تقديم الأشياء في المسرح(1-2)

 تقديم الأشياء  في المسرح(1-2)

العدد 569 صدر بتاريخ 23يوليو2018

عادة يقدم المسرح التجريد في الواقع المادي. وإذا كانت النقاشات الفلسفية حول معاني ووظائف الحضور قد انسحبت من المسرح، فقد أعادتها إليه الممارسة، وجدتها ووضعتها في أطر، ليس فقط المعنى الكيفي للوجود المتسامي أو الكاريزما وزمانية الاختفاء، ولكن أيضا فرصة الإدراك ومفارقات تحيزه. وقد نوقشت كل هذه العناصر بعناية في دراسات لنقاد مثل فيليب أوسلاندر، ونويل كارول، ووجون إريكسون، وسوزان جيجر. وبدلا من تكرار جهودهم، أريد أن أتأمل أحد الطرق التي يقدم بها المسرح – ليس لبحث ما يقدمه إذا كان يقدم حضورا، ولكن كيف يقدم تعدد المعاني والتناقضات ومناسبات المناقشات الفلسفية التي تتعلق بها. فبينما تسعى المناقشات الفلسفية لوضع الحدود التعريفية لما هو أداء ومسرح وحركية وحضور من عدمه.. إلخ، فهدفي هنا مراقبة عمليات المسرح الزمانية التي تضع موضوعات الإدراك (سواء كانت أجسام بشرية أو آلات أو أشياء) داخل لعبة الإدراك بين الحضور والغياب، والمعنى والمادية.
ولكي نبدأ بشكل ملموس بقدر ما يمكن، دعونا نتأمل مسألة الأشياء. فمن منطلق لغوي بحت، فإن كلمة «شيء Object» ترمز إلى «أي شيء» ملقى (- jected) أمام (ob -)، وهي لا تقترح ببساطة شيئية thingliness الأشياء، ولكن وضعها في علاقة بالنسبة للموضوع، مثل العقبة أو موضوع الدراسة. وهي لذلك منطقية وتضع الحدود للموضوع. والأشياء المقدمة على خشبة المسرح لها مكانة فريدة. فهي تشارك من عدة أبعاد: في الدلالة، والسرد، والقصص الأسلوبية للدراما، في واقع مادي وجمالي وملموس للأشياء في ذاتها. ولكن لها أيضا وظيفة ثالثة، تتوسط بين الصور، بالطريقة التي يقدمون بها كأشياء مقدمة على خشبة المسرح، ويقدمون أنفسهم باعتبارات تمثيلات. فالتقديم على خشبة المسرح يخلق تمثيل التمثيل الذي يعزل حقيقة التمثيل. فأدوات خشبة المسرح لها دائما غرض مادي ونفعي داخل تلك المجموعة من الوظائف، ويمكن أن يحتاج تحليلا مفصلا لأي أداة لتحديد المجموعة الكاملة من الاحتمالات. وهنا أتمنى عموما استنبط من أدوات خشبة المسرح صورة وصيغة لفهم الشروط التي تظهر بها الأشياء في تعقيدها الظاهراتي. فأدوات خشبة المسرح، باعتبارها أشياء نموذجية، تؤسس دنيوية خشبة المسرح وبمعنى ما المملوكة لخشبة المسرح، أعني الأدوات بكل المعاني، فهي تعطي سمات مادية للمساحة الخالية وفي المقابل تملأ تلك المساحة، وتهيمن عليها، وتملكها.
