في مسافر ليل ينطلق القطار من ساحة الهناجر

في مسافر ليل ينطلق القطار من ساحة الهناجر

العدد 576 صدر بتاريخ 10سبتمبر2018

الاستبداد والقهر أصبحا أكثر اتساعا في عالمنا لدرجة أن بعض الدول تمارسه على دول أخرى لتحقيق أغراض معينة تتفق مع سياستها العامة، وبالتالي أصبح العالم غير قادر على تحقيق تلك الأحلام الكبرى التي كانت ذات يوم تبشر بمستقبل أكثر إنسانية، وهو ما ساعد على انتشار التشاؤمية والرؤى العبثية في الوقع والفنون.
ولعل ذلك ما يجعل من حضور مسرحية «مسافر ليل» لصلاح عبد الصبور، تنتمي إلى هذه النوعية من النصوص التي تسودها التشاؤمية والعبثية والخلط بين الكوميديا والتراجىديا «التراجيكوميديا»؛ حيث لا تقوم على البناء الدرامي التقليدي، فالمسرحية بها ثلاثة شخوص هم: الراوي، والمسافر (الراكب)، وعامل التذاكر. وبتحليلنا لتلك الشخصيات نلاحظ أن النص يقدم الراكب في صورة إنسان مهزوز مسكين بداخله ضعف قليل الحيلة مهزوم يصدق ويرحب بالمستبد. أما الراوي فهو الإنسان المثقف السارد والمالك للحكاية وكأي إنسان يمتلكه الخوف عندما يرهبه المستبد، وكما يقول صلاح عبد الصبور في تذييل كتبه بطبعه مسرحيته بأن الراوي «شخصية رئيسية من شخصيات المسرحية بديل الجوقة «وقال» فهو ممثل لكل من هم خارج المسرح لذلك يقف على حافته. وعامل التذاكر هو الشخص المستبد المتحول المتلون كالأفعى يظهر الضعف في لحظات لينقض على فريسته.
تبدأ أحداث المسرحية بجلوس الراوي بين الجمهور ثم يدخل الراكب يبحث عن مقعد، ويبدأ الراوي في سرد الأحداث فيقدم الراكب بأنه بطل الرواية ومهرجها غير مهم اسمه ولا صنعته، ويعلق: الآن يبدأ الراكب في استدعاء شخصيات الطغاة من التاريخ مثل الإسكندر وهانيبال وتيمورلانك وهتلر، (ثم يردد) الإسكندر.. تك.. تك.. تك. يدخل عامل التذاكر قائلا «من يصرخ باسمي من يدعوني.. من يزعج نومي في زاوية العربة.. أنت» يخشاه الراكب ثم لم يصدق بأنه الإسكندر ويقول هذا البرميل الأسمر في الكيس الكاكي الإسكندر لكنه من شكه وخوفه فهو رجل مهزوز سرعان ما يرحب به يخرج العامل سوطا وخنجرا وغدارة وأنبوبة سم وحبلا ويواصل إرهابه ويقول إن اسمه زهوان ويطلب تذكرته، ويظل الراكب مذعورا من تصرفات عامل التذاكر لدرجة أنه ينسى موضوع تذكرته ويقلب في جيبه ويجدها ويعطيها له فيأكلها ثم يطلب التذكرة مرة ثانية فيخبره الراكب بأنها في بطنه، ولكن عامل التذاكر ينهره لكنه يحتال عليه ويتودد إليه ويعلم منه أن اسمه عبده ثم يخلع سترته ليطمئنه، ولكننا نجد أن تحت السترة سترة ويخبره بأنه يتحدث معه كصديقين، وتتوالى الأحداث يرهبه ويتودد، إلى أن يبلغه أن اسمه سلطان ويتهم الراكب بأن اسمه ليس عبده وهو كاذب، فيؤكد له الراكب أن اسمه عبده وأباه عبد الله وابنه الأكبر عابد والأصغر عباد واسم الأسرة عبدون، ويسأله عامل التذاكر عن بطاقته ويستمر الحوار إلى أن يقول عامل التذاكر للراكب هذه قطعة ورق بيضاء وأنها ليست أوراقك لقد سرقتها ويستخرج نجمة مأمور