الجنون متنفسا للحضارة قراءة في مسرحية (القبعة ذات الأجراس) 

الجنون متنفسا للحضارة قراءة في مسرحية (القبعة ذات الأجراس) 

العدد 579 صدر بتاريخ 1أكتوبر2018

 حرفية كاتب المسرح هي ما يعول عليه في إبقاء المتلقي ممسكا بالنص المسرحي إلى نهايته رغم أن النص مكتوب أساسا ليمثل على خشبة المسرح، فكما تطلعنا مترجمة هذا النص (د.أماني فوزي حبشي) في مقدمتها لهذه النسخة، كان پيرندلو يقول عن هذه المسرحية: “إنها ولدت ولم تكتب”، حيث كتبت لتعرض على الخشبة ولم تنشر إلا بعد ذلك بعدة أعوام. 
 رغم أن حوار شخصيات المسرحية يبدو في معظم الأحيان متقطعا أقرب إلى العبثية، إلا أن تقليدية الحدث الأساسي الذي يعتبر مدير دفة الفعل المسرحي هنا – وهو اكتشاف البطلة (بياتريتشي) خيانة زوجها الفارس (فيوريكا) مع (نينا) زوجة كاتبه (تشامپا)، وإصرارها على فضحهما متلبسين بجريمة الزنا – هذه التقليدية تشبه ببقائها في خلفية الحوار المتقطع العبثي غطاء نصف شفاف، يراه قارئ المسرحية ولا يستطيع أن يتبين تماما ما وراءه، فربما كان ما وراءه باقة ورد وربما كان قنبلة موقوتة. يبقى الترقب مع القارئ إلى النهاية، تشعله - بين ركام الجمل المبتورة الواردة على ألسن الشخصيات – تلك اللحظات التي تكلم فيها (تشامپا) على حريته وأفصح في إيجاز عن رؤيته لموقف الإنسان في العالم المعاصر:
    “يجب أن تفهمي أن لدينا جميعا ثلاثة حبال كحبال الساعة في رءوسنا: الجاد والمتحضر والمجنون. ولأننا نعيش في مجتمع أكثر ما يلزمنا فيه هو الحبل المتحضر فهو يوجد في المنتصف فوق جباهنا. يمكن أن يأكل بعضنا بعضا. هل آكل السيد (فيفي)؟ لا أستطيع! ماذا أفعل إذن؟ أشد الحبل المتحضر وأسير للأمام بابتسامة مصطنعة وأمد يدي (كم أسعدتني رؤيتك يا سيدي فيفي العزيز!). ولكن تأتي لحظات يفيض فيها الكيل. عندئذ أحاول أن أملأ الحبل الجاد لأوضح الأمور لنفسي وأضعها في نصابها. وعندما لا أنجح في أي طريقة، عندئذ أمسك بالحبل المجنون وأفقد النظر ولا أعرف ماذا أفعل”.
 بداية من هذا المونولوج الطويل، نكتشف أن پيرندلو اختار أن يعبر عن فلسفته الاجتماعية من خلال شخصية الديوث، الذي نكتشف قرب النهاية أنه كان يعرف أنه يتقاسم حب زوجته مع سيده. لأوضح ما بنيت عليه هذا الرأي، أخرج من حيز هذا النص إلى رؤية عامة أتبناها بإزاء الأنواع الأدبية. لب هذه الرؤية هو مضاهاة الأنواع الأدبية لحالات العقل المختلفة (من تمام الاتساق العقلي متجليا في معمار الرواية المحكم، إلى الهذيان  Deliriumالمختلط بالأحلام المضطربة في الشعر، مرورا بالفصام Schizophrenia في القصة المبتورة من سياق الحياة لتبدو وحدة مستقلة لا قبلها ولا بعدها، وتعدد الهويات Multiple Identity Disorder الذي يتجلى أكثر ما يتجلى في النص المسرحي). الشاهد أن الكاتب المسرحي يقدم على فعل من أفعال الكرم العقلي حين يقسم نفسه بين شخوص مسرحيته، فيدير بينهم صدى لحوار يدور في رأسه هو، فكأنه يفعل ما يعبر عنه الشاعر الصعلوك الجاهلي العظيم (عروة بن الورد) في تقسيمه أسلابه من الأغنياء على الصعاليك: “أقسم نفسي في جسوم كثيرة”. لكن الكاتب المسرحي رغم ذلك قد ينحاز لشخصية معينة بين شخصياته، ينطقها بما يمكن أن نسميه فلسفة مترابطة الأركان، فلا يسعنا إلا أن نقول إنها فلسفته ورأيه النهائي. ولأن الآخرين في هذه المسرحية لا يكادون يكملون جملهم، فليس أمامنا إلا (تشامپا)، الديوث الكاتب صاحب الفلسفة!
