قراءة نقدية في مسرحيتين لإبراهيم الحــُسيني  

 قراءة نقدية في مسرحيتين لإبراهيم الحــُسيني  

العدد 563 صدر بتاريخ 11يونيو2018

أولاً : مسرحية الغواية :
 منذ أول مسرحية مطبوعة للمؤلف المسرحي الشاب / إبراهيم الحـُسيني، وهي مسرحية “ الغواية، والتي فازت بجائزة محمد تيمور الأدبية لعام 1998، وطبعتها الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2002، ومؤلفنا يختط لنفسه منهجاً محدداً وواضحاً لا يحيد عنه، الا وهو : “ مسرح الصورة التعبيرية “ ...
وفيما بين “ الغواية “، ومسرحيته الأخيرة المطبوعة “ جنة الحشاشين “، والتي صدرت عن دار “ ميريت “ للنشر عام 2008، نجد أنفسنا أمام كاتب مسرحي موهوب، يـُكـرّس موهبته تلك في الكتابة المسرحية لهذا النوع من المسرح / مسرح الصورة التعبيرية، لدرجة أنه في هذا النوع من الكتابة، نجده يكتب إرشاداته المسرحية بدقة متناهية، كذلك انتقالاته التعبيرية / الصورية بين مونولوج درامي وآخر في نفس المشهد الواحد، ... إنه نوع من الكتابة المسرحية راجع بالضرورة إلى موهبة الكاتب أولاً، ثم إلى دراسته المتعمقة للدراما في المعهد العالي للفنون المسرحية ثانياً، ثم ممارسته للنقد المسرحي في الكثير من نوافذنا الإعلامية المهتمة بالمسرح ثالثاً، ومحاولاته الجادة في كتابة السيناريو أخيراً ...
إن إبراهيم الحـُسيني كمؤلف مسرحي ــ ظهرت له بعض العروض المسرحية من تأليفه سواء على خشبات مسارح الدولة أو على بعض مسارح الثقافة الجماهيرية ــ لا يترك مساحة فنية واحدة للمخرج الذي سيتصدى لإخراج عمل من تأليفه، وسيجد هذا المخرج صعوبة بالغة في إخراج هذا العمل وهذه الرؤية المكتوبة على الورق إلى النور، ومن الممكن أن تخرج هذه التجربة أو تلك إلى النور كما تصـوّرها مؤلفها إبراهيم الحـُسيني، وسيتحـوّل هذا المخرج إلى مخرج منفذ للورق الذي يعمل عليه، ولن ينجو هذا المخرج من هذا المأزق الفني إلاّ في حالة واحدة ووحيدة، وهي إذا كان متمتعاً بخيال فني مفتوح كخيال مؤلفه، وسيظهر هذا العمل أو ذلك في أبهى صوره الفنية، لتداخل الخيالين الفنيين : تأليفاً وإخراجاً مع بعضهما البعض ...
ففي مسرحية “ الغواية “ للحسينى نلحظ أن مؤلفنا غير مهتم بالبناء الدرامي الشكلي المتعارف عليه، من تقسيم عمله إلى فصول ثلاثة أو مشاهد مرقمة لفصوله الأربعة كما هومعتاد، إنه يؤسس مسارا خاصا به، فالفصل الأول معنـوّن بـ “ فصل الفـُرجة “، والفصل الثاني مـُعنـوّن بـ “ فصل النفي “، والثالث معنـوّن بـ “ فصل الثورة “، أما الرابع والأخير فمـعنـوّن بـ “ فصل الغواية “، إنه يعطى لكل فصل عنوانا معبرا عن أحداثة،وكأنه بهذا يوزع دلالات مسرحيته على هذة الفصول عبر حواراتها الغنية وإرشاداتها المؤسسة لعنصر الصورة التعبيرية، نجدة مثلا فى أول فصول مسرحيته، والمـُسمى بـ “ فصل الفـُرجة “ يصف في إرشاداته ما ستكون عليه خشبة المسرح، بدراية ودُربة عالية الجودة الفنية، إنطلاقاً من إلمامه الكامل بالعملية المسرحية ذاتها، وتحديداً على أنه ومنذ بداياته وهو يحلم بأن مسرحه سيكون هكذا، مسرحاً للصورة التعبيرية، كما لاحظ وأكـّد على ذلك د. محسن مصيلحي في مقدمته النقدية لهذه المسرحية ...