عندما تجلس أدوات خشبة المسرح، بوجه خاص، في الكواليس أو في مخزن الأدوات قبل استخدامها في الأداء، متحررة من النص والأداء، فإنها تبدو معلقة بين الاستخدامات الفعلية والخيالية. وتتضمن تاريخا بدون نظام واضح، مثل العناصر المفقودة والموجودة، كمجموعة من العناصر المتفاوتة تتضرع للحصول على قصة وتطلب أن يتم بها الأداء، وأن تُكتشف وتُمتلك وتُستخدم. ولأنها في حالة تأجيل بين المنفعة الوسائلية والمجال الخيالي، فهناك متعة معينة في التعامل معها واكتشافها. ومثل اللعب المفقودة، تثير الخيال، باعتبارها أجزاء من عالم مفقود وعالم آخر لم ينشأ بعد. والأدوات تدخل المسرح من مكان آخر وتهب نفسها إلى لمسة المتعة المقترنة بالفانتازيا. فعندما تدخل الأشياء الفراغ المسرحي، تحدث أشياء غريبة، رغم ذلك. فهي تبدأ في التحرك وتفقد اللمسة. ويمكنها أن تمتد إلى المعاني كدوال لها ارتباطات تاريخية وسياقات، وتتصل بالجماليات باعتبارها شكلا، وسطحا وملمسا. ويمكن أن تتحول إلى رموز لأشياء أخرى، مثل المفهوم المجرد (فـ«البطة البرية» تعني الطبيعة أو الحرية)، أو أيقونة تاريخية (يحل التاج محل الملك)، ويمكنها أن تتحول إلى شيء أقرب إلى الصورة الخالصة، كما يحدث في أوبرا روبرت ويلسون، أو تُختزل أكثر، في اتجاه التضاؤل إلى مادة خالصة، كما يحدث في عروض تادووش كانتور. ولأنها تميل إلى الصورة أو المادة، فإن الشيء يكون له سكون خامل ورفض غامض أن يصبح له معنى.
ووظيفة الشيء الأداة ومظهره مرتبطان عموما بالأسلوب المسرحي. ولذلك فإن الواقعية، المنقولة إلى أقصى الحدود من جانب المخرج ديفيد بيلاسكو David Belasco، يمكنها أن تخرج الشيء عن استخداماته الحياتية ويجلبه إلى خشبة المسرح ليس لمجرد أن يشير إلى عالم بل لكي يقدم نسخة طبق الأصل منه. ولأن الواقعية تندمج في الرمزية، يصبح الشيء أكبر من ذاته، ويدل على معاني أكبر من وراء ماديته ويمزج ذاته مع مفاهيم التاريخ أو الثقافة المجردين. ولأن الحداثة وما بعد الحداثة تجردان الأشياء من معناها وهدفها في اتجاه الاحتمالات الأدائية للكينونة فضلا عن الفعل أو المعنى، فإن الشيء يتقلص إلى ماديته، حيث تدحض مادته الخرساء، يتجاوز أي معانٍ، أو رموز، أو وظائف يمكن أن يرتبط بها من الناحية الأخرى. وخلال مجموعة الحالات المحتملة، هناك معدل عامل، يخلق توترا بين الشيء ووظيفته التمثيلية. إذ يستطيع توتر الإدراك المتذبذب بين المادة الخاملة والاحتمالات الدلالية، في بعض الحالات، أن يخلق معنى للشيء الغريب، مثل غرابة التشغيل الآلي أو غرابة الدمية، التي تتحرك مثل البشر (مثل النماذج في عرض «قاعدة التاج ِAbacus» الذي يناقشه أوسلاندر) أو حركة الإنسان مثل الآلة أو الشيء. فالشيء، بمعنى آخر يمكن أن يقال إن له حياة، أو على الأقل تاريخ حياة، التي تكمن فيها حركته وجمودها.
وفي الكواليس على طاولة الأدوات، يأخذ الشيء مكانة أخرى. فالطاولة المغطاة عادة بالورق تحمل الأشياء التي تدخل وتخرج من وإلى خشبة المسرح أثناء الأداء بترتيب ظهورها على خشبة المسرح. وتُحدد كل أداة وتُسمى، وتتميز عندما يتم استخدامها: التاج في المشهد الرابع من الفصل الثالث، أو المظلة في الفصل الأول. ويمكن لمدير هذه الأدوات أن يفسر أي شيء مفقود قبل وبعد العرض، ويتتبعه، وستبدله إن كان ذلك ضروريا. ويعرف الممثل دائما أين يأخذ الأداة ويستبدلها. والممارسة الحياتية وذات كفاءة هي التي حافظ على تدفق الأشياء بسهولة من وإلى خشبة