تقديم الأشياء في المسرح (2-2)

 تقديم الأشياء  في المسرح (2-2)

العدد 570 صدر بتاريخ 30يوليو2018

في مناقشة لدراسة هيدجر، وصف أحد الطلاب مثل هذه اللحظة في فهم هبة الشيء في عمل بينا بوش Pina Bausch نيلكين Nelkin. فخشبة المسرح كانت مليئة باللون الوردي والأحمر القرنفلي، ورجل بملابس السهرة يغني كلمات أغنية «الرجل الذي أحبه» أثناء عزف موسيقاها، وامرأة ترتدي سروالا أسود طويلا وحذاء ذي كعب عالٍ، وآلة أوكرديون تتجول في اتجاه منتصف المسرح. ومهما كانت مجموعة الأسباب، فقد قال الطالب إنه كان مندهشا من معنى الكشف وكانت فكرته هي «كيف عرفت؟ كيف عرفت أنني أشعر هكذا تجاه هذه الصورة؟ لقد كان الأمر بالتأكيد مسألة إدراكه واستعداده أن يفهم، فلم يكن يوجد شيء ليدركه الآخرون: ومع ذلك اعتمد إدراكه على الصورة وحدوثها في تلك اللحظة بالنسبة للحظات الأخرى. فالزهور ككائنات، ليست هي الشيء، فقد كان الشيء مع ذلك إن جاز التعبير هو التزهير. إذ كانت هناك مسألة خاصة ببوش وراقصيها والفنيين الذين وضعوا كتلة الزهور على خشبة المسرح، والذين خلقوا صورة الشيء في حركة، والذين كرروها بالقدر الكافي الذي يجعلها مدركة مع أنها غير مفهومة أو ذات دلالة (وقاتلة كذلك)، والذين التقوا معه في تلك اللحظة. لقد كانوا يقدمون الشيء. وهم تجمعوا، وبقوا معا، وقدموا تلك الصورة المتحركة لمشاهد واحد على الأقل وعاد الشيء المسرحي إلى بيته – أو أصبح حاضرا – تماما مثلما غادر.
الأشياء على مائدة الأدوات، المؤجلة بين وصولها ورحيلها، تقدم أيضا صورة لشكل معين من التاريخ ولفقدان حضورها، فمجموعة الأشياء المرتبة كعناصر متباينة تنتمي إلى ماض، وتقوم البيئة الحية بوظيفة التذكار الذي يهدف إلى كل من حقيقة الماضي، وفقدانها للحاضر والاحتمالات الخيالية. وتوحي نفعية ترتيب الأشياء بنوع من الشكليات لعرض التاريخ. ويميل التاريخ المادي في شكل ترتيب إلى تحدي تراتيل السرديات التاريخية الكبرى، وفقا لمصطلحات ليوتارد، إنه شكل جديد، موضوع في ترتيب شكلي وجاهز لوضعه في سياق مغاير بواسطة الاستخدام الواعي بذاته للسرد والتسمية. فالتاريخ، المحفوظ بواسطة الأشياء يأخذ شكل المجموعة المرتبة أو العشوائية المؤجلة بين الفترات.