تأمل إذا وصف المؤلف لبداية مسرحيته، وجزء من الحوار الاستهلالي ـ لترى معي، أنك بإزاء مؤلف مسرحي يكتب المسرح بروحه لا بقلمه :
( موسيقى بطيئة ... أقرب إلى الإيقاع الجنائزي ... في العمق جـُمجمة بشرية كبيرة تشبه في أطرافها إناءً فرعونيا قديماً ... الجـُمجمة مـُحاطة بمجموعة سلالم حلزونية متداخلة كالمتاهة ... من داخل الجـُمجمة تظهر إضاءة خضراء مختلطة بومضات فلاشر بطيئة يصحبها تصاعد دخان يتكاثف بالتدريج ... يظهر من خلال ذلك مجموعة من الأشباح تتصارع للخروج من داخل الجمجمة ...، ... )...وهكذا

ثم يبدأ بعد ذلك الوصف حواره الدرامي، لنرى أنه لا يـُقدم مسرحية وحسب، إنما يـُقدم حياة كاملة إلا قليل على المسرح، فهو يـُقدم ويـّعالج قضايا حياتية كبيرة، وقيـّم ومباديء تكاد تكون قد اختفت وتاهت وسط زحام واقعنا المـُعاش، كالشرف والأمانة، وذلك دون الوقوع في فخ المباشرة الفجة، وعبر تقديمه أيضاً لأنماط بشرية “ دون تسمية “ تابع الحوار الإستهلالى :
بائع 1 : روبابيكيا ...
بائع 2 : روبابيكيا قديمة للبيع ...
بائع 1 : بيانو قديم ... جرامفون ... لمبة جاز ... خلخال ... طيب واحد أفندي بطربوش ...
بائع 2 : للبيع ...
بائع 1 : موظف مابيرتشيش ...
بائع 2 : للبيع ...
بائع 1 : عيل صغيـّر بيحب أبوه وأمه وبلده وماببيكدبش ...
بائع 2 : للبيع ...
......... وهكذا، يأخذنا المؤلف إلى أحداثه دون أن يـُشعرنا بزمن أو مكان ما، ويـُحيلنا إلى واقعنا المصري والعربي المـُعاصرين على حدٍ سواء، دون أدنى مباشرة أو ابتذال، مـُحدثاً فينا نوعاً من السخرية المـُـرّة على ما يحدث في واقعنا من أزمات أخلاقية ومجتمعية، ... إنه يـُناقش قضية “ العولمة “ أو “ الكوكبة “ و “ القرية الكونية الكبيرة “ بطريقته التعبيرية تلك، ... فهو يفترض أن “ العولمة “ والقطب العالمي الواحد المتمثل في “ أمريكا “ قد نالت من قيمنا النبيلة، حتى أن هذه القيم قد انقرضت ولم يعد لها وجود في هذا العالم الدرامي ومن ثم الواقعى على حـدٍ سواء ...تابع الحوار :
رجل 1 : ( للبائعين ) انتوا عــُبط ...؟!
البائعان : ( معاً ) إحنا بندوّر بجد ...
رجل 2: تبقوا عـُبط ... وعليا النعمة عـُبط ... انتوا عارفين إحنا سنة كام دلوقتي ... فوقوا ... إحنا سنة 2000 ... يعني كل حاجة اتغيـّرت ...
رجل 1 : صح ... ومابقاش فيه حد بيلف في الشوارع زيكوا كده، ويدوّر على حاجات انقرضت من زمان ...”