أمريكي من جيبه ويعلقها في صدره ويبدأ معه التحقيق فيطلب الراكب عشري السلطة فيخبره عامل التذاكر أنه عشري السلطة ثم يخلع عامل التذاكر سترته ويخبر الراكب أنه لا بد من تحقيق العدل، وتنتهي المسرحية بأن يقوم عامل التذاكر بقتل الراكب ويطلب من الراوي مساعدته في حمل جثته فيتوجه الراوي إلى الجمهور ويقول: ماذا أفعل؟!.. ماذا أفعل؟! في يده خنجر وأنا مثلكم أعزل لا أملك إلا تعليقاتي: ماذا أفعل?! ماذا أفعل?!
وقد حاول العرض تقديم تلك الرؤية الخاصة بالنص من خلال عناصر العرض المسرحي، فنجد أن المخرج تبنى فكر الكاتب ولم يحاول الخروج عنها كما حدث في محاولات سابقة من بعض المخرجين وحيث إنه مصمم الديكور فقد قام ببناء المسرح على شكل عربة قطار لها با بان وعدد من الشبابيك المفتوحة والفراغ الداخلي عبارة عن مقاعد للركاب بينها ممر يتسع في منتصف العربية، وتعتبر خشبة المسرح، وهي أكثر منطقة فيها مشاهد تمثيل. وقد اتخذ رفا فوق الكرسي ليصبح منطقه تشخيصا، وبالتالي نجده قد أشرك الجمهور مع الممثلين وأيضا بقية العناصر المشاركة بالعرض في تلاحم معا.
وبالنسبة للملابس (الراوي والراكب) ملابس معاصره مطابقة لشخصيتهما فملابس الراكب تدل على أنه شخص فقير وملابس الراوي تعتبر ملابس أنيقه تدل على أنه إنسان مثقف، أما (عامل التذاكر) فكان يرتدي سترات فوق بعضها ذات لون كاكي وأزرار لامعة.
من ناحية أخرى، استخدم المخرج الإضاءة لتعبر عن ظلمة الليل تجسيد حالات السطوع العابر المرتبط بمرور القطار أثناء سيره على المدن ذات الأماكن المضيئة، كذلك استخدم كشافا يدويا ليدفع المتفرج إلى الشعور بظلمة المكان.
أما الموسيقى والمؤثرات الصوتية، فقد نجحت في تأكيد الجو العام للأحداث لدرجة أن المتفرج يستطيع الشعور بوجوده في قطار يتحرك كما يمكنه الشعور باحتكاك العجلات مع القضبان.
من جانب آخر، إذا كان صلاح عبد الصبور في تذييله للمسرحية في إحدى الطبعات قد قال «إنني لو أخرجت مسرحيتي لجعلتها كوميديا في الأداء قد تتحول إلى (فارس) أو مسخرة كما يترجمها المجمعيون». وقال «هذه المسرحية في رأيي كوميديا رغم أنها تنتهي بفاجعة، فهي إذن من الكوميديا الداكنة أو السوداء»، فإن المخرج التقى مع فكر الكاتب بالأداء التمثيلي، فنجد الدكتور علاء قوقة (عامل التذاكر) كعادته يتفوق على نفسه وتتجلى براعته في الانتقال بين الأداء الجاد والكوميدي وخاصة في حديثه مع الراكب عن زوجة زميله زهوان بحسابات دقيقة حتى لا يقع في خطأ اللهث وراء الكوميديا، وذلك لخبرته كما أنه الأستاذ بأكاديمية الفنون. وجهاد أبو العينين في دور (الراوي) أدى دوره بحنكة شديدة كما قال عنه الكاتب وجهه ممسوح بالسكينة الفاترة، صوته معدني مبطن باللامبالاة الذكية لدرجة أنه كان يعبر بملامح وجهه كأنه أمام كاميرا سينمائية. ومصطفى حمزة (الراكب) تلون أداؤه بين القهر والذعر والاستسلام ببساطة شديدة.
تحية للمخرج الواعد محمود فؤاد صدقي.. بالحب والأمل والعمل تستمر الحياة.


جمال الفيشاوي