وبعبارة أخرى، فإن دليل الأشياء لا يأتي بما كان مفقودا فقط إلى الوجود، بل أيضا الوجود الملموس للفقد، فقدان في شكل شيء. فاستعادة التاريخ ودليله هي فعل إبداعي وأدائي. وهذه حقيقة مفقودة غالبا في افتراضات المتاحف. فالأشياء ليست الكل (فهي ذلك المتبقي) وفقدت البيئة التي كانت تستخدم فيها. وبمجرد تقديمها - على خشبة المسرح أو في المتحف – لم تعد مطابقة لذاتها. وبالطبع، في إطار العرض، لم تكن حقيقية أبدا لأنها كانت من أدوات خشبة المسرح، ومن الناحية الأخرى تكون حقيقية من أدوات خشبة المسرح. وبتمثيل كليهما للحقيقي وهدمه، تتوزع هذه الأشياء بين المادية وحقيقة التمثيل. ولا تختفي داخل منفعة الأشياء العادية ولكنها تثبت حقيقة الشيء العادي. وسواء كانت الأشياء حقيقية أو مغتربة، فإن مكانتها ليست مسألة أنطولوجية بل مسألة منظور وموقف يتعلق بالموضوع الذي يمر بمرحلة انتقالية. فهم يميزون بشكل ملموس اختفاءهم من زمن ماض علاوة على إصرارهم على الحضور. وفي طبيعتهم المزدوجة، فإنهم خارقون للطبيعة لأننا نتساءل عن حقيقتهم وهم يقدمون دليلا حسيا. وكما تقول سوزان ستيورات عن الهدايا إنها آثار تجربة صادقة.. فنحن لا نحتاج ولا نرغب في هدايا الأحداث المتكررة. فنحن نحتاج بالأحرى ونرغب في هذه الأحداث المنقولة، الأحداث التي هربت منا ماديتها، الأحداث التي لا توجد إلا من خلال ابتكار السرد. وما كان ينتمي ذات يوم إلى شخص ما، مثل الأملاك الموروثة، تنتمي الآن لي، أو حالة المتحف، تنتمي إلى الجمهور، فهي تربطني وفي نفس الوقت وتذكرني بالفقد، فامتلاك شيء كان ذات يوم ينتمي لآخر هو أن تشعر ماديا بالآخر. ورغم ذلك، يصبح الشيء استحواذا في كل من الحواس والعالم، إذ عندما نستحوذ عليه يستحوذ علينا أيضا، وتنشأ هذه الملكية في فنتازيا الاستحواذ، ولكن هذا لا يعني أن نقول إن الفنتازيا هي غير حقيقية أو هي مسألة تظاهر، إنها بالأحرى ما يسميه سلافوي زيزيك Slavoj Zizek توسيط بين البنية الشكلية الرمزية ومادية الشيء التي نواجهها في الواقع. ويمضي في قوله إن الفنتازيا تقدم تخطيطا يمكن أن يوظف من خلاله شيء معين باعتباره شيئا مرغوبا فيه، يملأ الأماكن الخالية المفتوحة بواسطة البنية الشكلية الرمزية.
تعتمد الفنتازيا أيضا على ذاتية مشتركة جذرية يكون فيها الشيء هو الوسيلة التي من خلالها تشكل الذات موضوع اتصال (وبالتالي هوية) مع آخر. بمعنى أنه ليس من الضروري أن يشكل الشيء في ذاته صفة الفنتازيا، بل إن الشيء كما يتحدد لإرضاء رغبة آخر هو الذي يفعل ذلك. فعند لمس الشيء فإننا نلمس الزمن في سجل الحواس، الزمن الذي لا ينفصل عن الشيء (كما هو الحال في تأثير الزمن) ولكنه يدمجه كشيء في حاضره. إنها الهالة أو الاستحواذ الذي يتم فيه زيادته أو مده من خلال تضمين الذي انتمى إلى شيء آخر، في نوع من الصياغة المادية للكناية. والمجاز البلاغي للكناية، له أساس مادي في ظاهرة اللمس. ومفهوم اللمس كظاهرة يتعامل مع بعد الفنتازيا الذي يستغل الشيء بقوة لم يكن ليملكها. ويأخذ حالة الإحساس من شخص حي بالنسبة للفنتازيا لكي يعطي الشيء هالته ويعايش مؤثرات الهالة التي يمنحها بذاتها. ويقدم الانتباه إلى آنية معنى الإدراك والفنتازيا ما لاحظته سوزان جيجر في دراستها للحضور: الانفتاح على التغير في وحدة مخطط الجسم، الذي يجسد بالكامل نشاط التوليف والتوازن بين الثراء والوضوح الذي يشكل تجاربنا المفاهيمية.