إن إبراهيم الحـُسيني ــ كمؤلف شاب ــ يـُقدم لنا في مسرحيته “ الغواية “ منطقاً مقلوباً، فالقيم النبيلة المتعارف عليها، هي في نظره، القيم الخطأ، لأن القيم المنحطة قد حلت محلها، وأصبحت هي السائدة في المجتمعات المنهارة بفضل “ العولمة “ ...، ومن ثم يستحدث المؤلف موقفاً مفترضاً خيالياً وتعبيرياً في الوقت ذاته، ويـُسميه “ المتحف “، متحفاً للذين ظلوا متمسكين بقيمهم النبيلة، وبمرور الأحداث يتحول “ المتحف “ إلى مـُسمى آخر هو “ جزيرة الرفض “، والتي يجب على من يدخلها أو يسكنها أن يحفظ كتاب تعاليمها ... في إشارة صريحة إلى “ العولمة “ ...
وفى هذا المتحف الذى يقيمة الكاتب، نلحظ أن منهجه في “ مسرح الصورة التعبيرية “ يتضح أكثر فأكثر، فالمتحف مليء بكل ما هو قديم من تماثيل شمعية، كانت فيما سبق من أحداث هي نفسها الأشباح التي ظهرت من داخل الجمجمة الكبيرة، كما أن “ المتحف “ به ساعة مائية لمعرفة الوقت، ويكتظ أيضا بمجموعة من الأقفاص تحوي بداخلها مجموعة من البشر مازالوا متمسكين ومحافظين على قيمهم النبيلة، إنها سلسلة من الصور المتجاورة ودوال من الرموز الدالة...
 وفي واحد من المشاهد الفانتازية، يأتي المؤلف بسائح أجنبي ومعه مرشد سياحي، بالتأكيد هذا الأخيرـ المرشد ـ ينتمي إلى المجتمع الذي يـُسقط عليه المؤلف أحداثه، وهو المجتمع العربي ...
سائح 1 : هايل ... إحنا بنحب بلدكم قوي ...
المرشد : ودلوقتي ... خلصنا من الأنتيكات والعملات القديمة ... واللي بيعود تاريخها لأبعد من تلات تلاف سنة قبل الميلاد ... ونيجي دلوقتي لأحداث خاصة في متحفنا ( يـُشير للأقفاص الموجود بها البشر ) ... وهي عبارة عن بعض النماذج البشرية التي بدأت في الانقراض أو انقرضت بالفعل من المجتمع، ومتحف في ظل النظام العولمي الجديد كان له السبق على كل متاحف العالم، في إنه قدر يقتني أكبر كمية منها .......”
 ويبدأ المرشد السياحي في عرض النماذج البشرية، فها هي “ ست شريفة “ معروضة داخل قفص، وها هو “ رجل صادق “، وآخر “ رجل أمين لا يسرق ولا يرتشي “، ورابع زوجته خانته وتم طرده من وظيفته، لأنهم اكتشفوا أن هناك فائضاً في الميزانية، وآخر يسرق ويرتشي، لكنه اكتشف عدم جدوى ذلك، فتقرر وضعه هنا داخل تلك الأقفاص، لأنه قد حاد عن الطريق الصحيح من وجهة نظرهم ...
 ومع تأكيد المؤلف على توضيح المنطق المقلوب في عالمه الدرامي هذا، يأتي نائب حاكم المدينة كي يأمر بغلق المتحف البشري هذا ــ من خلال بيان لحاكم المدينة ــ يتم فيه نفي هذه المجموعة البشرية إلى “ جزيرة الرفض “ حتى يتم ــ وكما جاء في البيان ــ “ تأهيلهم ليصبحوا قادرين وصالحين للعيش معنا داخل هذا المجتمع ...” 
