مسموعة مونولج المنتحر والشاعر والناشطة النسوية تعبر فيها عن حلمها بحل لما تعيشه من إشكاليات حياتية وعاطفية وفكرية. فالناشطة النسوية تطالب بالعدل الذي يجب أن يتحقق قبل المساواة، والعاشق يبحث عن معشوقته، والشاعر عن قصيدته.. إلخ، ولكن من الملاحظ أن كلهم مُدعون وغير قادرين على الفعل - حتى وإن كان إحضار طعامهم - ولا يوجد عندهم شيء حقيقي غير الانتظار، كسمة أساسية في مسرح العبث وفي الفلسفة الوجودية أيضا يقول بيكيت: «في الانتظار، إنما نجرّب مرور الزمن في شكله الأنقى». 
أبطال المسرحيّة ينتظرون وجبة الطعام التي لم تأتِ، وينتظرون أحلاما لم تحقق، لذا فالساعة التي تدور في منتصف المسرح رغم دورانها فهي متوقفة لأن لا شيء يتغير، هم - أقصد أبطال المسرحية - يعملون معا على إنهاء وقت لا ينتهي أصلا. فيتشاركون في لعبة الفيسبوك والتكرار لنفس الجمل الحوارية والانتظار الرتيب اللانهائي. وقد كان اختيار مكان واحد وهو البيت الذي يتكون من كنبة وسرير ومرآة ودولاب ومقعد حمام - يتحول في حالات البوح إلى كرسي اعتراف - سمة من السمات الملحوظة لمسرح العبث التي غالبا ما تدور أحداثها في مكان ضيق أو محدود جدا كغرفة مثلا، وعلى سبيل المثال نرى كل مسرحيات هارولد بنتر ويوجين يونيسكو تدور أحداثها داخل غرفة، والبيت الذي لا يغادرونه في هذه المسرحية هو ملجأ ضد الأخطار الخارجية ووسيلة حماية لشخصيات المسرحية مثله كمثل مواقع التواصل الاجتماعي أيضا، لذلك لم يستطيعوا أن يغادروه - حتى من أجل إحضار طعامهم - رغم الروتين الذين يعيشونه وعدم الثقة التي تحيط بهم. 
كان ديكور مي كمال ببساطته الشديدة معبرا عن هذه الحالة بينما يفتقد تصميم الملابس إلى الجرأة، لأن الملابس علامة دالة على هذا المجتمع العاري المنعدم الخصوصية تجعل من يرتديها يعتقد أنه محجوب عن الآخرين بينما هو عارٍ أمام الجميع، وإن كان ذلك قد بدا واضحا في ملابس يحيى الذي قام بدوره شادي الدالي بينما نفتقده في بقية الشخصيات، كذلك موسيقى محمد صلاح لم تكن بعبثية العالم الافتراضي وموسيقاه المتنوعة ما بين الملايين من المقطوعات الموسيقية المتابينة، فالمسرحية ليست تقليدية لكن تعامل معها صناع العرض بالمنطق التقليدي عدا الممثلين (أحمد السلكاوي، شادي الدالي، أوسكار نجدي، عمرو جمال، محمد الشافعي، منة حمدي، ندى نادر، هبة الكومي) الذين تعاملوا مع شخصياتهم بحذر شديد وعلى وعي منهم بأنهم لا يقدمون شخصيات إنسانية متكاملة الأبعاد.
لذلك رؤية المخرج عكست فكرته على المستوى السطحي لكن قد غابت عنه المعالجة الفكرية التي غالبا ما تتطلبها بنية النص ولغته المسرحية، وخصوصا أنه قد اختار أصعب أنواع العبث وهو العبث البيكيتي الممتزج بواقعية محلية، مما يفرض على الكاتب التعمق في شاعرية اللغة اليومية ودرجات الإيقاع الصوتي لها، فقد كان معظم كتاب مسرح اللامعقول يتمتعون بحاسة موسيقية مرهفة تدرك أهمية التعبير اللغوي وألوانه الجمالية في اللغة الكلاسيكية أو في الاستعمالات الدارجة، وهم يعرفون كيف يستثيرون الضحك من الطريقة التي يستخدمون بها الألفاظ ويحملون النطق بها أكثر مما تحمله هذه الألفاظ من معانٍ، لا من خلال التلاعب بإفيه لغوي لا قيمة له (الرجالة ممكن اصطيادهم من منطقة واحدة) فهذه المسرحية لا تقوم على مقدمة ولا عقدة ولا أحداث، إنّما تعتمد على الكلام أو بالأحرى الثرثرة التي تأخذ مكان الفعل وعمقها الذي يستدعي ما وراء الكلمات بمعنى أن اللغة هي التي تخلق المسرحية، ولكن اللغة قد ظلت حتى نهاية العرض مجرد ثرثرة على واقع مرير.
 


محمد زناتي