حدث في بلاد السعادة يدين الشعوب ويبرئ الحكام!

حدث في بلاد السعادة  يدين الشعوب ويبرئ الحكام!

العدد 576 صدر بتاريخ 10سبتمبر2018

جذبت العلاقة الديالكتيكية بين الحاكم والمحكوم الكثيرين من الكتاب والمخرجين العرب، وذلك منذ نشأة المسرح مع مارون النقاش حينما قدم مسرحية “أبو الحسن المغفل وهارون الرشيد” هذه المسرحية المستلهمة من حكاية “النائم واليقظان” في الليلة الثالثة والستين بعد المائة من (ألف ليلة وليلة)، عام 1853 وكذلك فعل سعد الله ونوس عام 1977 في مسرحيته “الملك هو الملك” وغيرهم الكثير, ولعل ذلك يرجع لإيمانهم بأن (المسرح يلعب دورا ضخما في تغيير كل ما هو موجود) على حسب قول مايرهولد، والآن يستلهم وليد يوسف نفس المبنى الحكائي لمسرحيته “حدث في بلاد السعادة” مع المخرج مازن الغرباوي في عام 2018 بعدما حدث الكثير من التغيرات الاقتصادية الاجتماعية والسياسية في الواقع العربي، ليكشف لنا عن آليات الديمقراطية التي تعتمد على المشاركة بين الحاكم والمحكوم في علاقة أفقية جديدة، ويكثف وليد يوسف رؤيته بكلمته على بامفلت العرض (في البدء كان الشعب) كعتبة أساسية لقراءة العرض المسرحي. ومن هنا تأتي مشروعية السؤال: كيف قدمت مسرحية “حدث في بلاد السعادة” هذه الرؤية التي صرح بها صناع العرض؟
يبدأ العرض بحيلة درامية تؤكد من البداية أن أحداث هذه المسرحية تدور في اللازمان واللامكان، وأنه لا يوجد بينها والواقع الحالي أي تماس، فهي تحكي عن ملك قد جاء بجيشه من بلاد بعيدة ليحتل «بلاد السعادة» التي تشتهر بثروات كثيرة، لكن أهلها غير قادرين على استثمارها والانتفاع بها؛ لذا فقد تمكنوا بسهولة من احتلالها والسيطرة عليها، إلى أن جاء اليوم الذي استطاع أحد أبناء هذا الشعب، وهو الحطاب الفقير بهلول، الذي يجسد دوره مدحت تيخة، أن يتسلل إلى قصر هذا الملك المحتل بغية أن يشرح له الأوضاع المتدنية والبؤس الذي يعاني منه الشعب بسبب غلاء الأسعار، مما أجبر أغلبية شعبه أن يعمل بالشحاذة، وهنا تحدث المفاجأة فيقرر الملك المحتل أن يرحل إلى بلاده البعيدة تاركا الحكم لبهلول ووزيره الداهية عجبور، ويحاول بهلول أن يحقق العدل والحرية لكن الشعب يخذله لأنه أساء استخدام ما منحه له بهلول وأسرف في أمور اللهو، فيقرر بهلول التنحي عن الحكم، ويندم لأنه لم يستخدم القوة مع هذا الشعب، كما نصحه الحكيم والشاعر اللذان التقى بهما خلال زيارته للسجن. إن هذا البناء الدرامي قد وضع المخرج في تناقض شديد بين ما صرح به في كلمته عن العرض بأنه ينادي بمشاركة الحاكم والمحكوم حتى نصل إلى بلاد السعادة، وبين رسالة أخرى تدين الشعب لأنه السبب الرئيسي في مشكلاته، فارتفاع الأسعار نتيجة لجشع الناس، والحرية عندهم ليست تعني سوى الفجور والفسق، بينما الملك يسعى إلى ترسيخ العدالة بين جميع فئات المجتمع على الرغم من مضايقة الحاشية له وتخلي الشعب عنه وعدم مشاركته له حتى في التعبير عن الرأي، والأكثر من ذلك أنه عندما تفتح لهم السجون يرفضون الخروج، ويتمسكون بالسجن، فأين هذه المشاركة التي يتحدث عنها صناع العرض؟ فإننا أمام رسالة تؤكد على أهمية العلاقة العمودية بين الحاكم والمحكوم، علاقة راعي برعيته، فالملك بهلول كان عليه أن يملي كلّ شيء بالقوة والرعية تنفذ طواعية، لأن الملك إن فعل غير ذلك سيخسر ملكه وشعبه معا، مثلما حدث في بلاد السعادة.