وقد تأمل تادووش كانتور طبيعة الأشياء بشكل أكثر شمولا من أغلب المتخصصين في المسرح وقدم بعضا من أوضح المحاولات لسد الثغرة بين التمثيل والأشياء في ذاتها، وفقا لتعبير برجيت بيكر Brigitte Peucker. والصورة البارزة لهذا الجسر هو التأثير المادي للزمن على الأشياء. إذ تناقش بيكر الاهتمام التصويري في القرن الثامن عشر بتأثير العمر التدهور الذي يفسر السحر التصوير الشديد للأطلال، والهياكل التي أحدث الزمن تأثيره عليها. فجماليات الملمس في النزعة التصويرية لا تكرر عمليات الزمن في تمثيل المكان، وتجعل الإلحاح المباشر على الإحساس باللياقة في الشيء. فلياقة الشيء, رغم ذلك تميل إلى تفكيك تلك الدلالات بالارتباط بالتاريخ وغيابها في الشيء نفسه، وإنشاء البعد الحسي الذي يُعرف به التاريخ. وبالمثل، وجد كانتور في السياق الحداثي طرقا لاستخدام مؤثرات الزمن على الأشياء، ليس في إطار تمثيل التاريخ، ولكن في إطار الملمس. فعلى سطح ملمس أشيائه وجد طريقة للوصول إلى البعد الذي لم يكن واقعيا ونفعيا، ولم يكن تمثيليا. فقد عمل على إزالة البيئات الخيالية التي تقدم معنى الشيء على خشبة المسرح بدلا من تقديمها كظواهر مستقلة مع أنها كانت خفية من خلال الاستخدام والتاريخ وسوء الاستخدام. ومع رفض الحركات الجمالية في طليعة أوائل القرن العشرين (البنائية والسيريالية والتكعيبية) والتطور في تقنيات خشبة المسرح في الأربعينات، عرّف كانتور «الشيء الفقير باعتباره أبسط وأقدم شيء والأكثر بدائية، والمميز بالزمن والمستهلك من خلال حقيقة أنه يستخدم. وقد صنف الأشياء في العرض الذي قدمه عام 1944 بعنوان “عودة أوديسيوس” في تدوين شكلي مميز على الورق:
عجلة عربة كارو
بسيطة،
بدائية
ملطخة بالطين. لوح خشبي
 قديم,
 عطن,
 به علامات
 المسامير والصدأ.
كرسي
بسيط,
كرسي مطبخ,
متهالك جدا.
 برميل سلاح,
 حديد,
 يأكله الصدأ
 ضخم، كثيف,
 بلا عجلات
 لكنه يرتكز على
حامل
ملطخ بالطين
والإسمنت حبل من المعدن
والجير سميك
 صدئ
ميكروفون
عسكري
غير متقن
معلق على حبل من المعدن
 طرود
 يغطيها التراب
 والجير
 المشاهدون
 يجلسون عليها
حوائط
الغرفة
حيث يحدث
الأداء,
مدمر
ومليء بالثقوب
وقوالب الطوب العارية أرضية
 فراغات مفقودة
 الحطام منتشر في كل مكان.
أكثر من المؤشرات والعلامات، اتخذت الأشياء على خشبة مسرح كانتور شكل الحزن الفعال على التغير والتفكك على سطحهم. فأشياؤه لم تكن أدوات معدة لخشبة المسرح، كما يشير مايكل كوبياكا Michal Kobiaka، بل هي أشياء حقيقية كانت مفيدة ذات يوم ووسائلية في العالم، التي فقدت فائدتها في العالم. وبدخول عالم خشبة مسرحه، كانت تلك الأشياء مخفية في استخداماتها السابقة. إذ كانت شهودا على فقدانها وتدهورها، وعلى هذا النحو دخلوا خشبة المسرح تجرهم حقيقة الزمن الذي هو ليس زمن خشبة المسرح. فهم لم يدخلوا المجال الافتراضي للخيال الدرامي بل حافظوا زمن الفاني والمادية. وأصبح ذلك الزمن الفعلي جمالية نعت الفقدان مع أنها حولت ذلك الفقدان إلى قابلية للمس. ولأن أشياء خشبة المسرح كانت جمالية، فإن تلك الأشياء حملت حقيقة الزمن في مساحة التأثير. ويصف حب كانتور للأشياء القديمة جمالية الفقدان كحقيقية وليس حالة خيالية. واستدعاء لكانتور، فإن الإدراك الجمالي هو ذلك الذي لا يعتد بالفائدة أو الوسائلية. فالأشياء تحمل التوتر بين الحياة السابقة والموت النهائي. فالأشياء عند كانتور تلغي – وهذا هو الحاضر – علاقة الجسمية والحياة المادية حتى الموت. فمثل ذلك الموت هو الذي يتم تقديمه. ومع فقدان أشياء كانتور إلى الجدوى ومقاومتها لوظيفة تمثيل حقيقة أخرى، فإنها تصر على الحضور.