المسرح. ولكن طاولة الأدوات هي أيضا صورة لنوع آخر من التدفق يحمل الأشياء بين عدة مراحل من الاستخدام والمعنى. وهو نوع من الفراغ الجامد، منطقة احتجاز، بين عمل أو إيجاد الأدوات وتوصيلها إلى الفراغ العام لخشبة المسرح، حيث سوف تقوم بترسيخ الممثلين داخل الواقع المادي، ويستخدمون كرسل للمشاهد، إذ يجسد كلاهما ويمثلان عصرا أو تاريخا أو مكانا أو رمزا أو شخصية. والخط الخارجي الذي يميز غيابهم هو تذكرة بأن وظيفتهم على خشبة المسرح مؤقتة، إذ أثناء استبعادهم من الاستخدام، فهم بمعنى ما ليسوا في مكانهم الملائم. فطاولة الأدوات هي مكان حامل تكون فيه هويتهم ذات معنى بالإشارة إلى استخدامهم في المستقبل. ومع ذلك عند استقرارهم على الطاولة، يملأون الغياب الذي يميزه التحديد، ويتجنبون الخلط في الاستخدامات، والإشارات والمعاني، فهم ذواتهم تماما، في مكانهم، لكنهم خاملون. وفي كثير من الأحيان تستخدم مجموعة العناصر الغريبة المتباينة على مائدة أدوات خشبة المسرح باعتبارها أرشيفا صامتا للعرض، يميز تاريخها المادي ومستقبلها. وعلى الرغم من أن مصيرهم خشبة المسرح، والاستخدام، واستعادة التطابق بواسطة المشاهدين، فإنها عند نقطة السكون تتوافق مع خصوصيتها المادية إلى هي ليست جمالية ولا تمثيلية، وليست رسولا ولا رسالة. وقد صاغ تادووش كانتور تدوينا على عرض «مكتب البريد Post Office» يعبر عن مكانة الشيء على طاولة الأدوات:
إنه مكان خاص جدا حيث تتأجل فيه قوانين الاستفادة. فالأشياء – مثل الخطابات والطرود والحزم والحقائب والأظرف وكل محتوياتهم – توجد لفترة ما بشكل مستقل، بدون مرسل إليه، ودون مكان للوصول، وذو وظيفة، وكأنها هباء، بين المرسل والمستقبل، حيث كلاهما عاجزان، بلا معنى، مجردان من أي سلطة. إنها لحظة نادرة تلك التي يهرب فيها الشيء من مصيره.
وبمجرد أن توضع في فراغ خشبة المسرح، فمن المقدر للشيء أن يسافر، وبالسفر يكون عرضة لقوة وسلطة المستخدمين (المؤدين) وأيضا سلطة المرسل والمستقبل، بكل استغلالهم التنافسي أو التناقضي للمضمون في الشيء. ولكنه أثناء حياته على طاولة الأدوات، يغيب هذا الاستغلال. فالشيء كأداة على خشبة المسرح يترك وراءه فقط تحديد هويته الذاتية السابقة، عندما لا تكون له وظيفة. والتحديد لا يميز غياب الشيء فقط، بل يذكر وضع الشيء المتطابق ذاتيا المفقود الآن إلى ذاته. التحديد، بمعنى آخر، هو موقع الإخلاء الذي يستدعي جسم الشيء إلى مكانه.
ويمكن لخشبة المسرح أن تستخدم الأشياء في كل مراحل الغربة والرغبة والارتباط. فهي يمكن أن تغرب أو تسلب الأشياء من الفكر، كما فعل بريخت، ويمكنها أن تحول الأشياء إلى تمثيلات لها معنى لأشياء أخرى، مثلما يفعل المسرح الإليزابيثي، ويمكنها أن تربط الأشياء باستمتاع الحواس مثلما يحدث في مسرح روبرت ويلسون، ويمكنها أن تعزل الأشياء باعتبارها رموزا للتطرف مثل مسرح وليم فورسيز، ويمكنها أن تصدمها بالحقيقة، ويمكن أن تضعها في إطار كأشياء في ذاتها كما يحث في الأداء. وبتحديد طاولة الأدوات باعتبارها المكان الفريد للأشياء، أقترح أن هناك وجودا مؤقتا بين الفراغ، مثل «مكتب البريد» عند كانتور، حيث يكون كل من أصولها في حالة ارتباطها ومصيرها في حالة انعزالها في حالة تأجيل، وفي حالة راحة مؤقتا ولكنها معدة للإرسال. ومن الواضح أنها ليست مكانا قويا ولا مؤثرا ولا ثابتا. فهي في النهاية مائدة للأدوات. ولكنها مكان فعلي، وفي حقيقتها هي الظواهر التي تجمع تعقيداتها.
