ليلك ضحى..  تنتصر للموت على الحياة

ليلك ضحى..  تنتصر للموت على الحياة

العدد 579 صدر بتاريخ 1أكتوبر2018

في السنوات الأخيرة أصبح البشر يبحثون بكل السبل عن أقصر الطرق للوصول السريع إلى عصور الظلام، ففي الوقت الذي كان يجب عليهم مسايرة الزمن والمضي نحو المستقبل ومحاولة الاقتراب منه، فإنهم انحازوا للوحشية والدموية بما يؤهلهم لأن يكونوا جزءا من تلك العصور السحيقة التي يرغبون في العودة إليها، والفترة التي تعيشها المجتمعات الآن من عمليات إرهابية ودموية من قبل مجموعة تقول إنها تنتصر للإسلام وتسمى نفسها بـ«داعش» هي واحدة من أسوأ جماعات سفك الدماء التي تعيش في مجتمعنا الآن وبات علينا أن نتقبل الخسارة التي تلحق بالمجتمعات منهم، سواء كانت خسارة لأرواح قد أزهقت أو أجساد قد تناثرت أشلاؤها أو منازل وعقارات لم تعد سوى سراب أو عقيدة بات اسمها يسبب حالات من الفزع للبعض، وفي تلك الحالة المضربة عندما يقدم عرض مسرحي يناقش قضية تتزامن مع واقع المتلقي، لا يكون على المتلقي سوى الشعور بالامتنان لتوثيق تلك المعاناة، مثلما قدم المخرج «غنام غنام» عرضه المسرحي «ليلك ضحى» فوق خشبة مسرح الهناجر أثناء مشاركة العرض في الدورة الخامسة والعشرين من مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي والمعاصر.
يقدم لنا العرض مأساة زوجين يعيشان معا في إحدى القرى النائية التي تبتعد عن المدينة، وتكون مصيبتهما أنهما يدرسان الفنون، فالزوج ضحى (رائد دالاتي) يعلم التلاميذ في المدرسة علوم المسرح، والزوجة ليلك (علياء المناعي) تدرس التلاميذ الموسيقى والغناء، وأصبح الفن مصيبتهما عندما احتلت الجماعات الإسلامية المتطرفية القرية وباتت تنشر كلابها حولهما بداية من جارهما لشيخ المسجد لأهل القرية، حتى أصبحا محاصران لا يملكان رفيقا يساندهما، وهنا تكتشف علاقة الزوج بأحد تلامذته الذي حاول أن يحصل لهما على مكانا أمنا، إلى أن انتهى بهما الأمر منتحرين معا منتصرين للموت بعيدا عن تلك الحياة البائسة التي أفقدها المتطرفيون لونها وجمالها.
الثنائيات المتضادة تلاحق العرض المسرحي بداية من عنوانه، حيث إن عنوان العرض المسرحي متكون من كلمتين وهما «ليلك» و«ضحى» بيحث يصبح «ليلك ضحى»، ويعرف أن الليل يختص زمانيا بالعتمة شديدة الظلمة ويعرف ضحى بكونه الفترة الزمنية التي تسبق فترة الظهيرة وتعقب شروق الشمس فتكون السماء ساطعة الإضاءة وصافية، فتكمن المفارقة هنا في دمج الاسمين معا، واشتملت مفارقة العنوان أيضا في أن الاسمين يكونان مختصين بـ«أنثى» و«ذكر»، ورغم وجود تلك المفارقة في المعنى والجنس البشري، فإن بينهما ربطا مقدسا وهو الزواج والحب الذي يكبلهما، فضلا عن توافق قدريهما معا من حيث المعاناة والموت وحب الفن؛ لم تكن تلك الثنائية الوحيدة فهناك ثنائية الفن والجماعة الدينية المتشددة، جعل أهل الدين من القرية، الذين تمثلوا في الشيخ البلداوي (إبراهيم سالم) وأبو البراء (فيصل علي) وأبو سعيد (محمد جمعة) من أهل الفن، خوارج وغير تابعين لتعاليم الدين الإسلامي الصحيح، أما قطعهم للرقاب ونحرهم للرجال وسبيهم للنساء واغتصابهن هو الثواب الذي يحصلون عليه نتيجة اتباعهم للدين.