وكما فعل بنا المؤلف في فصله الأول “ فصل الفـُرجة “ من توصيف دقيق لمنظره المسرحي وما شابه، يفعل بنا في فصله الثاني “ فصل النفي “، حتى نستشعر أننا بإزاء جزيرة حقيقية، فصوت الريح والماء يتناهى إلينا ... و ...و...، حتى الملابس، كان له رأيا فيها، فاللون الأزرق مثلا هو لون الملابس العسكرية لحراس الجزيرة وقد يعنى ذلك شيئا ما، وقد خصص المؤلف هذا الفصل لمجموعة الممارسات التعذيبية النفسية لهؤلاء الحراس ومن ورائهم والتى تقع على مجموعة المنفيين،
فها هو أحد حـُرّاس “ جزيرة الرفض “ يأتي بـ “ مازن “ الذي كان فيما مضى مثقفاً وكاتبا ، ليجعله أراجوزاً، أو حكاءا للحواديت رغما عنه، فيضطر “ مازن “ للحكي خوفاً من التعذيب ... وفي حكي المؤلف على لسان “ مازن “، خاصةً في حكايتة عن الرجلين والمرأة، نجد أن الفعل الدرامي لديه، في حالة استمرار وديمومة لا تنتهى، فها هو “ مازن “ في أحد حكاياته يقول :
“مازن : [ يبـدأ في الحـكي، ومع بدء الحـكي تتلاشى البقع الضوئية بالتدريج ويتم تجسيد ما يُحكى ... ] كان فيه يا سيـدي بشر وناس كتير أول ما اتخـلقـوا كـانـوا متسـاوييـن وطـول بعـض ... [ يظهــر ثلاثـة (رجـــلان وامـرأة ) يقـفـون بجــوار بعـضهـم صفـاً واحـداً ويجـسـدون كـل مـــا يُـقـال .. ] وكـانوا كمان بيحـبـوا بعـض ... فـجــأة اكـتشــف كـل واحـــد منهــم رغـبـاتـه الخـاصـة وحـُب الامتـلاك جـواه .... دارت بينهـم خـناقـة ؛ كـل واحــد عـاوز ياخـد البنـت ليـه لـوحـده ... وزادت الخـناقـة، وزادت ... زادت ودهـسوا البنت وسطيهـم، وعـلى بال ما فـاقـوا من الخـناقـة لقـيوا البنت ماتت ... بكوا ... وزاد بُـكاهم أكتر من الأول عشان دي كانت تاني بنت تموت وهمه بيتخانقوا .... [ تـُضاء بـؤرة ضـوئيـة عـلى الجـانب الآخـر من المسـرح لنجـد فتاة أخـرى جـثـة هـامـدة ... ] ومن اللحـظة دي كـرهـوا بعـض، وبقى كل واحد منهم يتنكر في زي وحش مخيف عشان يخوف التاني منه ... مرة يكون الزي ده هو قـوته، ومـرة ذكاؤه، ومرة سلاح جديد اكتشفه، ومرة فكرة جديدة أو فلوس أو أي ثـروة تمكـنه من السيطرة على عدوه .... وكانت حشايش الغابة وزهورها وشجـرهـا وحـيـوانتهـا تتـأذى كـل يـوم الصبـح بمنـظـر الخـناقـة ومنظر الدم ... ولغـاية دلـوقـتي لسه الخـناقـة شغــالـة ...”
والمتأمل للحكايه يجد فيها سردا لفكرة ظهور الحرب فى التاريخ و ما يتبع ذلك من قتل للبراءة، وفي نفس إطار المنطق المقلوب، وكمحاولة أخرى من الكاتب لللتأكيد على غرس مفهوم “ العولمة “ في الواقعين : الفني والحياتي، يأتي لنا المؤلف وعلى لسان “ رئيس الحرس “ بهذا الحوار :
“ القـُبطان : ( بغيظ ) بقول أيه أحوال الجزيرة ...؟!
رئيس الحرس : ( منتبهاً ) آه ... آسف ... ( يـُشير بيده لأحد الحـُرّاس فيجري مسرعاً خارجاً ليأتي بمجلد ضخم ) ... أحوال الجزيرة طبقاً لكتاب التعاليم بفصوله المختلفة، تسير على ما يـُرام، كل فصل بيطبق زي ما هو منصوص عليه بالظبط في الكتاب ... برنامج التأهيل بنفذه بشقيه ... شق نزع المعلومات والاعتقادات القديمة، وشق إحلال معلومات واعتقادات جديدة مكانها ... أما برامج المعيشة من إقامة وطعام وملبس وفـُسح و ... فهي مـُطبقة بالحرف الواحد، احتراماً لحقوق الإنسان، وزي ما حضرتك أوصيت في الزيارة الكريمة إللي فاتت بخصوص توجيه الأحلام وجهة مفيدة، تم حقن أطعمة وأجساد المؤهلين للحياة بما يقوم بذلك، وتم التأكد لنا من فعالية هذه الحـُقن، فبمراقبة أحلامهم اتضح لنا أنها تسير في الخط الذي نريد ...”