وإذا أصبح استخدام كانتور للأشياء القديمة المحطمة منظرا محددا لخشبة المسرح علاوة على أنه نوع معين من الديكور، فإنها لم تكن مبدئيا لخلق جمالية من أجل الاستجابة لواقع حربين عالميتين ولحالة ما بعد الحرب. كما يقول مايكل كوبيالكا:
 “كان الشيء المتخلف عن الجرد والشارد عن التقاليد المسرحية هو «الشيء البائس» فمثلا، اللوح العطن لم يعد قادرا أن يؤدي الوظيفة النفعية في الحياة أو في المسرح وقد كان انعدام الوظيفة هذه، بالنسبة لكانتور، سر استفساره الفني لما يسميه آرتو “الفضاء غير اللاهوتي nontheological space”، وجوهر الشيء ووجوده ورفض مفاهيم الفراغ التقليدي في المسرح وموضوعه الفني المسيطر عليه بواسطة المحاكاة كان له نتائج بعيدة المدى في مسرح كانتور، أجبرته ليس فقط على استبعاد فكرة أدوات خشبة المسرح، بل أيضا إعادة تعريف دور تصميم واعداد خشبة المسرح والملابس والحجب والإضاءة. وفي النهاية حدث خشبة المسرح”.
فتلك الأشياء البائسة في عرض «عودة أوديسيوس» لم تكن أدوات لخشبة المسرح بأي معنى تقليدي، ولكنها كما يشير كوبيالكا، وسيلة لخلق نوع خاص من المساحة التي تنتج فراغها وتعليقها. ومع ذلك، فإن تلك الأشياء، كما في استخدامه الأخير للمقاعد القديمة في عرض «الطبقة الميتة Dead Class»، أو موتيفاته المكررة لعجلة الدراجة أو المظلة، تؤسس جمالية لأنها تلح على الحواس، ولا سيما حواس اللمس. وعلاوة على الشكل البصري للمظلة أو الدراجة، فإن حاسة الشيء تعطي حضورها المسرحي بعدا حسيا يتجاوز وضوحها. واقترح أيضا أن الوصول إلى فراغ بديل لا يمكن تحديده، كما يقول كوبيالكا من خلال صيغ تمثيل الدلالة. لأن كانتور، في أعماله المبكرة باستخدام الأشياء الفقيرة علاوة على استخدام التعبئة والتغليف في الخمسينات والستينات، يستطيع أن يعزل ظاهرة الأسطح: أو بدقة أكثر يقدم الأسطح إلى التركيب الظاهراتي. فسطح الأشياء القديمة يحمل علامات استخدامه وتاريخه، كما هو الحال في الجسم البشري. ولكن الأهم أن حاسة لمس الأشياء تضم إلى الشيء الحاوي من المحتوى، وتحول الشيء الحاوي إلى شيء مستقل. وكلمة «Emballage» التي تعني بجانب التعبئة واللف ممارسة هذا الفعل، هي سطح خارجي يتضمن ويخفي أي شيء، أو يخفي أي عيب في الشيء الموجود بالداخل. وفي «بيان التعبئة والتغليف»، يقول كانتور إنه “يوجد فعلا فيما وراء حدود الحقيقي.. ويمكن شرحه كذلك (وهنا يكرر ببساطة التعبئة والتغليف، مقترحا أنه لا يوجد شيء لمناقشته) في إطار الميتافيزيقا. ومن الناحية الأخرى، فإنها تؤدي وظيفة مبتذلة جدا ونفعية وأساسية جدا”. فتعبئة الشيء المرفوضة في العرض تكمن كذلك في نقطة التلاقي بين الأبدية والنفاية.
