في الحضرة الحرة.. الأحاسيس المستعارة والانبهار بالتبعية

في الحضرة الحرة.. الأحاسيس المستعارة والانبهار بالتبعية

العدد 578 صدر بتاريخ 24سبتمبر2018

بداية، لا أعتقد أن المسئولين عن المهرجان التجريبي والمعاصر قد اتخذوا أي موقف في التصدي لفريق عمل عرض “حضرة حرة” لفرقة حركة، أو مخرجه على أقل تقدير، في عملية ممارسة الديكتاتورية والإساءة للجمهور المصري وضيوف المهرجان.
فعند الوصول لمسرح ميامي أخرجتنا مسءولة المسرح، لا من أمام صالة العرض فقط، ولكن من قاعة الاستقبال أصلا، وأن نوجد خارج باب المسرح حيث إن العرض سيبدأ من هذه النقطة، فامتثلنا.
وعندما طالت المدة خرج إلينا مسئول كبير بالمهرجان يقول لنا إن هذه إرادة المخرج، وأن علينا الانتظار، فانتظرنا.
ثم جاء الفرج حينما سمحوا لنا بتعدي باب بناء المسرح الأمامي، ولكنهم أوقفونا عند الباب الداخلي بنفس الحجة، فاعترضنا. لأنه ما دام انتظار بانتظار فلماذا لم يتركونا في مكاننا الأول.
وعندما جاءت اللحظة يا همام أدخلونا لقاعة العرض مباشرة دون أي استخدام لتلك المناطق التي حرمت علينا قبلا!! فلماذا كانت هذه الأمور؟ لا أستطيع هنا أن أقول السبب الحقيقي الذي أعتقده، خاصة مع يقيني أنه لم تكن هناك تجهيزات مطلوبة من المسرح ولم تتوافر، فتم ما تم.
وليرجع المسئولون عن المهرجان لما هو متوافر على الميديا أو شبكات التواصل لعروض نفس الفرقة لنفس العرض، وخصوصا في برلين وكولونيا ومالوركا، ليروا ما إذا كان فعل نفس الأمر أم لا؟
المهم أنني في الأساس ذهبت لمشاهدة هذا العرض نتيجة ما سمعته من بعض المسئولين المتعاملين والمتحكمين في اختيارات العروض والقريبين منهم، بأنه عرض جيد. كما تواتر نفس الأمر لبعض من وصلتهم الأسطوانات الخاصة بالعرض أو من شاهدوه مسبقا. كما أنني في عملية الانتظار هذه قد سمعت أنه عرض صوفي. ولا أعرف هل الصفة جاءت من اسمه؟ أم مما شاهدوه؟ كما أنني سمعت من البعض أنه شاهد هذا العرض من قبل، وسيشاهده الآن لكي يكتسي بمجموعة من المشاعر والأحاسيس ستساعده في أداء واجب اجتماعي بعد العرض!
والحقيقة إنني ربما أنساق وراء الحديث عن الصوفية، أولا من اسمه، فالحضرة هي كلمة صوفية إسلامية، توصف بها مجالس الذكر الجماعي، وهي قد سميت بذلك نتيجة أن هذا الذكر والإخلاص فيه يأتي بنتيجة حضور القلب مع الذات العليا أو استحضارها، لتكون الطقوس المؤداة مع الذكر دافعا في الخروج من أسر المكان المادي والعموم اليومية وصولا لفراغ معنوي ولكنه محسوس ومدرك بعملية الحضور هذه.
وثانيا مما قيل عنه. وثالثا ما قاله المقدم قبل العرض ووصفه بتلك الصوفية أيضا.
ولكن بعد مشاهدة العرض بصورة جيدة، ستجد أن تلك الصوفية بمعناها العام لم تكن موجودة، بل إنك لو فسرت ما تراه أمامك طبقا للصوفية ودلالتها ومعانيها، اعتبارا من مفرداتها اللونية والحركية بالإضافة للفظية. ربما ستجد نفسك منطقيا أمام معارضة لا اتفاق ولا اتساق. وقد تورده موارد التهلكة. فأنت لن تكون أمام حضرة مغايرة وقتها، ولكن ستكون أمام حضرة مضادة.