فنجد أن تلك الجماعة الدينية هي بالأساس في حالة متناقضة مع نفسها، وقد تم الكشف عن ذلك عن طريق كاريكاتورية أفعال الشخصيات والمبالغة الفكاهية الشديدة التي اعتمد عليها المخرج غنام أثناء طرحه لهم حتى يحدث حالة من التغريب أثناء مشاهدة المتلقي للعرض المسرحي، فيكون قادرا على إعمال عقله بدلا من تماهيه بكامل مشاعره مع البطلين خاصة بسبب الصورة الشاعرية التي تم تصويرهما بها، وتكمن مفارقة الجماعة في اشتهائهم لزوجة ضحى «ليلك» وذلك عقب مشاهدتهم لجزء من كتفها أثناء نزولها من الحافلة، وحاولوا بشتى الطرق التفريق بين الزوجين منذ لحظات العرض الأولى عندما هاجم الشيخ البلداوي منزلهما وعبر عن رغبته في مساعدة الزوجة بأن تطلقت وأصبحت ملكا له؛ هؤلاء الجماعة من القطيع الشهواني الذي ينظر للمرأة على أنها سلعة جنسية ويحاول الحصول عليها بصورة غير شرعية أو شرعية باغتصاب فاطمة (حنين) يجعلهم في ثنائية تبتعد كل البعد مع صورتهم الورعة وخوفهم على الدين الذي أظهروه لأهل البلدة.
إن كانت الأحداث تدور في القرية، فأين أهل المدينة من الأحداث؟ وهي أيضا ثنائية جديدة فالمدينة لا نراها ولكنها تتمثل لنا في شخصة والدة ليلك (آلاء شاكر) التي رغم معرفتها تلفزيونيا عن الأنباء التي وقعت في القرية لم تتخذ أي فعل سوى محاولة الاتصال هاتفيا إلى أن أصبحت قعيدة، تلك النظرة التي تتسبب في انتصار نظرة رجال الجماعة بأن المرأة أداة للجنس ومتعة الرجل وتربية الأبناء فقط لأنها لا تستطيع القيام بفعل حقيقي، وتحمل أيضا مغزى أكبر من ذلك وهو أن المدينة في حالة عجز كلي تضحي بالأطراف المهمشة في مقابل وجودها واستمرارها ما دام الخطر لم يطلها.
استمرت مستويات التغريب في العرض فلم يتم الاكتفاء بالطريقة التي رسمت بها شخصيات أهل الدين من الجماعة المتشددة، بل اعتمدت على المستوى البصري والسمعي أيضا عن طريق مشاهدتنا لكل من الفرقة الموسيقية المصاحبة للأحداث طول العرض، التي كانت تقوم بعزف حي ومباشر مع العرض بدلا من الاعتماد على المؤثرات الصوتية، وأيضا عن طريق الصورة التي وضع بها الممثلون غير المشاركين في المشهد أمامنا وهم جالسون على يمين وشمال الخشبة منتظرين أدوارهم بدلا من إبقائهم في منطقة الكواليس. وهنا تظل أعين المتفرج تجمع بينهم وأحداث العرض التي تعرض، ومثال على ذلك مشهد إطلاق النار في القرية وحالة الفزع التي أصابت الزوجين، فنحن لا نشاهد إطلاق النار ولكننا نسمع صوته ونرى تأثير ذلك على الزوجين، ولكن ما تسبب في تقليل حدة الأمر رغم ضخبه هو مشاهدتنا لممثلة شخصية الأم وهي تطرق حولها لتسبب هذا الصوت مهما يمنع المتلقي من التماهي ويحافظ للعرض على قيمته الحقيقية.
تزامن الخروج بهذا العرض المسرحي إلى النور وفوق خشبات المسارح في تلك الفترة من العصر التي تتزامن مع وحشية الجماعات الدينية المتطرفة التي تسمى «داعش» هو أمر يجعل من العرض المقدم عرضا واقعيا رغم مستويات التغريب المتعددة وبساطة القصة الدرامية المطروحة، هذا التزامن الذي حرك الجمهور وجعل العرض مميزا بالنسبة له، وهو بالفعل يستحق تلك المكانة بسبب عناصره الممزوجة بحرفية وإتقان التي ظهرت فوق خشبة المسرح من تأليف وإخراج وتمثيل وإضاءة وعزف حي وديكور شاعري بسيط يناسب الأحداث ولا يتسبب في زحامها.
 


ضحى الوردانى