إقليم جنوب الصعيد الثقافي..  تعددت الأشكال والهم واحد

إقليم جنوب الصعيد الثقافي..  تعددت الأشكال والهم واحد

العدد 567 صدر بتاريخ 9يوليو2018

عادة ما يُقال عن المشاريع المتقدمة للإنتاج كعروض نهائية في مهرجانات نوادي المسرح - سواء في دوراتها الإقليمية أو حتى الختامية - إنها واحدة من أكثر التجارب المسرحية التي يغلب عليها الطابع الحر والتجريبي والخالي من أي حسابات سواء في التناول أو التقديم، بالمقارنة مع مهرجانات الدول الأخرى الإقليمية أو المحلية أو حتى الدولية، وذلك لأنه - كما يُشاع - بأن المتقدم بالمشروع إلى المهرجان دائما ما يكون غير مقيد بطبيعة نصوص محددة أو تيارات مسرحية بعينها، وذلك لأن طبيعة لائحة المهرجان نفسها غير مُلزمة للمبدع بأي شروط تقنية تتعلق سواء بطبيعة نص العرض أو حتى بطريقة تقديمه على خشبة المسرح.
فهل كل ما يُشاع ويورث قولا هو حقيقة مدمغة ومُسلم بها؟ وهل مهرجانات نوادي المسرح في نسخها الأخيرة هي – فعلا - ملاذ متسابقي المهرجانات الأوحد، الذي من خلاله يكونون قادرين على تقديم أفكارهم الحداثية الخلاقة النابعة من قضاياهم الفكرية الخاصة؟ أم أننا على أرض الواقع سنجد أنفسنا أمام تجارب مسرحية تقليدية تُحاول أن تتقرب من آيديولوجيات لجان التحكيم، في سعي منها للحصول على موافقة للإنتاج في مرحلة المشاريع، وبالتباعية جائزة - ومكافأة مادية - في المرحلة الختامية؟
كل هذه التساؤلات قد بدت منطقية ومُلحة أمامي في آنٍ واحد، وذلك تحديدا عندما تلقيت مكالمة هاتفية لترشحي لأول مرة عضوا في «لجنة اختيار المشاريع المسرحية المتقدمة للإنتاج في إقليم جنوب الصعيد الثقافي»، فالتعاون مع مؤسسة عريقة ولها طبيعتها الخاصة مثل «الهيئة العامة لقصور الثقافة» هو أمر – بالطبع - مُبهج لأي مسرحي مصري، إلا أنه في الوقت نفسه هو «مقلق»، وذلك يرجع لتاريخ تلك المؤسسة العريق الذي يتخطى تاريخ مهرجانها المسرحي بعض المهرجانات الإقليمية العربية بعشرات السنوات، وذلك بالإضافة إلى كثرة ما يُشاع بين أوساط المسرحيين المصريين بأنه من لم يتنقل بين نجوع ومراكز محافظات مصر ليشاهد العروض الإقليمية، مكتفيا بعروض المحافظات الكبرى، فهو لم يُشاهد المسرح المصري الحقيقي بعد، وهذا ما يجعلني أعترف بأنه على الرغم من عملي في السنوات السابقة مع معظم المؤسسات المسرحية المصرية (سواء الحكومية أو المستقلة)، فإن عملي مع الثقافة الجماهيرية لم يكن واسعا بالقدر الكافي والكبير، وإنما كان مقتصرا فقط على المشاركة في مجموعة من الندوات الفكرية والمقالات النقدية التي تُقدم ضمن فعاليات مهرجانات نوادي المسرح السابقة، وهذا كان سببا كافيا لكي أكون متحمسا لخوض تجربة «التنقل بين محافظات ومراكز أقاليم جنوب الصعيد» لمشاهدة الكم الأكبر من المشاريع المسرحية، وذلك ليبقى أمامي التساؤل الأهم الذي قد حاولت جاهدا أن أجد إجابة عليه، وهو: هل دور لجان مشاهدة المشاريع المتقدمة للإنتاج لمهرجانات نوادي المسرح، ينحصر فقط في فكرة إصدار التقييم بإجازة الإنتاج أو عدمه؟! أم أنه يتخطى ذلك الدور السلطوي ليصبح بمثابة ورشة نقاش وعمل مصغرة بين المبدع ولجنة المشاهدة؟ وهذا ما سوف أحاول الإجابة عليه في السطور القادمة.
«محافظة البحر الأحمر» ومحاولات التقرب إلى الشكل المسرحي الأكثر رواجا
لنبدأ أولى محطات رحلتنا المسرحية في إقليم جنوب الصعيد وتحديدا مع محافظة ذات طبيعة «ساحلية/ سياحية/ ثقافية» خاصة وهي محافظة البحر الأحمر ومدينتها الأشهر «الغردقة»، فعلى الرغم من تبعية محافظة البحر الأحمر إلى إقليم جنوب الصعيد - جغرافيا/ إداريا - فإنه مع مشاهدة المشروع الأوحد المقدم عن قصر ثقافة الغردقة، سنكتشف أن التركيبة الثقافية والتقنية لمجتمع نص العرض تحاول جاهدة أن تتقرب من الشكل المسرحي الأكثر رواجا في الوقت الحالي وهو المسرح التجاري والمستقل، الذي دائما ما يتم تصديره عن طريق «القنوات التلفزيونية» و«المسارح الخاصة» هاملة قضاياها وأفكارها المرتبطة بالطبيعة الجغرافية لمدينة الغردقة، فمن خلال مجموعة من الفرضيات المكونة للإسكتشات المنفصلة من حيث القضايا المتناولة، والمتصلة من حيث الفكرة العامة للعرض، التي دائما ما تخلو من بعض «الإفيهات الكوميدية» و«العبارات الرنانة»، سنجد أنفسنا أمام تجربة مسرحية «مُعلبة» شأنها شأن بقية العروض التي تعتمد على أسلوب كتابة معين وهو «ورش الارتجال»، وذلك دون أن نجد هوية خاصة للعرض لتعبر عن ثقافة المحافظة وطبيعة أهلها أو لتجعله مميزا بين بقية العروض.