طاولة الأدوات ليست هي بوضوح مكانا خارج التاريخ أو خارج التمثيل، وهي ليست أسطورية ولا خفية بل هي عملية بشدة. وهي تحدد، مثل خشبة المسرح، شرطا مؤقتا للأشياء التي تحملها. ولكنها مكان لاحتمال التعليق «ما بين» فالطاولة موجودة فعلا، مثل فعلية مكتب البريد. وبينما يوجد الشيء فوقها فهو متاح للإدراك ليس باعتباره شيئا ولكن مثلما سماه مارتن هيدجر «شيء». وفي دراسته «الشيء» في كتاب «الشعر واللغة والفكر» يميز هيدجر الأشياء باعتبارها اهتمامات بالعادات التجريبية في العلوم، كما هي مهما كانت المسافة، أو يمكن تسميتها بأنها واقع موضوعي. فالأشياء على طاولة الأدوات يمكن أن تعرف بأنها أشياء جزئيا لأنها في ذاتها في استراحة مؤقتة. وعند تلك النقطة بين الامتداد إلى الإشارة والتاريخ والدلالة والانكماش إلى المادية، رغم ذلك، تستطيع أن تقيم شاعريا (وفقا لمصطلحات هيدجر). وصياغة هيدجر ليست صياغة بدون مشكلات، ولكني في هذه اللحظة أود أن أتأمل الطريقة التي يمكن بها فهم العمل الملموس والنفعي لمدير الأدوات باعتبار أنه يعمل على التمييز بين الأشياء من خلال ممارسات خشبة المسرح.
مدير الأدوات هو المسئول أن يوجد الأشياء المستخدمة على خشبة المسرح ويخلقها ويجمعها ويخزنها ويوزعها ويضعها. فهو يجهز مجموعة مظاهر الأداء: طي وعزل وربط الأشكال المادية التي سوف تنتج فراغ الأداء. وسوف تأوي تلك الأشياء الأداء وتؤسس مكان إقامته. ولا سيما أنها يجب أن تجعلهم جاهزين للممثلين في اللحظة الملائمة في الأداء. فهي الوظيفة التي تكون بشكل حتمي في خدمة رؤية المخرج ومقيدة بجماليات واقتصادات العرض علاوة على تداولية الممثلين الذين يجب أن يتعاملوا مع الأشياء. ومن خلال منح قصته هذه الشروط – الطي والربط والعزل، المأخوذة من عمل كانتور في «الحزم» – يظهر عمل مدير الأدوات فجأة في تحالف مع دراستي هيدجر «نشأة العمل الفني The Origin of Work of Art» و”الشيء The Thing”: الصنع والجمع والتقديم. والأدوات وفقا لهذه الشروط، هي منحة، خالية من التبادل الاقتصادي ومن التحول إلى سلعة. فهي منحة إلى خشبة المسرح مثلما هي منحة من خشبة المسرح للجمهور، مع وضع معانيها واستخداماتها في الخاصية الحسية للشكل والملمس. ولفراغها بسبب حدتها، فإنها أيضا أكثر من ذاتها: استخداماتها متاحة بشكل أكبر للإدراك. ذلك الفراغ الذي تكشف نفسها خلاله هو الذي يحولها إلى شيء.
وفي دراسته “الشيء” يوجه هيدجر القارئ تجاه تحديد «شيئية الشيء»: تجاه اكتشاف ما هو في ذاته بتمييز ماهية الشيء ككائن، الذي هو شيء نضعه أمامنا سواء ماديا أو ذهنيا. ويقدم باستمرار احتمالات لفصل المقومات التي تجعل الشيء شيئا فضلا عن أنه مجرد كائن، ثم يستمر اختزال تلك الاحتمالات بقوله إنها غير كافية. ومع ذلك لا يستطيع هيدجر أن يقول تماما ما يمكن أن تكون عليه شيئية الشيء وهو يتقدم في المقال. فهو يتحدى الفطرة واللغة المشتركة ويبدو أنه يحاول أن يقود القارئ إلى جوهر ما للأشياء المادية أو الذهنية التي يمكن أن تبدو للوهلة الأولى أنها هي ما كان يفعله أفلاطون عندما ميز الشيء المادي عن فكرة (أو التمثيل الذهني) الشيء، وتمييزهما عن شكل الشيء (نوعه eidos). فبالنسبة لأفلاطون، يبدو أنه يزعم أنه “يفهم حضور الشيء في إطار المظهر الخارجي”، وباعتباره “شيء في حالة صنع object of making” يحتاج أولا فكرة للشيء من أجل صانعه.