فأنت لو تعاملت مع الراقصين والمؤدين للحركات أصحاب الزي الأبيض، وفسرت اللون صوفيا فهو يرمز لصفة متذوقي الشراب الإلهي/ العشق الإلهي. ولذا ستفسر أيضا انبعاث ماكينات الدخان بما يشكل صورا من ضباب، بالتلاشي والذوبان عشقا وتوحدا، حيث تدخل النفس في الطبقات العليا وتنتقل بين ملكوت الله كهدية من المعشوق لعاشقه.
ولكن، بماذا تفسر الشخصية الرئيسية التي ترتدي الأحمر في نصفها الأسفل والأعلى عاريا؟ هل ستفسره على أنه الحياة والقوة والرغبة الجنسية اتساقا مع النصف الأسفل؟ أم هل ستفسره دينيا اتساقا مع الجحيم ولون جهنم؟ أم هل ستفسره بصاحب الصراع الأزلي مع الإنسان، ذاك الذي رفض السجود له؟
خاصة أن هذا التفسير إياه سيحيلك لأن صوت المغني - والأشعار ذات الاتجاه التي أنت به في المجمل، ومعارضا في بعض الأحيان الملتبسة كالالتباس الذي يحدث للبعض عند قراءة ابن الفارض مثلا – هو نفسه صوت هذه الشخصية.
لو ذهبنا هناك دينيا أو صوفيا وحتى اعتياديا لا تجد أي اتساق مع الروح أو متذوقي الشراب الإلهي، وستجد أن الحالة الواجبة هي الصراع الدائم لا الحالات المتفاوتة التي تجدها، مع التعامل الجسدي الحادث في بعض المشاهد!
أعلم أن هذه الالتباسات جاءت نتيجة الوصف المسبق للعرض، بناء عليه استدعت النفس شعورا وجب أن تكون عليه. ساعد على ذلك أن الموسيقى كانت أكثر من رائعة وتعتمد على الإيقاعات القوية، سواء إيقاعات الجملة الموسيقية ذاتها، أو الآلات الإيقاعية المصاحبة، وروعة صوت المغني. هذه العوامل ساعدت في الإيحاء في التفسير غير الصحيح انسياقا وراء التوجيه المسبق، دون التفات للعلامات بل والحركات المؤداة وهي حركات غير موجودة في القاموس الصوفي، سوى الحركة المستديرة التي كانت أشبه برقصة التنورة عندنا، والتنورة جزء من الحركات الصوفية في مدرسة مصر وحلب وتركيا بالنسبة لطريقة ابن الرومي، واكتسبت الصفة العالمية خاصة في العالم الإسلامي، ربما هذه الحركة ساعدت في لي عنق الحقيقة ومحاولة إخضاع حركات البالية الأولية التي مارسها الجميع في الأغلب في هذا الاتجاه الصوفي. ولو فسرنا البناء الذي جاء به أكثر من مرة مع استارة بنفس المنطق لحدثت كارثة.
ولكن لم يكن هناك التفات من الحضور وربما المفسرين وربما بعض الكٌتاب للعلامة الرئيسية الموجودة في العرض ألا وهي حقيبة السفر.
إن وجود حقيبة السفر هذه تنسف أي تفسير مسبق للعملية الصوفية كما نعرفها، فواقعيا سفر الصوفي لا يلزمه حقيبة سفر فهو ينتقل بين الأماكن ينفسخ فقط وبما يسرته تاركا الأمر لله. وعلى مستوى المعنى والدلالات، لا توجد حقيبة سفر عند السفر لله، أو حتى الهروب منه.
وعند محاولة ربط الأمور ببعضها بعد انتهاء العرض، تذكرت أنني قد حصلت على مطبوع العرض، وفوجئت.. فالمطبوع يحمل تفسيرا لاختيار الفرقة كلمة (حركة) كعنوان لها، وهي حرة في الاختيار. مع تذكير بأن التفسير يقول لنا أمام فرقة رقص، طبعا المفاجأة لم تكن في تفسير الاسم، ولكن فلأنقل لك ما هو مكتوب حرفيا عما أرادوه بهذا العرض “حضرة حرة” يحكي قصة خسارة، هجرة وبحث عن مكان يمكن أن يكون منزلا؛ حيث كل ما يملك المرء وكل حاجاته تتسع في حقيبة واحدة، فالخبرة المكتسبة من الترحيل تتحول رحلة للبحث عن الخظ والثروة، فتنمو من الماضي من دون أن يفقد المرء هويته في الحاضر، في صور تتكلم يحاول (الراقصون) تجسيد الرحلة من قاع اليأس حتى الراحة والطمأنينة بعد المهجر وبشكل طقسي يولد رقصهم عناصر للطاقة التي تشعر الإنسان بذاته.. إلخ.
