المسيح يصلب في فلسطين.. اللي بيحصل النهاردة لازم ينتهي

المسيح يصلب في فلسطين.. اللي بيحصل النهاردة لازم ينتهي

العدد 568 صدر بتاريخ 16يوليو2018

ما أسهل أن تفكك عرضا مسرحيا وتحلل عناصره عنصرا عنصرا، وتحدد المناطق التي أجاد، والتي أخفق فيها، الفنان طبقا لمعايير محددة تضعها المدارس المسرحية المختلفة أو لذائقتك ووجهة نظرك، وكذلك المعايير والضوابط التي يحددها المجتمع من حيث الأعراف والقيم التي تخضع للاتفاق والاختلاف أيضا، فلا توجد أحكام ولا قيم مطلقة، لذا نجد عرضا مسرحيا صعد به ناقد إلى عنان السماء بينما أنزله آخر إلى أدنى درجة، ولكل منهما منطقه وحُجته. لكن المخرج إميل شوقي وضعنا في مأزق لا نحسد عليه، فكان كلاعب الماريونيت المحترف الذي يمسك بجميع الخيوط ويحركها في وقت واحد في اتجاهات مختلفة، هذه الخيوط تنقسم إلى جزأين داخل تفاصيل اللعبة التي تدار على خشبة المسرح وخارجها.
خارج الخشبة أن تقوم مطرانية سمالوط في المنيا بتبني عرض مسرحي وإنتاجه ويعرض داخل جدرانها برعاية المشرف العام الأب يوليوس شحاتة بحضور كل آباء كنائس المنطقة وعلى رأسهم الأنبا «بفنوتيوس» مطران سمالوط، بينما هذا العرض يخرج عن إطار المسرح الكنسي المعروف بجديته وتناوله القضايا الدينية فحسب، فيتناول القضية الفلسطينية منذ بدايتها إلى نقل سفارة إسرائيل إلى القدس وما تلاها من أحداث، في إطار كوميدي بسيط، العقدة لم تكمن هنا بل يتناول العرض محاكمة من تسببوا في الحكم على السيد المسيح بالصلب وهي جريمة الصهيونية التي لم تنتهِ إلى اليوم، ويعرض المتهمون حُجتهم في استحقاق السيد المسيح لهذا المصير «وهو بالطبع منافٍ لحقيقة الموقف وادعاءات وافتراءات على السيد المسيح» وتقبل الكنيسة ذلك بأفق رحب وعقلية مستنيرة خالية من العصبية.
أما الخيوط الداخلية فتبدأ حين اختار نص «المسيح يصلب في فلسطين» للكاتب الكبير نسيم مجلي الذي كُتب عام 1968، ويناقش الوثيقة التي أصدرها الفاتيكان بتبرئه اليهود من دم المسيح، واستطاع أن يبسطه ويطوعه ليتماس مع أحداث اليوم.
ثم اختيار مجموعة من الممثلين يقفون على خشبة المسرح لأول مرة وإعدادهم لتفاجأ وأنت تشاهدهم أنها المرة الأولى لهم بينما يؤدون باحترافية عالية جدا، باستثناء من سبق له تجربة أو اثنان، وكذلك الأساتذة جميل عزيز، أشرف شكري، ناجح نعيم، مجدي فوزي، ثم الاعتماد في الإنتاج على اللاتكلفة فالديكور المستخدم مكتبان وكرسيان وبُفان فقط لا غير وهذه العناصر متوفرة في كل المسارح، أي يمكن انتقاله بين الكنائس والمسارح، وكذلك السفر للخارج بكل سهولة وبساطة، كما أن الملابس تعتمد على الرمزية لتدل أن هذا ملك وهذا كاهن وهذا وكيل نيابة.. إلخ، أما الإضاءة فاعتمدت على «Full ligh»، وبذلك يمكن تقديم العرض في قاعات أيضا «هو السهل الممتنع الذي اعتمد عليه في كل التفاصيل».
العقدة الكبرى كيف يتناول قضية بهذا الحجم في إطار كوميدي لا يخدش وقارها أو يقلل من أهميتها، فكان كسر الإيهام الذي عُرف بكسر الحائط البريختي هو المنقذ من هذا المأزق، فجعل مجموعة من شباب الكنيسة يتناقشون في موضوع هذه الوثيقة، وتوصلوا إلى تكوين فرقة مسرحية وإقامة محاكمة تمثيلية يتوصلون من خلالها للمتهم الحقيقي وراء الحكم على السيد المسيح بالصلب، بهذه الحيلة جعل الفنانين يخرجون ويدخلون من وإلى الشخصيات التي يجسدونها، فتكون مساحة الكوميديا من الممثل وليس من الشخصية التي يؤديها، فأوصل الرسالة ببساطة من دون ملل ولا تقعر مع الحفاظ على وقار القضية وجديتها.