وبدلا من ذلك الذي يقف أمامنا، وفي مواجهتنا، أو ضدنا، فإن الشيء عند هيدجر هو ما يبرز stands forth. وقد قدمت الدراسة افتراضين لما ينبغي أن يكون عليه “ما يبرز”. الأول هو الإحساس بأن الشيء جاء من مكان ما، الذي يمكن أن نقول إن له تاريخا، وإنه نتيجة لعملية، سواء كانت صنعه لذاته أو جرى صنعه. والثاني هو، بشكل أكثر غموضا، هو أن ذلك الذي يبرز له معنى الدخول في وضوح ما هو حاضر بالفعل.
وإحدى مشكلات هذا الزعم هي أنه يبدو يطابق نوعا ما من الطبيعة الجوهرية للشيء، في حالة مثال «الإبريق» عند هيدجر. ولكن على أساس مادي بحت، يشير هيدجر إلى “الطبيعة الحاملة” للإبريق التي تصبح واضحة عندما نملؤه. فالشيء وجودي وليس مثاليا existential not ideal. فجوانب وقاع الإبريق ليسوا مع ذلك من يفعلون الحمل، رغم “ما لا ينفذ من الوعاء” ويسمحون له أن يقف. فهو بالأحرى مساحة فارغة، الفراغ الذي يحمل، إذ من خلال تشكيل الصلصال، فإن صانع الخزف هو الذي يصنعه هو أيضا الذي يشكل الفراغ. «إذ لا تكمن شيئية الوعاء في المادة التي يتكون منها، بل في الفراغ الذي يحمله. ويتحدى هذا التمييز صيغة فطرة الإبريق الذي تأتي من الموضوعية العلمية. إذ يقول، بعكس الشيء فإن الكائن object هو موضوع العلم، ويقترح أنه شيء تم ابتكره مبدئيا بواسطة العلم في سعي إلى فهم منطقي واتفاق عام. والمعرفة الموضوعية هي الصيغة الإجبارية للفهم وكذلك لخلق الأشياء التي يتم الاتفاق عليها باعتبار أنها تقف خارج إنتاج التخيل. بينما تسعى المعرفة الموضوعية، من ناحية، إلى فهم استقلال الأشياء في العالم، فهي تخلق، من الناحية الأخرى، معايير لذلك الفهم، ويمكنها أن تفهم الأشياء فقط على أساس مادي، وتحدد معايير الشيء بحدود جسمه المادي، فشيئية الأشياء، تسليما بالخبرة العلمية للواقع، لم تدع التفكير بعد.. ولن تكون قادرة على الظهور للفكر باعتبارها أشياء. بهذه المقولة تظل الصعوبة كما هي: يمكن أن تبدو الشيئية معادلة إما لجوهر ما أو عنصر غير قابل للاختزال يريد أن يصل إليه هيدجر، وهذا لا يختلف فعلا عما تهدف إليه الموضوعية العلمية. والارتباك في الكتابة، إذن، يضع العراقيل أمام مثل هذا الفهم.