وقد تحتاج المسرحانية الكامنة في مفهوم التعبئة والتغليف هذا للتفريغ، فبالنسبة لهذا التصريح علاوة على الممارسة في مسرح كانتور، فهي معنى العرض باعتباره عملية طرد. فالعرض هو العنصر الذي يتم إسقاطه، وليس إنكاره منذ أن قرر أرسطو أن يدرجه ثم يتجاهله في كتاب «فن الشعر». يبدو أن هذا المسرح هو سطح كل شيء، كل ما هو موجود، إن كان هناك أي شيء، يكمن في الحدث الدرامي والشخصية، وهي فكرة طويلة المدى للتقليل من قيمة ممارسة المسرح. ومن هذه الرؤية، العرض – المرئي – السطح – هو بوجه خاص شيء مرفوض، مطرود من نواة الجوهر المضيء، والمضمون ذي المعنى، أو المادة الفعالة الخفية. والتقليل من قيمة العرض المسرحي إلى مجرد مظهر يتبع افتراضا بأن الحقيقة توجد في غير المرئي، المادة الغائبة التي تخفي الحضور المادي: مجال الأصل الفردوسي الذي ألقي منه الشيء. وقد استغرق فترة طويلة من الحداثة وما بعد الحداثة والظاهراتية، ومقدارا معينا من التفكيك لإظهار معرفة محدودة بأن المرئي واللا مرئي يتلاقيان، وأنه لا يوجد شيء خفي داخل أو فيما وراء المظاهر، وأن العرض والمادة التي يكون فيها اللا مرئي ببساطة، كما صاغه هيدجر، سطحا آخر، إلى الخلف. ويمكن مناقشة التعبئة والتغليف مثل جمع الأضعاف الأربعة، فيما وراء حدود الحقيقة، في إطار الميتافيزيقا، وليس في الإطار الميتافيزيقي، فهي بالأحرى مبتذلة وعادية.
نظرا لأن العرض المسرحي هو الشيء المادي العابر، فهو قابل للتنفيذ، ويجب أن نتذكر أنه مدرك بكل وعي النهاية الحتمية. ومع تغيير الحرف المتحرك “O” في كلمة «شيء Object» إلى حرف “a” في كلمة «مبتذل abject»: الشيء الذي لا يتم طرحه إلى الشيء الذي يتم إلقاؤه بعيدا، مرفوضا، فالشيء يحمل دائما في داخل «طرحه thrownness احتماله كنفاية، وهذا يعني، فناءه وموته. وتحمل الأسطح علامات الزمن والمرور بين المجيء والذهاب. وهذه العلامات هي علاوة على ذلك ليست متاحة فقط للنظر واللمس. فاستخدام كانتور للأشياء القديمة المستهلكة يزيد الأبعاد الحسية للأشياء وبذلك يعطيها معنى للتاريخ، ذلك التاريخ ليس أقل من مسألة الأسطح التي تلتف طياتها عبر الزمن. فالأشياء عنده تتتبع تاريخ الطرد. وسطوحها المادية تلف، ذلك التاريخ بالطريقة التي يكون فيها الحاوي والشيء المحتوى متطابقان. إن ذلك اللف هو المهم لأن المادة هي الظاهرة.  وبعرض الشيء على أنه زمن قابل للطي إلى أسطح، فمن الممكن أن نرى كيف يبدو أن جسم الشيء يأوي داخله الماضي والمستقبل. فالشيء يبدو كمكان إقامة للحضور والفقدان.
وفي رؤيته للتعبئة والتغليف، يقدم كانتور معنى الشيء على خشبة المسرح الذي يردد أصداء تمييز هيدجر بين الكائن object والشيء thing. لأن طقس التعبئة والتغليف – ابتكار التعبئة – يتعلق بالطي، والربط والعزل. وهذه المجموعة من الأفعال الدنيوية، الشائعة في أي عملية لف وحزم هي طريقة في شرح كيف يفهم الشيء باعتبارها فعلا، كما يحاول أن يفعل هيدجر (في مقابل الكائن). وهذا هو الشيء الواضح في تدوين كانتور عن المظلة، التي اكتشفها، بوضع واحدة على لوحة زيتية:
 المظلة هي عملية لف وتعبئة مجازية، فهي لف لكثير من شؤون الإنسان، فهي تأوي الشر، وعدم الفائدة وعدم الجدوى والاستسلام واللامبالاة والسخافة.. والممثلون في مسرحية «السيرك» تأليف ميكوليسكي استخدموا المظلات كدروع لحياتهم الفقيرة المشوشة علاوة على ما تبقى من قصاصات الأمل والشعر.