وكأن المؤلف وبطرحه الفكري هذا، يجعل من “ المتحف البشري “، ومن “ جزيرة الرفض “ مـُعادلاً موضوعياً لما تفعله أمريكا بمعتقليها في سجن “ جوانتانامو “ العالمي ...إنه إستشراف كاتب لما ستؤول إليه مجريات الأمور السياسيه فى العالم خاصة وأن المسرحية مكتوبة فى عام 1998م..
ومع تقدم الأحداث، يأتي لنا المؤلف بشاب ثوري اسمه “ رفيق “، ويا له من اسم له دلالته القوية والمباشرة التي تحيلك إلى فكر وأيدلوجية الاشتراكيين والشيوعيين الذين كانوا يمثلون قبل العقد التسعيني القوة الثانية الكـُبرى في العالم، وذلك قبل انهيار الاتحاد السوفييتي في العام تسعين من القرن الماضي، وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بزعامتها كقـوّة واحدة وحيدة لهذا العالم ...
وها هو الشاب “ رفيق “ ـ كما ينص الكاتب ـ “ معلقا من ذراعية فى سقف المسرح تتدلى من رقبته سلسلة حديدية، تنتهي من أسفل بكـُرة حديدية تهتز بواسطة أحد الحـُرّاس كبندول ساعة، كلما اهتزت، يدق الجرس المـُعلق في الحلقة الدائرية حول رقبته ...
رفيق : ( يصرخ كلما دقّ الجرس ) الزهق والإحساس بالاستبداد هـُمه بداية الثورة ...”
 إن إبراهيم الحـُسيني كمؤلف يـُحرك مصير شخصياته على المسرح كيفما يـُريد، ويكتب المسرح كيفما يـُريد أيضاً، وعلى حسب منهجه الذي اتبعه منذ البداية، وهو منهج : الصورة التعبيرية ... فها هو المسرح مـُضاء تماماً، ثم يقوم بإظلامه، ويـُضيء بؤرة “ رفيق “ المـُعلق في سقف المسرح ...
“رفيق : لو ها تعيش ... أفضل ليك تعيش وراسك مرفوعة ... لو اتحنيت للريح عشان تعدي ... يبقى خليك محني على طول ... بس لازم تعرف إنك بكده ميـّت حيّ، ولو كنت حيّ ....”
 إنه ــ أي المؤلف ــ وعلى لسان شخصياته يـُمهد للثورة ... فها هو فهمي “ رجل الأعمال “ والذي يشبههه المؤلف ب سيزيف “حامل الصخرة “ يقول :
“فهمي : ضهري اتحنى م الصخرة ...... وحاسس إنه لو شالها تاني ها يتقطم، أنا مش ضلع في ثورة ... أنا حاسس إني أنا الثورة ... “
وها هما البائعان اللذان جعلهما المؤلف، ومنذ نهاية فصله الأول عجوزان، يـُرددان في نهاية فصله الثاني نفس ما ردداه في نهاية فصله الأول :
“ العجوزان : نبحث عن إنسان ... يعرف كيف يكون للرفض معنى حقيقي للثورة، ويـُدرك أبعاد العالم، ويقدر أن يـُعطي طفلاً صغيراً رغيف خبز وحلماً جميلاً ... ويـُعلمه كيف يـُحب الله والأرض التي نبتّ فيها، وأن يتعهد بالسـُقيا حبـَّها وحـُبها ... نبحث ... نبحث ... نبحث ... ( يتلاشى الصوت تدريجياً حتى ينتهي تماماً ) ...” 