شعب بلاد السعادة أفضل ما فيه بهلول الذي لم يغضب أن هناك محتلا قد اغتصب أرضه، وأصبح يتحكم فيه وفي أهله وإنما أغضبه ضيق العيش فذهب ليوضح الأمر للملك المغتصب لأنه ربما لا يعلم بما يحدث، وعندما تولى الحكم ترك المستعمرين يحكمون معه، أن شاعر بلاد السعادة مسجون وحكيمها مسجون وكل ما هو صلب قد تبدد ولم يعد الحكيم هو من يحمل الحقيقة في وجه القوة كما يقول تشومسكي، وإنما أصبح هو من ينادي بالقوة في وجه الحقيقة، بما يعني أن «المفكر الموضوعي» عند أنطونيو غرامشي وعابد الجابري و«المفكر الرسولي» صاحب الرسالة التي تسعى لتغيير المجتمع عند إدوارد سعيد، و«المفكر النقدي» عند نيتشه وسارتر لم يعد لهم دور في بلاد السعادة، فالحكيم الذي علم الحطاب ألا يقطع الأشجار أصبح أسير الجدران وكذلك الشاعر الثوري الذي حفظ شعره بهلول أصبح الآن شبه مجنون، ورغم ذلك فالمدان الشعب والبريء هو الملك، وهذا يذكرنا بما قاله عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد (الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان، فيسوق الناس إلى اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مُطيع، والمُشتكي المُتظلم مُفسِد، والنبيه المُدقق مُلحد، والخامل المسكين صالح، ويُصبح - كذلك - النُّصْح فضولا، والغيرة عداوة، الشهامة عتوّا، والحميّة حماقة، والرحمة مرضا، كما يعتبر أن النفاق سياسة والتحيل كياسة والدنائة لُطْف والنذالة دماثة) (وإن كانت الشعوب تصنع ديكتاتورها) مثلما يقول المؤرخ الألماني كارل بروكلمان فإن شعب بلاد السعادة قد صنع حاكمه لكنهم لم يفعلوا ذلك باتفاق كامل مع إرادتهم الحرة للرغبة في الجشع ونياتهم الواعية للفجور. وإنما ما وصلوا إليه هو نتاج لكل الأنظمة التي سبقت حكم بهلول وإن كان الأمر كذلك، فإذن كيف نقول على شعب بلاد السعادة (في البدء كان الشعب)؟
أما على مستوى الخطاب البصري، فقد حاول المخرج جاهدا أن يقدم رؤية غرائبية حتى يبتعد عن الإحالة إلى تحديد الزمان والمكان سواء من الملابس التي صممتها مروة عودة وديكور حازم شبل وإضاءة مصطفى تهامي
والتصميم الحركي لكريمة بدير، وتقنية 3d mapping لرضا صالح، وخدع خالد عباس وإن كان الآخران لم يتم توظيفهما كتقنية وعلامة فارقة في العرض من أجل الوصول إلى معادل فكري بصري جديد يجعل من استخدامهما ضرورة درامية لإنتاج معنى دلالي مغاير، وإنما كان استخدامهما فقط بهدف تغيير وتلوين المنظر المسرحي بشكل مبهر, لإظهار الاختلاف بين عالم الملك السابق زمجور صاحب العرش المتحرر من القيود والملك الحالي بهلول صاحب العرش المقيد، ولم يبرر المخرج الداعي لهذه التقنية، وخصوصا أن لديه زخما يمكنه أن يحقق به كل ما يريد من خلال جسد الممثل وصوته والفضاء المادي المحيط به وكافة عناصر بناء العرض المسرحي المتعارف عليها والمتوفرة له. وبالنسبة لموسيقى محمد مصطفى لم تكن معبرة عن الأشعار التي كتبها حمدي عيد فيما عدا أغنية “مش كل البيوت قصور” وقد استخدم المارش العسكري أكثر من مرة دون مبرر لذلك ولم يستفد من إمكانيات وائل الفشني وفاطمة محمد علي الرائعة التي لا يمكن أن نختزلها فقط في ميلودي واحد يعتمد فقط على قوة الحنجرة فكلاهما لديه قدرة فائقة وجماليات صوتية متعددة.
وعن الأداء التمثيلي، فمدحت تيخة في دور بهلول، وعلاء قوقة في دور الوزير، وحسن العدل في دور الحكيم، وفاطمة محمد علي في دور زليخة، وأسامة فوزي في دور السقا، كان كل منهم منسجما مع شخصيته. أما عن سيد الرومي في دور زمجور الملك المستعمر، فعليه أن يفرق بين خفة الظل والسذاجة، فالملك المحتل ليس ساذجا حتى وإن كان لا يستطيع إلقاء خطابه. والمثير أن بقية الممثلين العرب كخدوجة صبري بائعة الحانة ونسرين أبي سعد بائعة القدور، لم يتم توظيفهم في هذا العرض بالشكل الذي يظهر لنا إمكانياتهم التمثيلية، وإن كانت فكرة مشاركة الإخوة العرب فكرة عظيمة تستحق كل تقدير.


محمد زناتي