هاملت الخشبي يتحطم ما بين السذاجة والمباشرة

هاملت الخشبي يتحطم ما بين السذاجة والمباشرة

العدد 579 صدر بتاريخ 1أكتوبر2018

العرض الأردني (هاملت بعد حين) الذي قدمته فرقة (مسرح عالخشب) بفعاليات المهرجان المعاصر والتجريبي الأخير، يثير الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية أيضا.
فأولا، قد يجب أن ندرك أن شخصية هاملت قد ارتبطت كثيرا بالواقع العربي والإسلامي المأزوم منذ بدايات القرن العشرين وما قبله إلى الآن، لذا لا عجب أن يفطن البعض من المثقفين والكتاب لهذا الارتباط، ومن ثم تتم معالجته على المستويين؛ الفكري والفني، ومن أبرز ما عالجوا هذه الثيمة الشكسبيرية في عالمنا نجيب سرور وممدوح عدوان.
وإذا كان العرض الأردني يعلن صراحة بأنه معالجة أو كتابة أخرى لنص عدوان الشهير (هاملت يستيقظ متأخرا)، إلا أن المعد والمخرج في نفس الوقت “زيد خليل مصطفى” قد وقع بكل وضوح في حصار لا متناهٍ من المباشرة والمراهقة السياسية وأحادية النظرة للنتيجة وليس السبب.
إذا كانت وفاة عبد الناصر في عام 1970 في نظر البعض هي المقدمة للكثير من حالات التردي التي أصابت الواقع العربي، وخصوصا في عملية الصرع بين العرب والمسلمين من جهة، ومن جهة أخرى أوروبا وامتدادها الحديث المتمثل في الولايات المتحدة، وإذا كانت هذه الفكرة أو المقولة أو الاستنتاج أو الواقع له ما يبرره في نص عدوان؛ إلا أنه عند عدوان لم يكن الحدث الرئيسي كلية كما عند زيد، كما أنه لم يكن بهذه المباشرة، عدوان أولا لم يتسلهم شخصية شكسبير على علاتها، بل وضع بعضا من تأصيل للشخصية في البيئة المحلية العربية بشكل عام، وجعل من هاملت مثقفا ولكن مدود القدرة على الفعل أو الإيحاء به للآخرين، وهذه المحدودية كانت في زمن صعب يستوجب التعامل السريع والمؤثر بعد الفهم لطبيعة الأمور المتنامية الحركة والتأثير السلبي، ولكن هذا الهاملت - أو المثقف - يقف موقف العاجز عن التصدي أو التصويب، نتيجة استيعابه البطيء للأمور، ومن ثم تكون مشكلة هذا المثقف أو الهاملت أنه حقيقة يستيقظ متأخرا، ومن ثم لا عجب أنه حين قدمت هذه المسرحية أول مرة في سوريا، وقف أمامها المثقفون وخصوصا اليساريون موقف الرافض والمستهجن لهذا الطرح الذي يكشف عورة المثقف العربي، فإذا كان هذا هو موقف أهل اليسار من النص فما بالك بالمعسكر المضاد.
وأعتقد أن عدوان بهذه المعالجة لهاملت، لم يقف عند هاملت فقط بل أثبت أنه فعلا مثقف، وقد لا أكون مبالغا إذا أجزمت بضرورة اطلاعه المسبق على كتاب حسين أمين «دليل المسلم الحزين إلى مقتضى السلوك في القرن العشرين» وفيه يصور هذا الصراع بين المعتقدات الأولية البسيطة، وبين ما يراه من صور أخرى مغايرة، ثم التناقض التام بين التغني بكل ما هو من الماضي من أمجاد وفتوحات وثراء.. إلخ، وواقع الحال من تهميش وعوز واستغلال واحتلال، وأن الأمر ينتج في حد ذاته من الطبيعة المتخلفة التي لا تستوعب الأمور الراهنة بالشكل الجيد وتعيش فقط على ذكريات الماضي، حتى عندما يلوح الحاضر أمامها بكل تبعاته، تكون الاستجابة متأخرة.
وبطبيعة الحال لا يمكن أن أنفي إشارة للحالة العربية بعد رحيل ناصر وارتباطها بحالة هاملت، لو بحثت ستجد أن هناك تماسات وتطابقات كثيرة لهذا الواقع، ومن ثم يمكن أن تفسر لماذا هذا النص ومعالجاته هو الأكثر استعمالا أو يستعمل كثيرا؛ من بين نصوص شكسبير، في تقديم معالجات مختلفة له سواء على المستوى الرسمي أو الأهلي، وقد صدر مؤخرا وتقريبا في عام 2017 عن المركز القومي للترجمة كتاب (رحلة هاملت العربية “أمير شكسبير وشبح عبد الناصر”) لمارجريت ليتفن أستاذة الأدب العربي والمقارن بجامعة بوسطن، من ترجمة سها السباعي، وفي هذا الكتاب رد جيد على كل من يحاول نفي شبهة تأثير رحيل ناصر عن المشهد العربي، وأيضا نفي قصدية عدوان لهذا الأمر، بجانب محاكمته للمثقف العربي بوجه عام، خاصة إذا علمت أن كثيرا ممن يسمون أنفسهم بالمثقفين وقفوا أمام التجربة الناصرية، وفي سوريا خصيصا كان هناك الكثير ممن ساعدوا على عملية الانفصال بين مصر وسوريا.