 نضيف إلى هذا تلك الإشارة اللطيفة في حوار المسرحية التي نعرف من خلالها أن (تشامپا) – إلى جوار عمله كاتبا للفارس فيوريكا مسئولا عن دفاتره ومشرفا على أعماله – كاتب صحفي كذلك، ويضع القلم خلف أذنه في إشارة هزلية صريحة إلى اعتناقه الكتابة. وبما أنه الكاتب في المسرحية، فهو بالفعل يجسد صدى عقل پيرندلو. 
 نعود إلى سياق نصنا المسرحي. تتقدم الأحداث باتجاه نجاح (بياتريتشي) في الإيقاع بزوجها الفارس (فيوريكا) وعشيقته (نينا) وإلقاء الشرطة القبض عليهما، لكنه نجاح مبتور في النهاية، فكل ما حدث أنهما موجودان في غرفة (نينا) الملحقة بمكتبه، وهي ترتدي ملابس مكشوفة بعض الشيء، إلا أن ادعاء الفارس أنه دخل ليغسل يديه قبل أن يراجع الرسائل التي وصلت إلى مكتبه أثناء سفره، وحصوله على نسخة المفتاح من أسفل الباب من (نينا)، هذا الادعاء يبدو ممكنا واقعيا، وييسر الإفراج عنهما. لكن الفضيحة ستبقى ملازمة لكليهما ولـ(تشامپا) الزوج (التيس) في بلدتهم الصغيرة. ما نكتشفه أن (تشامپا) على علم بكل ما يدور بين زوجته وسيده، وأنه رغم مرارته إزاء ذلك، يهمه في المقام الأول صورته أمام الناس. ولذلك يقترح على (بياتريتشي) في النهاية أن تصر على جذب (الحبل المجنون) كما يسميه، وأن تظل تصرخ وتصيح فيه أمام أسرتها وجيرانها بصيحة التيس (باااء باااء)، وبذلك يصبح من الواجب على المجتمع أن ينقذ نفسه وينقذها من نفسها بأن تحبس ثلاثة أشهر لتتعافى، وهكذا يسهل إقناع الناس بأن ادعاءاتها بشأن زوجها الفارس و(نينا) زوجة (تشامپا) مجرد مظهر لجنونها، ولا أساس لها من الصحة، وحين تنقضي مدة حبسها، لن ينتظرها من المجتمع إلا العطف والتصالح مع ما كان!