والشيء كمكان إقامة أو مأوى للشعر والعجز والأمل والسخافة، ليس دقة جمالية بل تحويل الحدث إلى مادة، مع نتائج وسياق تاريخي وسياسي واجتماعي علاوة على الشخصي والمؤثر. والمثال الدقيق لإيواء الشيء هو العمل الموجود في سان فرانسيسكو باسم “الرمي من النافذة Defenestration” للمخرج بريان جوجان. فهو عمل مسرحي رفيع المستوى. وقد عرض عند ناصية شارعي هوارد والشارع السادس. في منطقة كئيبة رغم نبلها المتزايد، إذ استولى جوجان هو ومائة من المتطوعين على مبنى سكني مهجور، وعلقوا في سقفه بعضا من الأثاث القديم وكأنما قد تم التخلص منه. أريكة وكراسي وطاولات إحداها عليها تليفون ومصابيح وساعة ضخمة وسرير، كل هذه الأشياء برزت من المبنى المكون من أربعة طوابق، تبدو وأنها على وشك السقوط. وباستدعاء الإحساس بالإجلاء التام للناس علاوة على الأشياء التي تنشئ الفراغ الحي، فإن العمل جريء ومثير للسخرية. إنه مكان يأوي قصاصات من الحياة حيث يعقد الأمل في الشعر ومادية هذه الأشياء من أجل طردهم. إنه موقع للتأثير والفقدان والعنف، ويوضح في نفس الوقت جرأة وسخرية النظام الاجتماعي الذي يرمي الفقير بينما يبني فراغات حية باهظة الثمن في نفس الشارع. فالأشياء خارج مكانها، ولم تعد فعليا في مكانها، ولم تعد تؤدى في سياق مفيد بصريا. فأشياء الأثاث، ولا سيما إقامة وإعداد الأماكن، يتم إخفاؤها بواسطة الأجسام الغائبة التي تركت انطباعاتها عن الأسطح. فالكراسي تتبع خط ميل الجسم عند الركبتين والفخذين، وتذكر الأسرة طول الجسم. وبتحويل المبنى إلى عمل يصبح الملاذ الشعري لفقد المأوى.
ومثل الأشياء على طاولة الأدوات، يجمع المبنى الأشياء التي تتأجل بين أصلها وصيرها، وبين وظيفتها وماديتها البحتة: بين ذلك الذي يميز الشيء الشعري الملقى بعيدا عن سياق فائدته. فهناك، في شارعي هوارد والشارع السادس، يكون الشيء الشعري سياسيا بشكل دقيق. فالكائنات هي أشياء في حالة انتقال (وهي تتغير دوريا)، ومع ذلك لا تزال باقية مع ألفة خارقة للطبيعة تعلنا نضحك حتى أثناء إدراك أن عجز الأشياء وإخفاءها غير قادر على أن يسقط أو يتقهقر إلى أمان الغرفة. وعلى أسطح المبنى، يقدم عرض “الرمي من النافذة” عجز أشياء الناس الغائبين بشكل أكيد عن المبنى، ومع ذلك يملأون الشوارع أسفله في صخب. فهذا المبنى هو هبة عامة ومكان لتجمع الماضي والمستقبل. إنه حياة جامدة تجعل حركة الشارع مؤكدة. فأشياؤه، وأثريته هي ذكرى للفقد المعاش أسفله. ويشهد حضور الأشياء للغياب الذي يضمها. وتوحي مسرحانية هذا الموقع بدقة كيف يعطي المسرح أو يقدم الأشياء من العالم إلى العالم، في العبارة المنسوبة إلى هيدجر، يقدم الحضور. وفي طرد الأشياء من أماكن اعتيادها، يعرضها المبنى، معلقة بين الأماكن، ويظهر بشكل مادي كل من التعلق والإزاحة لتلك الأشياء المحددة علاوة على الأشياء عموما. وتظهر الأشياء بطرحها فعليا داخل العالم، في معناها المبتذل: ولأن الأشياء ملقاة خارج المكان، فهي أشياء في ذاتها علاوة على أنها أشياء حاضرة من أجل العالم.

 


ترجمة أحمد عبد الفتاح