يكمن مفتاح فكرة الهروب من المأزق في احتمال أن المسألة لا تتعلق فقط بشيئية الشيء – جوهر موضوعي ما – بل تتعلق بطريقة التفكير التي لا تسعى إلى جوهر موضوعي، وبالتالي لا تسعى الهيمنة على الشيء أو إخضاعه للتفكير، ولكنها تسمح له أن يدخل الفكر كما هو في حد ذاته. وبهذه الصيغة لا يكون الشيء نتاج العقل بل نتاج آخرية تُفهم باعتبار أنها تملك ذاتها، ولعدم وجود العبارة الملائمة، عملية الحياة Life Process. وفي حالة الإبريق، فإن عملية الحياة هذه متنوعة، وتتكون من الفراغ الذي تصنعه (أو تجمعه) لكي تملأه وتفرغه. وفضلا عن اختزال الإبريق إلى جوهر، يوسع هيدجر احتمالاته في إطار التخلي عن هدية السائل الذي تفرغه. وعند هذه النقطة في الدراسة، يصبح الإبريق مكانا لمفهوم صناعة الأسطورة في علاقته بالأصول والغايات: أصله على الأرض، من خلال الصلصال الذي يصنعه، والخمر التي جاءت من الأرض والشمس وهدفها وهديتها لبني الإنسان في التخلي عن الشراب، وإلى الآلهة في التكريس. فمن السهل أن تصبح قلقا من موقف صناعة الأساطير الذي يبدو أنه يعود إلى علم كون غير محدد ولا منتمٍ، أو ربما كون يوناني، أو على الأقل كون بدائي:
 في هبة ما يراق الذي هو الشراب، يظل البشر في طريقهم
 في هبة ما يراق الذي هو الإراقة، تظل الآلهة في طريقها
 هم الذين يستردون هبة العطاء باعتبارها هبة للتبرع
 في هبة ما يراق، يقيم البشر والآلهة بطرقهم المختلفة
وتقيم السماء والأرض في هبة ما يراق
 في هبة ما يراق تعيش الأرض والسماء والآلهة والبشر معا
 هؤلاء الأربعة معا لأنهم أنفسهم ينتمون إلى بعضهم البعض
 سابقون علي كل ما هو حاضر، ملتفون داخل أربعة أضعاف
عندئذ يلجأ هيدجر إلى اللغة التي هي غامضة بشكل مميز والمتكررة المعاني: كيف يصنع الشيء حضوره؟ فالشيء يتشيأ. والتشيؤ يجمع. يستولى على الأضعاف الأربعة، يجمع بقاء الأضعاف الأربعة، ودوامها، داخل شيء ما يستمر للحظة، داخل هذا الشيء وذاك.
تشير هذه اللغة في غموضها إلى مفهوم الشيء باعتباره ذلك الذي يقف خارج التوظيف العادي، مثل ذلك الذي يُفهم شاعريا فقط، والذي يعني بواسطة الشاعرية التي هي طريقة بشرية في صنع العالم الذي، من ناحية، الذي هو الفائض عن احتياجات البقاء على قيد الحياة، ومن الناحية الأخرى، هو وسيلة لخلق علاقات بين الأرض المادية والجماعة البشرية وأسرار الكينونة. فالشيء يأوي ارتباطات ماضيه في الوقت نفسه الذي يتنبأ بمستقبله في الغربة، والاغتراب والانهيار. فكل من الإبريق الموضوعي ومفهوم الإبريق يسكنان في تدفق الزمن، إذ ليس أي منهما جامدا أو ثابتا ولغويا، إذن يسكن كل من الشيء والمفهوم شاعريا في أشكال لفظية من الأسماء وصيغ الأفعال أو اسم الفاعل.
الأضعاف الأربعة للكينونة، الأرض والسماء والبشر والآلهة، تقدم نفسها من خلال شيئية الشيء، ولكن هناك ترجمات لهذه المصطلحات لها أشكال منطقية: إذا كانت الأرض هي حاملة المبنى، فيمكنها أن تسمى أرضية Ground أو مادية أو طبيعة، رغم أن مثل هذه المصطلحات محملة بالتاريخ أكثر من كلمة «الأرض». فما هي أفضل كلمة لمزج العناصر التي تحمل الحياة (تتغذى على ثمارها، ترعى الماء والصخور، والحيوان والنبات)، والتي لن تكون أيدا خارج التمثيل، ولكن أيضا لن تتطابق أبدا مع تمثيلاتها؟ هل هي الطبيعة؟ ربما لا. ولكن المسار هو مسار الشمس، ومدار القمر، ولمعان النجوم، وفصول السنة، يمكن أيضا أن تسمى زمن، باعتبار أنها تقاس بحركة الكواكب، والليل والنهار، والمناخ، بمعنى أن التغير يقاس بحسب المادة. وإذا كانت الآلهة تحيل إلى رسل الرب، فيمكنها أن تسمى أيضا علامات اللاإنساني، وغير البشري الذي يشير إلى حدود المعرفة البشرية. وكأن البشر هم القادرون على الموت باعتباره موتا، وهذا يحتاج القليل من الترجمة لكي نقول إننا الذين يستطيعون أن يموتوا لأننا نعرف أننا سوف نموت، وهذا يعني أننا نستطيع أن نمثل لأنفسنا غير القابل للتمثيل، فنحن نبلى مثل الأشياء.