 في الحقيقة، يبدو المشهد الأخير من المسرحية – حيث تصيح فيه بياتريتشي بهذه الطريقة – قنبلة موقوتة انفجرت في شخصيات المسرحية ومتلقيها على السواء. پيرندلو لا يعري فقط المجتمع الصقلي أوائل القرن العشرين، حيث تعتبر مسائل الشرف والإخلاص الزواجي مسائل حياة أو موت، بل يعري الحضارة الإنسانية كلها، بإصرار لسانه الواعي (تشامپا) على إضفاء صبغة إنسانية واسعة على الأحداث، من خلال رمزية الحبال الثلاثة (المتحضر والجاد والمجنون). ويبدو الجنون هو الملاذ الآمن الوحيد من الزيف الضارب بجذوره في البناء الحضاري. فالاتساق الظاهر بين معطيات الواقع – الحجج الجاهزة لوجود غرفة الكاتب (تشامپا) وزوجته ملاصقة لمكتب الفارس، ولوجود الفارس ونينا في غرفة واحدة وهي بملابس النوم، ولتدبير مفوض الشرطة (سپانو) الإفراج عنهما بعد أن ألقى زميله (لوجاتو) القبض عليهما – هذا الاتساق إذا غصنا قليلا أسفل السطح نكتشف كمْ هو واه تماما، لكنه يبدو حيويا لتستمر الحضارة، ولذا، على أحدهم أن يجن فعلا أو أن يبدو مجنونا إذا تحدث عن هذه الحقائق المحرمة. ومن هنا كان عنوان المسرحية (القبعة ذات الأجراس) أو Il Beretto a Sonagli كما هو في لغته الإيطالية الأصلية، حيث هي القبعة التي يعتمرها المجانين وينزلون إلى الشوارع ليبصقوا في وجوه الناس بالحقيقة كما يقول (تشامپا). 
 نعرف من سيرة پيرندلو المسرحية أنه كان رائدا في تقنية المسرح داخل المسرح، يستخدمها بوضوح في (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) وغيرها من نصوصه. لكنه هنا يقيم مسرحا أكثر لطفا ورهافة داخل مسرحه. آية ذلك أنه على مستوى المشهدية لا يخرج خارج إطار بيت الفارس، فالديكور يفترض ألا يتغير طيلة مشاهد الفصلين، وكأنه يحاول أن يؤكد لنا أننا نشاهد مسرحية، إنها مسرحية (جدا) لو صح التعبير، وكل الأحداث التي لا نراها نعرفها من خلال الحوار الذي لا تكاد تكتمل جمله إلا مع (تشامپا). أما على مستوى الأحداث والشخصيات، فإن الكاتب (تشامپا) يكاد يكون نائبا في حضوره عن المؤلف نفسه، فهو وعيه بالعالم، وهو أداته في نقد المجتمع والحضارة وحتى في نقد دور الكاتب الذي يخلق الجنون ملاذا آمنا للإنسانية بمسرحياته التي تفضح الحقيقة، ثم لا يلبث أن يوظفه كمتنفس ضروري لتطرد الحضارة في زيفها بشكل مستقر، كما لو كان ديوثا للحضارة برمتها!
 لا ننسى شخصية بسيطة الحضور أغفلنا ذكرها إلى الآن، هي شخصية الغجرية التي تأتي لـ(بياتريتشي) بالخبر اليقين في مسألة خيانة زوجها. إنها امرأة نعرف من الحوار بين بياتريتشي وأخيها (فيفي) أنها سيئة السمعة تتجنبها الطبقات الراقية في المجتمع. نعرف من مراجعة النص الأصلي أن اسم هذه الغجرية Saracena. وهو اسم مدينة في الجنوب الإيطالي قريبة من صقلية، بها سوق عربية قديمة تعود إلى أيام النفوذ العربي هناك، كما أن الاسم Saracen يعني في اللغات اللاتينية (أبناء سارة) في إشارة إلى العرب والمسلمين أبناء إبراهيم من (هاجر) ضرة سارة! هل اختار پيرندلو هذا الاسم ليشير به إلى الآخر الغريب عن المجتمع، الذي يبدو اقتحامه ضروريا لفضح حقائق المجتمع المستقر على الزيف؟ نحتاج أن نحضر روح پيرندلو فيما يبدو ليجيبنا عن هذا التساؤل!
 ختاما، يبدو الغياب القسري للفارس (فيوريكا) عن الأحداث التي نشهدها على خشبة المسرح، يبدو انحيازا واعيا من پيرندلو ضد هذا الرجل الزائف الذي يجسد بنيان الحضارة وثباتها القائم على الخيانة وتجنب التعرض للحقيقة. إنه الأكثر تحققا في الحياة - لا ريب في ذلك – لكنه في عمل يد الكاتب يتضاءل إلى مجرد اسم لا جسد له، ربما نكاية في الحضارة، أو إعادة للأمور إلى نصابها من وجهة نظره. 
 


محمد سالم عبادة