ولا توجد أي إشارة صوفية أو من الممكن أن تكون كذلك إلا كلمة (طقسي).
من هذه الكلمات ستجد أن عملية الترحيل، أي الإجبار على الانتقال من مكان لآخر، ثم محاولة البحث عن منزل في المكان المرحل إليه هي الثيمة الأساسية في العرض، ومن ثم كانت حقيبة السفر.
صحيح أن الأعمال الفنية لا تتحقق بالنيات، وصحيح أن عملية الصراع هنا في عملية الترحيل هي صراع إنساني إنساني في الأساس، ولا وجود للذات العليا هنا سوى في المشيئة أو السماح دون الإجازة أو الإثابة أو الحث، بل ربما التنكير والوعيد، وطبيعي أن تكون عملية الترحيل هنا مقترنة بما يسمى بالمهاجر غير الشرعي أو الذين يتوجس منهم شرا. وطبيعي في هذا العصر والآن أن تكون هذه العملية منصبة على بعض من أبناء الشرق العربي نتيجة الأحداث التي مرت. وطبيعي أن يكون البعض فارا باحثا عن أمان، مع إمكانية أن البعض يحاول فقط الحصول على فرصة أكبر.. إلخ من الدلات التي تتسم بها كلمتا الترحيل والهجرة، دون أن يكون لها واقع ملموس على مستوى الفعل/ الأداء الراقص سوى في بعض اللمحات غير المنسابة أو المتسقة. ففتح الباب لعملية سوء التأويل والكثير من العواطف المستعارة.
ولو كان المخرج أو مصمم الرقصات قد بذل جهدا في البحث عن حركات عالمية يفهمها الجميع ما كان حدث هذا اللبس، ولربما لكان خفف من أداء المغني وحالته بما يتسق مع الحالة المشار إليها.
وطبيعة الأمر وحقيقته، أنك كنت أمام استعراض مراوغ. نعم، هو استعراض وليس عرضا مسرحيا، وربما استقدموه للصفة التجريبية مع أن الكثير من العروض الايمائية والراقصة كانت هنا من قبل وكانت عروضا مسرحية لا مجرد استعراضات. وأيضا من قبل وجود الكثير من الاستعراضات، فالجدة ليست متوفرة في الاختيار، وربما كان الاختيار للتوافر وليس لشيء آخر. صحيح أنه اتسم بالكثير من الأشياء الجمالية كالموسيقى والغناء واستخدام الإضاءة داخل سياق هلامي بعض الشيء، بما ينتج عنه الكثير من التفسيرات من الموجودين كل طبقا لنوعه وحالته، مثل حالة المريض النفسي أو الإنسان العادي الذي توضع أمامه ورقة وقعت عليها بقعة حبر، وكل يستعرض ما يراه فيها دون أي قصد مسبق من صاحب البقعة التي ربما سقطت عفوا.. فما بالك لو كانت البقعة موجودة فوق ورقة بها بعض الحروف الكبيرة الواضحة ولكن متناثرة، ساعتها قد يبحث كل شخص كلمته التي يبحث عنها من محاولة إيجاد إشارة لصف تلك الحروف قربا أو بعدا عن بعضها البعض. وقليلون فقط من يحكم الحكم الصحيح بأنه قد تولد الصدفة بعضا من دلالات غير مقصودة ولا امتداد لها، ولكن البعض سيتمسك بها.
وربما لو سمحوا للمشاهد وقبله مسوق العمل بأن يقرأ ما جاء في المطبوع أو جاء في التقدمة التي كانت قبل العرض، لربما كان التلقي العام مختلفا.


مجدى الحمزاوى

mr.magdyelhamzawy@gmail.com‏