وإذا كان الشيء بالنسبة لهيدجر يتكون من استدعاء كينونة الأضعاف الأربعة للحضور عندئذ يكون الشيء هو الذي يجمع المادة والزمن مع أي شيء فيما وراء القوة البشرية لكي يعرف في سياق الفناء، وتحديدا وحدة الكينونة المنعكسة من خلال وحدة الخبرة الإدراكية. فكل ما يحمله الشيء ويقدمه في علاقته هو المادة والتغير والفناء وركاكة الترجمة. ولذلك، فإن الشيئية ليست صفة مميزة للشيء بل شيء أشبه بالحدث أو اللحظة عندما يدرك الشيء المادي باعتبار أنه ينتمي إلى ما هو أكبر من تمثيله، ينتمي إلى أكثر مما يمكن إدراكه، لكنه أيضا ينتمي إلى الزمن والفناء. هذه هي أيضا هبات الشيء thing، في مقابل الموضوع Object، الذي يحجب. وكلمة «أكثر من» تعني أن الشيء لم يستنفذ بواسطة أي شيء يدل عليه. فكلمة «أكثر من» بشكل تناقضي تستقل عن التمثيل ويمكن في الوقت نفسه أن تكون تمثيلا. وهذا يعني أن الشيء ليس أبديا ولكنه يكون مؤقتا داخل زمانية الصيرورة والاختفاء. فالشيء طبقا لهيدحر ليس ما يسميه كانت “الشيء في ذاته the thing in itself”، الذي يمكن أن يكون موضوع تمثيل يدور في مساره في الوعي الذاتي للإنسان... موضوع لا وجو له بالنسبة لنا، لأنه من المفروض أن يبقى بدون سابق محتمل: بالنسبة للفعل التمثيلي البشري الذي يواجهه. فالشيء بالأحرى هو تجمع في الزمن ولحظة ظهور التنوع غير المحدود بالتمثيل ولن يدوم. والشيء كتجميع للزمن لا يشير إلى أي شيء وراء ذاته: وباعتباره تجمعا، لا يوجد مكان آخر. فالنحت مثلا ليس لوحة فنية هدفها تسهيل فهم كيف تبدو الآلهة، بل إنه بالأحرى عمل يجعل الآلهة حاضرة بنفسها، وبذلك تكون هي الآلهة نفسها. وينطبق الشيء نفسه على العمل اللغوي. ففي التراجيديا، لا يقدم شيئا على خشبة المسرح أو يعرض مسرحيا، ولكن معركة الآلهة الجدد ضد القدامى تحدث. ويضيء برت أو ستاتس هذه الفقرة بقوله «ما يعنيه هيدجر هنا ليس حضورا فعليا للآلهة، بل حضور يجعل من غير الضروري أن نشير إلى الآلهة في مكان آخر. وهي حقيقة الآلهة التي تصل إلى خشبة المسرح وليس التي تشير إلى آلهة حقيقية وراءها، وموجودة في شكل غير متاح. والشيء المزعج هو أن معنى “الشيئية”، مثل العمل الفني، الذي ربما لا يفهم عموما، وربما لا يكون مشتركا بين الناس، لن يكون عرضة بوضوح للمعرفة المشتركة، ولا يمكن الدفاع عنه. لأنه هبة، وقد يتم تلقيه جيدا أو لا. فمشروطية الشيء المادي في الفراغ أو الغياب تؤدي كذلك إلى أسئلة مزمنة ومفتوحة عما إذا كان الشيء هو حضور أو له حضور.
وإذا نقلت مفهومه للشيء إلى فن المسرح وإلى حكاية أولئك الذين يقدمون الأشياء في المسرح، يطارد نفعية المسرح وأشياءه بعدا للمقدس الذي ضاع منه منذ زمن طويل، مثل تحديد الشيء على طاولة الأدوات. لأن تقديم الأشياء يضعها حالة تفاعل، والتنقل بين تجميع الأشياء من العالم، وعرضها في عبور للحاضر الأدائي، ويسمح لهم بأن يندرجوا في الدلالة من أجل التأثير. والفعل المقدس في التخلي عن الشيء لسوء الفهم وفي المحافظة على الإيمان بتضحيته للجماعة.