«قنا والأقصر».. بين التنوع والرغبة في أرضاء (لجان التحكيم)!
ما هي أسباب «اختيارك/ تأليفك/ إعدادك» لذلك النص؟ وماذا تتوقع أن يكون رد فعل الجمهور لذلك المشروع إذا تم عرضه عليهم؟.. هذه هي المفاتيح السحرية التي اتفقنا عليها – ضمنيا - نحن أعضاء لجنة المشاهدة، والتي حاولنا من خلالها أن نعبر بوابات عقول المتقدمين بالمشاريع في محافظتي «قنا والأقصر»، فمنهم من جاوب إجابات منطقية مستندة على أساس قوي من دراما مشروعه المسرحي، محترما من خلالها عقلية المتلقي ومهتما بها، ومنهم من حاول أن يُجاوب إجابات «قد تبدو عميقة على المستوى الظاهري» لكنها غير منقطية أو موجودة داخل دراما المشروع نفسه، وذلك رغبة منه بأن ينال استحسان لجان المشاهدة وكأنه يُقدم عرضه المسرحي لهم خصيصا دون غيرهم، من دون أن يكونوا واضعين المتلقي غير المتخصص أو الراغب في عمل مسرحي جيد في عين الاعتبار.
فعلى الرغم من ذلك فإننا لا نستطيع أن نُنكر أن التنوع في مواضيع وأشكال المشاريع المتقدمة هو تنوع جيد ولافت للنظر في آنٍ واحد، لنجد في ذلك التنوع بعض المشاريع التي قد حاولت أن تطرق أبواب بعض القضايا الشائكة داخل الصعيد المصري ولكن بشكل مغاير وغير مُثير لحفيظة المتلقي في آنٍ واحد، ولنجد بعض الآخر الذي حاول – أيضا - أن يطرح بعض القضايا الوجودية التي لم يعتد عليها متلقي المسرح المصري، ولكن بأشكال غير معقدة ومقربة إلى مستويات متعددة من المتلقي.
محافظة أسوان وأزمة الشعور بعدم الاهتمام
أحد أصعب المشاعر السلبية التي قد يشعر بها المبدع في مسيرته الفنية، هو «الشعور بعدم الاهتمام»، ذلك الشعور الذي قد تلمسناه - نحن أعضاء لجنة المشاهدة - بشكل واضح داخل معظم مبدعي المسرح بـ«محافظة أسوان»، تلك المشاعر التي ظهرت في معظم المشاريع المتقدمة للمشاهدة بشكل واضح وجلي، والتي تبرز لنا قضية مهمة جدا لكنها للأسف ما زالت مُلحة على الوسط الفني رغم قدمها قدم الدهر، وهي قضية نظرة «الهامش للمركز» والعكس، فمعظم محافظات «وسط وجنوب الصعيد» ينظرون إلى محافظة «القاهرة» بأنها مصدر الانتشار الثقافي الأوحد دون غيره، واضعينه في مكانة «المركز» المستأثر بكل المحافل والأكاديميات والأحداث الهامة، وذلك على الرغم من انتشار وسائل المواصلات والاتصال التي جعلت من كل بعيد قريبا، لنجد ذلك يظهر في المشاريع المتقدمة، فمنهم من لجأ إلى تقديم مشاريع تعتمد في إعدادها على تلك الفكرة بشكل واضح ومباشر، ومنهم من حاول أن يُعبر عن الفكرة نفسها بشكل آخر وهو اللجوء إلى تاريخ وتراث مصر الفروعونية، محاولا أن يُثبت إلى «لجنة التحكيم» أنه لديه ما يستند عليه من تراث فكري هو أيضا.
وهذا ما حاولت «لجنة المشاهدة» التي تشرفت بالعمل معها، تفكيكه والتعامل معه، فقد حاولنا في جميع محطات رحلتنا أن نُثبت للمتقدمين بالمشاريع أن دور لجان المشاهدة في نوادي المسرح هو دور لا يقتصر فقط على أن يكون «لجنة تحكيم وإجازة «وإنما يمتد ليصبح أمرا أشبه بالمعمل المسرحي، المعمل الذي يسعى إلى أن يطور المشروع ويترقى به إلى أن يصبح عملا مسرحيا ذا قوام متماسك.
لنجد أنفسنا مستفيدين في نهاية الرحلة مثلما استفاد المتقدم هو أيضا، متفقين جميعا على ضرورة محو فكرة «العاصمة» مركز الإشعاع الثقافي الأوحد، طامحين إلى أن تصبح جميع بقاع مصر مراكز ثقافية فعالة، وذلك من خلال إعلاء فكرة الورش والدورات التدريبية المستمرة بين محافظات الدولة.
رامز عماد
 


رامز عماد