إنها مجموعات متراكبة من الرموز والإشارات يحركها الحسينى بمهارة وينشأ عبر تجاورها منظومته النصية الخاصة،تلك المفتوحة على الواقع، ومثلما وصف المؤلف بداية فصليه السابقين وصفاً مسرحياً دقيقاً، يصف بداية فصله الثالث “ فصل الثورة “ بنفس الدقة والعمق والدراية التي عهدناها منه ...، ثم يبدأ هذا الفصل بإنقلاب داخلي بين أفراد قيادة “ جزيرة الرفض “ ...، فها هي “ ونس “ زوجة رئيس الحرس ومحظية القبطان في الوقت نفسه، تنقلب على زوجها وتأمر الحرس بإقتيادة إلى السجن ووضعه مكان الشاب “ رفيق “، والإتيان ب “رفيق “ إلى الساحة كبديل له، ثم ترتدي هي ــ أي ونس ــ زي رئيس الحرس ...، وتبدأ “ ونس “ في إقناع المنفيين / الثوار وعن طريق “رفيق “ نفسه بأنها معهم وليست ضدهم، خاصةً “ نورا “ و “ نائلة “، وتقدم لهم مبراراتها النفسية التي تجعلها معهم وليست ضدهم كما يظهر من حوارها التالى :
“ونـــس : نورا ... أنا مش في حاجة إني أقول أنا معاكم، وأنا في حقيقة أمري ضدكم، أنا اتهنت كتير من القبطان ورجالته، وحتى من جوزي إللي بيقدمني في ورق سوليفان هدية جميلة للقبطان، وإللي أعلى منه علشان يفضل في منصبه، خلاّني كرهته وكرهت نفسي ...”
بعد ذلك يبدأ المؤلف في تغيير مسار شخصياته، فـ “ نائلة “ التي كانت فيما مضى تـُحب الشاب “ إساف “، نجدها تقع في غرام الشاب / المـُخلـّص / الثوري / رفيق ... و ...، إلى أن يتفقون فيما بينهم ــ رغم تناقضاتهم الكثيرة ــ على تشكيل وأقامة “ دولة الرفض “ في نفس المكان على “ جزيرة الرفض “ ...
“الجميع : فلتسقط دولة الكـُره والاستبداد والغـُربة، دولة الدعارة والسرقة والكذب ... دولة الفـُرجة والنفي والغواية ... ولتحيا دولة الرفض ... والثورة والحرية ... ( يكررون الجملة عـدّة مرات ) ...”
وفي موضع آخر وبالقرب من نهاية “ فصل الثورة “ يرددون جميعا : “ يسقط كتاب التعاليم ...”
وبمجرد بداية الفصل الرابع والأخير “ فصل الغواية “ تأتي إلى الجزيرة الهيئة الدولية للاشراف على تخطيط وتنظيم المدن برئاسة “ إبراهام زيفاجو “، ومعه نائبه “ ديفيد كاري “، ومندوبيّ : الثقافة والصحة،،الزراعة،... هذا هو ظاهر الهيئة الدولية، أما باطنها، فهو الاحتلال الجديد ... فهاهو مازن / الشاعر / الروائي / المثقف ... ( يدخل وعلى وجهه علامات الدهشة والاستغراب ) ليعلن للجميع :
“مازن : إلحقوا ... دول جايبين معاهم أسلحة وقنابل، ومعدات حرب كثيرة ... مش ممكن يكونوا جايين للسلام وتأسيس دولة، والكلام الفارغ ده ... دول ليهم هدف معين ...
فهمي : هدف معين ...!! تقصد أيه ...؟!
سالم : احتلال جديد ... مفهومة ... ومش عايزه توضيح ... “
... إنها معالجة القضايا العالمية الكبيرة في المسرح المصري، يأتي بها إبراهيم الحـُسيني إلينا، لكني أجدني أختلف معه في الترتيب البنائي / الشكلي لفصوله الأربعة، فبدلاً من نهايته لمسرحيته بفصل الغواية الرابع والأخير، قد يكون من الطبيعي أن تكون النهاية بالفصل الثالث المعنون بـ “ فصل الثورة “ ...، فطالما أننا بصدد مسرح، فالثورة هي النهاية وليست الغواية، الثورة هي الأمل في المستقبل سواء في المسرح أو في الحياة، وقد يكون للحسينى رأيا آخر فى أن الغواية ـ غواية الأشخاص والمجتمعات ـ هى التى تعبر عن الراهن وكذا المستقبل ...