وتاريخ المسرح هو تاريخ التجمعات، بغض النظر عن أي سياق ديني. وهذا لا يعني أن نقول إن تاريخه المرتبط بالعبادة اليونانية أو الأسرار المسيحية غير ملائم. إذ لم يتحول المسرح إلى العلمانية أو الوثنية وفقد سياقه الديني الذي كان موجودا في نشأته الأسطورية التاريخية فقط، إن سبب أو مصدر تجمع الجماعة نفسه له بعد مقدس في الخسائر التي يتحملها الأحياء نتيجة للحياة. وفي النفعية المطلقة لتجميع المجتمع، بمعنى آخر، يظهر المقدس كخسارة وليس في شيء مفقود من أو خلال الزمن، الذي يتطلب احتراما أو توقيرا معينا. فالتجمع هو حدث في الزمن الذي تملك حركته مجيء ومدى ورحيل. فنحن نقابل الشيء في حالة انتقال متبادل، تجمع الحاضر ورحيله. ويمنح المسرح لهده الصيغة الشاعرية للمقدس من خلال برجماتيتها المطلقة، وليس من خلال ما تمثله، ولكن بتجميع الزمن والمكان.
تميز الاختيارات النفعية الفرق الانتقالي بين البعد الذهني والمفاهيمي والنظري للأفكار حول المسرح، والمسرح نفسه. وتلك الحقيقة الواضحة، التي غالبا ما تُركت بشكل عام من حيث المسرح العملي، نادرا ما يتم تحديدها كمحور للتحول المسرحي على الرغم من حقيقة أن مثل هذه الاعتبارات العملية حاسمة. ومن الصعب تنظير أهمية اختيار الأشياء ربما لأنها حاسمة جدا وخاصة جدا، لدرجة أنها تضيع في مكانها في العملية الانتقالية إلى شيئية المسرح. بمعنى أن الأشياء تبدو جامدة، وموحدة، وتامة في ذاتها فضلا عن الإسقاط الذهني عليها. وبالمقارنة، فإن ما يسمى التفكير في الأشياء المسرحية يتضمن بعدا زمنيا وفعلا يتعلق بالفورية والمدى والتكرار والاختفاء.
مثل هذا التفكير بالطبع هو مسألة منظور، ولكن بضم مدير الأدوات في قصة المسرح النظرية الأوسع أريد أن أضم خشونة الأفعال النفعية باعتبارها ملمحا حاسما في قدرتها على إضفاء مادية على الخارق للطبيعة، وأن ترى المسرح نفسه كعمل فني بمعنى الكشف عند هيدجر. فهذا الكشف الذي هو استجابة تنتمي للأشياء، وليس التصنيف الأنطولوجي للجوهر، بل إن الكشف الذي يتكون من حدث إدراكي يوجد فيه شيء ما مادي يتم إدراكه بشكل مفاجئ باعتباره جديدا وموجودا دائما. والتسليم بمادية الخارق للطبيعة لا يعني ببساطة إضفاء روح على شيء ما أو جسم ما شبحي، وهذا يعني استغلال الطبيعة المؤقتة للمسرح باعتباره فنا زمانيا وماديا، وباعتباره حدثا وعملية تستدعي لحظة لقاء، باعتباره الفعل الذي لا يمكن الاحتفاظ به، بل إعطاؤه فقط، ويأتي المنح بشروط دنيوية، في مدى الزمن والاهتمام القادم من الممثلين والمخرجين والمشاهدين. فإذا أصبح مدلولا مثل الشيء، فإن ذلك يحدث في وقت لاحق. تهدم هبة الزمن في التجمع الحدود المحسوسة (المعاش عموما) بين الماضي والحاضر والمستقبل، وبتأثير من الخارق للطبيعة الذي كان موجودا. في الحقيقة، يحدث المنح فقط في مناسبة إدراكه، وبإدراكه فقط يأتي إلى الوجود، فلا أحد يستطيع أن يضمن أن يحدث الإدراك، وربما لا يتفق اثنان من المشاهدين أنه يحدث أو أنه قد حدث. وهذه هي إيهامية الحضور. إنه لقاء رائع وتجربة نادرة، ولكن ما يحدث أن يمتلك المشاهد إحساسا بأنه مستعد له ومقابلته والتعرف عليه. وهبة الشيء الفني هي حدث يتم تأمله كنوع من استعادة مركزية الشيء المفقود، أو على الأقل، نكأ للجرح، وهو مختصر لأن الهبة تظهر في لحظة العطاء، وتستتبع أيضا تذكرا للفقد الأول والحزن عليه.

 


ترجمة أحمد عبد الفتاح