تبدأ الفرقة المسرحية في مناقشة الوثيقة من منظور سياسي وكيفية ضغط اللوبي الصهيوني مع الإمبريالية العالمية الضغط على الفاتيكان لاستصدارها، ثم تبدأ محاكمة المسئولين عن الحكم على السيد المسيح بالصلب. وهم قيافا رئيس مجلس الشيوخ والكهنة ويجسدها «مجدي عزيز» وبيلاطس البنطي الحاكم الروماني ويجسدها «شادي أسعد» وجسد شخصية القاضي «أيمن أمير» ووكيل النيابة «أشرف شكري» وفيها ينجح بيلاطس في في إثبات براءته للمحكمة حيث هو مجرد أداة ولم يكن بيديه أي شيء حيث قال: إن السيد المسيح يتبع منطقة الجليل وهي تقع في مسئولية مجلس الشيوخ والكهنة، فما كان عليه سوى القبض عليه وتسليمه لهم وهم من قاموا بالحكم عليه، بينما قال قيافا إنه نفذ مطلب الشعب الذي اختار خروج «براباس» من السجن في يوم العيد كما اعتاد الوالي أن يفعل رغم أنه مجرم ارتكب الكثير من جرائم النهب والسرقة، وسرعان ما أثبت بيلاطس أنها لم تكن إرادة الشعب كما ادعى قيافا لكنهم مجموعة اللصوص والخارجين عن القانون، وقد أحضرهم قيافا لتمثيل هذا الدور للتخلص من السيد المسيح، مما جعل قيافا يعترف صراحة بأنه فعل كل ذلك للتخلص من السيد المسيح نتيجة طبيعية لأفعاله وأخذ يعدد التهم فقال: أنه ثورجي ويحرض على الفوارق الطبقية ويعد الفقراء والمرضى بملكوت ونعيم، كما أنه يستغل يوم السبت الذي لا عمل فيه ويعلمهم ويداويهم.
ويتم استدعاء القيصر الذي يجسد شخصيته «مجدي فوزي» للشهادة الذي أكد أن الأمر كان يخص مجلس الشيوخ والكهنة، وكذلك يهوذا «ناجح نعيم» الذي قص واقعة إجباره على تسليمه لهم وإلا سيتم إعدامه هو، وطالب بيلاطس باستدعاء زوجته كلوديا كلاديوس «مها صادق» لتشهد بأنه كان متعاطفا مع السيد المسيح خصوصا أنها كانت تؤمن به وتصدقه وتتحدث معه كثيرا في هذا الشأن.
ثم يتأكد للمحكمة أن الذي دفع بالسيد المسيح لهذا المصير هو قيافا، الذي قال يوم تنفيذ الحكم: (دمه في أيدينا وأيدي أولادنا)، ورغم ذلك ينكر كل ما قاله في مراوغة صهيونية أداها جميل عزيز باقتدار ثم يدعي أنه مريض زهايمر، وفي النهاية لا يجد مفرا من الاعتراف، مبررا أنه فعل ذلك من أجل المسيحيين قائلا: ألم تقولوا مات المسيح لنحيا.
خلال هذه الأحداث بينما رفعت الجلسة ونحن كمتلقين نعلم تماما أنها مسرحية وبمجرد رفع الجلسة سيعود كل ممثل إلى شخصيته الأولى، تدخل صحفية إسرائيلية ويدور حوار بينها والقاضي فنتساءل عن موقع هذا الحوار أهي تحاور القاضي أم الممثل أيمن أمير في كسر آخر للحائط البريختي، وكأنه أراد أن يقول المحاكمة التمثيلية لأشخاص تم استدعاؤهم من الماضي أما الحاضر فلا يخضع لهذه المحاكمة.
عرضت الصحفية التي جسدت شخصيتها «سارة سعد» وجهة نظرها التي تعبر بالطبع عن وجهة نظر إسرائيل وجمعية الصداقة الإسرائيلية التي تمثلها من خلال عدة تساؤلات هي: ما ذنب الأجيال الجديدة من اليهود في تحمل وزر لم يرتكبوه؟ ولماذا لم يتعاطف العالم معهم حين أحرقتهم أفران الغاز على يد النازية؟ ألم تقولوا الله محبة؟ ألم يقل لكم السيد المسيح أحبوا أعداءكم؟ ألم يطالبكم بالصفح والغفران لمن أخطأ؟
قبل أن يبدأ المتلقي في التعاطف معها يتعالى صوت القاضي مؤكدا أنهم من توارثوا اللعنة بمقولة قيافا: (دمه في أيدينا وأيدي أولادنا)، وأن هذه اللعنة مستمرة معهم بفعل جرائمهم التي ترتكب حتى اليوم، ويتعالى صوتهما معا ويتداخل بـ“تون” قد يصل إلى حد الصراخ خاصة حين تقول له العرب مشغولون بالتفتيش في الماضي ولا يرون إلا الجرائم بينما نحن مشغولون بما هو أهم وأكبر حلمنا الذي لن نتنازل عنه «من النيل إلى الفرات».
شاشة السينما لعبت دورا جوهريا لاكتمال عناصر الفرجة المسرحية لا تقل أهمية عن دور الممثلين، ففي بعض المشاهد كانت مشاركا أساسيا في الحدث، في البداية عرض لفيلم تسجيلي عن دولة فلسطين التي لم نرها أو نسمع عنها، دولة فلسطين بمنشآتها وشوارعها وحكوماتها، وكذلك عملاتها الورقية والمعدنية، وتطور الأحداث وتدهورها إلى أن وصلنا إلى ما آلت إليه اليوم، كذلك عرض مشاهد من عدد من الأفلام التي تناولت قصة السيد المسيح، أعد هذه الأفلام الفنان وجدي راشد مع صوت الفنان العربي لطفي بوشناق، وبالموسيقى والمؤثرات الصوتية التي أعدها أيضا وجدي راشد، اكتملت الحالة التي لم نخرج منها حتى الآن فجعل من مشهد النهاية (قتل الشباب المسيحيين بليبيا على يد داعش) ناقوسا ما زال يدوي مع صوت كل أبطال العمل (اللي بيحصل النهاردة لازم ينتهي) لنجد أنفسنا بلا وعي نردد معهم (اللي بيحصل النهاردة لازم ينتهي).


نور الهدى عبد المنعم