والتأمل لشخصيات إبراهيم الحـُسيني الدرامية يجدها تـُقاوم بالفن، الموسيقى، الغناء، الحجة والبرهان، من أمثال : إساف، فهمي، وسالم / المحامي، وأخيراً مازن / المثقف، إلى أن يتم زرع الشقاق بينهم، فتصبح مثلا “ نورا “ خائنة في نظرهم، لأنها أفشت أسراراً تخص دولتهم الوليدة، وذلك لصالح الوفد الأجنبي ورئيسه “ زيفاجو “، كما أنها تشككهم في خيانة الشاب الثوري “ رفيق “ لهم ولمبادئهم أيضاً ...
“نورا : ( وهي تتألم ) اسمعوني ... ساكتين ليه ...؟! أرجوكم ... دول بيتخلصوا مني عشان اكتشفت حقيقتهم ...
رفــيـق : مش قادر أصدق ...
نورا : انت تسكت خالص ... قناع ملاك وقلب شيطان ...
ونــس : الخاين لازم يموت بالرصاص ...”
تتفشى إذا الخيانة والتأليب والقتل وتفوح رائحته بين المجموعة، بتحريض من رئيس الوفد “ زيفاجو “ ورئيسة الحرس “ ونس “، لنرى “ إساف “ الشاب الصغير / الفنان يقتل حبيبته السابقة “ نائلة “ وتنتابه حالة جنون وهذيان، ... أما “ سالم “ المحامي فنراه يرتدي ملابس بيضاء شفافة وحذاء أبيض بلون الجسد في إشارة من المؤلف إلى تغيير جلده بالإرتداد إلى الماضى السحيق ليصبح معبرا عن التاريخ والنبوءة أكثر مما يعبر عن كونه شخصية درامية : 
“ سالم : وفيهم من سيصلب لأنه فقد نسخته من كتاب التعاليم الكبير ...
( يدور فهمي ومازن داخل المكان بحثاً عن نسختيهما من كتاب التعاليم، فلا يجدا إلا نسخة واحدة يمسكاناها معاً ...
فهمي : ( متلعثماً ) مازن ... هيه دي نسختلك ...؟!
مازن : ( متلعثماً هو الآخر ) بيتهيألي ... أنا فاكر إني حطيت نسختي هنا ...
فهمي : أنا كمان فاكر إني حطيتها برضه هنا ...
( يمسح كلٍ منهما العرق المتصبب منه، فإذا به يلوث وجهه، فدفتي الكتاب مدهونتان بخليط من الألوان، مما يصل بهما إلى التشويه الكامل ... ) “
... إنه الخلط وعدم التمييز والتداخل بين الأشياء والوجوه والأفكار، وكل شيء ما من شأنه أن يجعل الإنسان مـُشوهاً ومـُشوشاً ... و ... و ... إلى أن يدخل رئيس الحرس القديم وزوج “ ونس “ ليخطف منهما الكتاب مـُدعياً أنه كتابه هو، أو بالأحرى نسخته المفقودة منه ... وبهذا الخلط وعدم الفهم، ودخول الشخصيات إلى دوائرها اللانهائية، يـُنهي المؤلف مسرحيته كما بدأها، وذلك على لساني العجوزين / البائعين، واللذين يـُحملهما مقولتيه : الفكرية والفلسفية، مستغلا بذلك تقنية “ الجروتسك “ الدرامية، وهي المبالغة الكاريكاتورية المعنية بالتضخيم في كل شيء ؛ من أداء وصورة مسرحية، وصولاً إلى التأكيد على منهجه الذي اتبعه من البداية، فها هي أصوات العجوزين / البائعين في مونولوجهما تتناهى إلينا جنباً إلى جنب مع الصورة المسرحية ومجموعة أخرى من الأصوات آتية من فضاء المسرح، نجدها جميعا تردد مع قفل الستارة : 
“ ص 1 : روبابيكيا ...
ص 2 : عرب للبيع ...
ص 3 : ناس بجد للبيع ...
ص 4 : تاريخ قديم للبيع ...
ص 5 : وتاريخ جديد برضه للبيع ...
ص 6 : وطن حقيقي للبيع ...
ص 7 : جنة تايهه مننا للبيع ...
ص 8 : طب نار بس بتاعتنا ... للبيع ...
ص 9 : كله للبيع ...”

تتمة
 


محسن العزب