هذه الإلمامة التي قد يعتبرها البعض طويلة كان لا بد منها للحديث عن العرض الذي قدم، فبداية لا يمكن أن نعتبر هذا الأمر كتابة عن كتابة، بل هو تقليص وتحجيم دلالات نص ثري وتحويله لنص فقير لا يمكن أن يستوعب أكثر من وجهة نظر، بل إن وجهة النظر هذه لا وجود لها، بل هي عملية تلقين فج للصراع العربي الصهيوني، وكيف أنهم ساهموا في قتل البطل ثم حالة التردي التي أثمرت عن المعاهدات فيما بعد.
لربما كان تفديم نص عدوان كما هو أو القيام ببعض الحذف أو التأخير والتقديم أوجب لأن تكون التجربة أكثر ثراء، وفي نفس الوقت كان من الممكن أن يكون هناك تأكيد لما هو موجود في نص عدوان وألح عليه المخرج، خصوصا أن عدوان اعتمد في نصه على كل من الحالة الشاعرية وأيضا بعض المناطق الثرية التي تحيلك لحالة عامة كان من الممكن تفسيرها وتأكيد بعض من خصوصية عليها من داخل تلك الحالة العامة، وبما لا يتناقض معها، والعجيب أن هذا كان هو نهج المخرج أو ما حاوله.
أعتقد أن الإعداد هو المسئول الأول للحالة التي خرج بها الجمهور المصري بعد العرض وحكمهم عليه بما قلته سابقا.
وللحقيقة، فإن التعامل البصري مع حالة العرض، المتمثل في كيفية وضع الممثلين على خشبة المسرح وحركتهم مع بعضهم البعض، ثم استخدام تقنية التركيز بالضوء على بعض المناطق أو الشخصيات، كان إلى حد كبير جيدا، وإن عاب غياب الصورة العامة المعنى الكلي لعدوان، حيث ركزت على حالات شخصية دون ارتباط بالكل، وربما كان هذا هو السبب في المعالجة الرئيسية حيث انفردت بواحدة من الدالات دون الأخريات.
سيرا وراء اسم الفرقة (مسرح عالخشب) لم يكن هناك ديكور وإنما مستويان؛ مستوى خلفي يقف عليه المسيطرون على الحدث، واستعملهم كفرقة موسيقية تفرض نوتتها على الجميع، ومستوى أمامي مبسط هو خشبة المسرح ذاتها حيث تدور الأحداث على المفعول بهم، ومن الممكن أن يتم نزول بعض الفاعلين لمنطقة المفعول بهم، سعيا لتكريس الفعل أو إخبارا بكيفية حدوثه، ثم الاعتماد على وضع الصور المتتابعة للوجوه والأحداث بالإضافة للاعتماد على الأسود والأبيض والأحمر كألوان رئيسية وشيوع الأسود كزي رئيسي وحالة عامة في كل ما يغلف الحدث، مع إشارات خافتة للأبيض وحالة الأحمر القليلة ولكن الواضحة، وتعاملك مع التفسير الطبيعي والنفسي والجمالي للألوان ربما كان سيحيلك لحالة تلقي جيدة، ولكن عندما تحولت الألوان لأزياء مع المباشرة الصحيحة أصبحت أمام علامات فجة لا فارقة، وكان من الممكن أن تصل للمقولة الرئيسية بعد دقيقتين من العرض وما تلا مجرد تكرار لا يأتي بجديد!
بالإضافة للألفاظ التي وضعها المعد وكانت أكثر مباشرة من الأزياء نفسها، وتعمد أن تكون فارقة ولا تحتمل أي شبهة لتعميم ولكنها حالة خاصة واحدة لتفسير واحد.
ثم حالة الأداء العام التي أوضحت أن الكثيرين على خشبة المسرح يفتقدون للحرفية الواجبة، ولا أدري هل هم كذلك فعلا؟ أم أنهم يؤدون العرض تأدية واجب؟ نظرا للخبرات والمناصب التي ذكرها مطبوع العرض عن المؤدين! ولكننا رعم هذه الخبرات والتجارب كنا أمام مجموعة قد تذكرك بحالة التلاميذ في حصة المحفوظات،
أعتقد أنك لو شاهدت العرض بدون صورة ربما ستخرج بحالة جيدة وربما سيكون لك تفسيراتك المتعددة ولكنها في نفس الوقت ستكون داخل إطار واحد، وهذا الأمر يخبرك بكل بساطة أنك قد تكون أمام مخرج جيد ضل طريقه لعملية الإعداد التي أضرت بالمعد وبالمخرج من قبله.
وأصبحنا أمام حالة الأمة بعد رحيل ناصر أو مقتله نتيجة مؤامرة وما تبع ذلك من ترديات وانحسار الواقع العربي عما كان عليه وقتها؛ أي وقت ناصر.
بهذه المعالجة المبسترة أزاح بعيدا فكرة (الهاملتية) التي تسود الواقع العربي من زمن والمتمثلة في بعض الوساوس وحب الذات وإنكار الآخر، مع ارتباطها بالشعور بعقد النقص المختلفة، والاستسلام لنظريات المؤامرات العالمية دون فعل أي شيء للتغيير، وعدم استيعاب الواقع والحالة الآنية ومحاولة اجترار ماض قديم، أو الانسياق وراء قوة آنية متمثلة فيما وراء البحر سواء أوروبا أو نتاجها؛ ليستمد بالتبعية والانبطاح بعضا من قوة أمام نظرائه.
 


مجدى الحمزاوى

mr.magdyelhamzawy@gmail.com‏